أحمد رجب شلتوت - الآخر ".. قصة قصيرة

ثمة صوت يبدد سكون الليل، يبدأ خافتا ثم يعلو رويدا رويدا. يشبه صوت دقات الساعة في رتابته وانتظامه، لكنه ليس صوت دقات الساعة.
أبحث عن مصدر الصوت الذي استفزني، أريد أن أخرسه، أظل أبحث حتى أجده، رأيت رجلا يعتلي جدار منزل قديم، يمسك بمعول، يضرب به الجدار، ويظل يضرب حتى يئن الجدار ويتهاوى، تتساقط الأحجار من الجدار، ترتطم بالأرض، فيتناثر الغبار ويتعالى حتى يحتل المكان كله. يضيق صدر الرجل فيسعل، ويبصق بينما المعول لا زال يضرب الجدار. والجدار يئن ويحدث به شرخ، والشرخ يتسع كلما تواصل الضرب، حتى يصبح كفم وحش خرافي.
يظل الفم المفتوح متربصا حتى يتهاوى الجدار، فيبتلع الرجل ومعوله، رجال آخرون يصرخون، صراخهم يقتل صمت الليل، وييظل يعلو مذعورا يائسا حتى يبتلعه صوت ارتطام ما تبقى من الجدار بالأرض.
***
أهرع مع رجال كثيرين إلى المنزل القديم الذي أصبح مقبرة، نرفع الأنقاض وجثة الرجل الذي مات وهو قابض على معوله، نخلص يده من المعول ونذهب به إلى مقبرة أخرى أكثر عتامة، لكن شيئا ما دفعني إلى العودة، ظللت أبحث بين الحطام والركام عن شيء ما لا أعرفه، لم يكن هناك إلا التراب وبعضه اكتسب لزوجة ولونا داكنا من أثر اختلاطه بالدم، لكن واصلت البحث.
***
كان التراب طريا، فالدم لم يجف بعد.
وجدتني أمد يدي، أجمع كل التراب المتشرب بالدم، أصنع منه شيئا يشبه الدمية، لا ليس دمية، بل هو الرجل صاحب المعول، أشعر بكراهية تجاهه، لا أعرف لماذا؟، حقيقة لا أعرف سبب كراهيتي له، ولا أعرف حتى إن كان يشبه الرجل الآخر أم لا يشبهه؟، لم أتفحص ملامحه، الضوء الشحيح في الليل لم يدع لي فرصة تأمل ملامحه، لكنه ربما يشبه ذلك الآخر الذي أقلقني بضربات معوله. ربما يشبهه.
***
أضغط رجل الطين المتشرب بالدم بين أصابعي، يفاجئني تأوهه الذي يعلو كلما واصلت الضغط، يصبح التأوه صراخا، الصراخ يصيبني بالفزع فأرمي الرجل وأجري مبتعدا.
أظل أجري حتي تخور قواي فأقف مضطرا، أنظر خلفي فأكتشف أني لم أبتعد كثيرا.
يأتيني صوت رجل الطين المتشرب بالدم، يناديني، يطلب الغوث، شيىء ما بداخلي يدعوني لأن ألبي النداء، أقترب منه، أرفعه عن الأرض، أحدق فيه، أتبين ملامحه، أجده يشبهني، لا، الأمر ليس مجرد تشابه، أكثر كثيرا من ذلك، إنه أنا، نعم هو أنا.
يبتسم حينما يتأكد من أني تعرفت عليه، أسأله:
_ هل كان الآخر أنا؟
يواصل الابتسام، يمد يده الصغيرة مصافحا، تفزعني حركته، فأرميه وأجري مبتعدا، وكلما نظرت خلفي أجده يطاردني، يتعقبني، فأظل أجري ولا مفر، لا مفر.






" من مجموعة دم العصفور، 2001 "
  • Like
التفاعلات: نبيلة غنيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى