عبدالله البقالي - شتان بين عبد الكريم و رجاله.

" كيو" كان على عتبة الرجولة حين رأى أولئك الرجال ذوي الجلابيب القصيرة المحببة و الواسعة، و العمم الصفراء الضخمة يقتحمون البيوت، و يصادرون كل ما هو مخزون فيها من حبوب و زيوت . وهو أمر وجده لا يليق بمعاملة حليف لحليفه.
مشهد جدته و أمه وهما تتوسلان المقتحمين كي يتركوا ولو القليل من الزاد للاطفال لم يغرب عن باله أبدا. و لذلك لم يشعر بأي حرج حين تفاعل مع صرخة عبدالرحمن الدرقاوي " اللهم نصراني للدار، و لا ريفي للدوار " كما أن ذلك دفع به للتطلع و المراهنة على القادم مهما كان مغرقا في الابهام و التساؤل.
هل كان كيو بذلك قد لمس من غير أن يدري الخط الفاصل بين الوعي و التيه؟ وهل كانت الصدف هي التي جعلت منه رصاصا ليجد نفسه داخل عالم الأغراب القادمبن من وراء البحر ؟
حين استدعي أول مرة لإنجاز مهمة في حي الأجانب الواقع غرب القرية، توقف عند البوابة و قرأ بعضا من السور مستعيذا من مكر الشيطان. و توقع في كل خطوة أن يصادف الرجس مجسدا بشكل ما، و حفز حواسه مستنفرا إياها كي تكتشف كمائنه التي قد توقعه في الغواية.
كان المطلوب منه أن يمد بعض القنوات في قلب حديقة. و مع انهماكه في العمل، ظلت حواسه مفتوحة على كل ما يحيط به. يلتقط نبرات الأصوات و الحوارات. أذهلته طريقة التواصل بين الأزواج. أثارته المساحات التي تولى للأطفال و كيف يسخر كل شئ من أجل خدمتهم. التقط صوتا صارخا بالأنوثة. فرغب في أن يلقي نظرة. خاف من التأويلات.
أنس مع الوقت عالم الأغراب الذي انفتح له و لم يعد مجرد ممر عبور.كل شئ فيه وجده مختلفا عن المعتاد. وكل جزء فيه وجده يشكل إضافة. و مقابل كل صورة كان يراها أو خطوة يخطوها فيه، كان يشعر و كأن الأرض انشقت و لاحت منها نتوءات هائلة تبعده عن الجزء الآخر من الجهة التي يعيش فيها الأهالي.
كان العالم ينقسم لديه إلى مسلمين و نصارى. مؤمنين و كفارا. حلفاء الله و حلفاء الشيطان. لكنه وهو في عالم الأغراب وجد أن كل أفكاره السابقة لا تختلف في شئ عن البرد الذي تخلفه أجواء باردة في ليل شتوي. مع أول تسللات أشعة الشمس، ينتهي كل شئ.
على سطح ربوته التي كانت تسمق كل يوم كان يجلس. يتأمل و يمعن النظر في إيقاع مختلف للزمن، و تفاعل عجيب غير مسبوق للبشر. علاقة الناس بالناس. حوار الكبار مع الصغار. حديث تواصل الازواج. علاقة الآدميين بشيء اسمه القانون و الطقوس. ادراكه لأول مرة وجود شيء يسمى المسؤولية و الالتزام. و في نهاية كل جلسة كان ينتابه اليقين أن حي الغرباء لا يقع في الجهة الغربية من القرية، بل في كوكب بعيد لا يعرف له اسما. لكنه يعي ان قوته ليست كامنة في آلياته و جيوشه، و إنما في الحياة التي يحياها و الكيفية التي هيكلت بها تلك الحياة. و من ثم أحس بالإشفاق على نفسه و على الآخرين في القدم كما في الحاضر، مع خوف شديد من المستقبل. خصوصا إن كان سيد الجبل هو من سيأتي ماسكا بخطامه.
هو يعرف جل من لاذوا بالجبال. لا أحد منهم مر بمدرسة. و مراتبهم حددتها القدرة و التفاوت في ممارسة البطش و الترهيب، فإن صاروا هم قادة المستقبل، كيف سيهيكلون الأزمنة ؟ و ماذا يعرفونه عن القانون و المسؤوليات؟
سيد الجبل هو تاجر كيف. اشد ما كان يخشاه هو ان يتم اعتراض بضاعته التي كان يؤجر عشرات الرجال لحملها عبر طرقات شاقة و طويلة. وهو ألف مواجهة اللصوص و قطاع الطرق . و بطشه الأشد كان بمارسه على رجاله الذين كانوا يهابون المواجهات و يفرون متخلين عن بضاعته. و لذلك تحولت رحلاته الى ما يشبه تحرك قوافل عسكرية . اي ارتطام لها مع غير المتوقع، كانت تخلف معطوبين و دماء و احيانا قتلى
لكن الفرنسيين كانوا افضل تجهيزا، و نجحوا في شل حركته. و لم يتبق له من خيار سوى ان بنصب نفسه مناهضا لهم. مدعوما من مجموعات كانت تبحث عمن يتزعمها في الميدان.
المفارقات كانت تصعق كيو. عقلانيته المتنامية كانت تجعله يرى ما لا يراه الناس. و لذلك كان يفرك عينيه ليرى على صفحة القمر ما يراه الناس و لا يراه. يتجمع الناس حوله. يشيرون بأصابعهم . و حين يتأكد من ان بصره سليم، ينتفض في وجوههم صارخا : لن اصدقكم حتى لو كان هذا المعكوس على سطح القمر وجه تثبت نبوءة نبي.
ينتشر الهمس حوله . و يلمس الرياء التي تنطق بها العيون . و ترتفع الحناجر ساخرة منه منادية بإرجاع المنفي. ساعتها كان غضبه يتأجج و يرفع صوته الى اقصاه صارخا: سيحيى هذا الذي تهتفون و تنادون بحياته. لكنكم ابدا لن تفلحوا في اجتثاث جذوره يوم سنطالبون باقتلاعها...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى