منذر ابو حلتم - سقف المغارة ..

كانوا يحيطون بك .. ينظرون إليك بحب وألم ، وأنت ممدد على أارض المغارة . يتحركون جيئة وذهابا" .. تحاول أن تبدو طبيعيا" .. لكن الألم شديد .. شديد جدا" ، وعرق بارد غزير يغطي جسدك المرتعش .
تمد يدك ببطء .. تتحسس ساقك ، خدر عميق يتسلل إلى كل جسدك .. وهذه الرعدة اللعينة .. إنك ترتعش ، تحاول أن تتمالك نفسك .. أن تكبت هذا الارتعاش .. ولكن ..

يضع أحدهم قطعة قماش مبللة بالماء على رأسك ، ضوء السراج الشاحب ينعكس على وجهك القلق ، تسمعه يهمس :

- إنه يشتعل .. الحمى تكاد تقتله
تشعر بالدوار .. وعلى سقف المغارة تدور الصور في دوامة غريبة .. الشارع يمتد طويلا" .. بلا نهاية .. شبان كثيرون تعرفهم جميعا" حتى وإن كانوا ملثمين ، دخان الإطارات المشتعلة يشكل سحباً سوداء تحجب سماء الخليل الصافية .. طائرة مروحية تقترب .. تحوم فوق الشبان كدبور أسود كبير .. جنود كثيرون .. يقتربون ، يتمركزون على مداخل الشوارع والأزقة ..

- اضرب ..! صاح صوت تعرفه جيدا
- اضرب ..! تصرخ أنت أيضاً .. حجارة .. حجارة كثيرة تطير بقوة نحو الجنود .. الطائرة تمطر سحاباً أبيض كثيفاً ..
- تجمعوا عند الزاوية .. لا تدعوهم يدخلون
سيارة ( جيب ) عسكرية تزمجر قادمة بسرعة .. تطارد شابين ، وعند نقطة معينة يتوقف الشابان ثم يتفرقان .. السيارة تنحرف بجنون .. صوت فرامل .. ثم تهوي في الوادي القريب ..
- ضع الزيت على المنعطف الآخر !
سقف المغارة يقترب .. يقترب .. يكاد يسحقك .. وهذه الدوامة اللعينة ..
يتناهى إليك صوت أحدهم : - تأخر خالد .. يجب إخراج الرصاصة فورا" ..
دوامة الصور تدور على سقف المغارة ، رصاص .. رصاص كثيف.. تتلفت حولك
- استشهد وليد !
رصاص وسحب بيضاء خانقة .. تشعر بالغثيان والاختناق .. تزيل اللثام عن وجهك وتركض ، سيارة عسكرية تصعد الشارع .. إطار يشتعل قربك ، تتناول الإطار بقضيب حديدي وتدحرجه نحو السيارة .. السيارة تنحرف وتصطدم بعمود الكهرباء .. ثم .. آخ ..!! كتلة من اللهب تخترق قدمك .. عند الركبة .. ترتفع الأرض إليك ..ترتطم بك بقوة ، يجب أن تنهض .. لن تسمح لهم بالقبض عليك .. تقف .. تقفز على قدم واحدة .. الدم يسيل بغزارة .. الجنود يطاردونك .. حجارة .. حجارة كثيرة تحاصرهم من كل الجهات .. يتراجعون .. أيادٍ كثيرة تمتد إليك .. تحملك ، تنظر إلى عيونهم .. إلى وجوههم الملثمة .. تبتسم .. ثم تغيب عن الوعي ..!

- اشرب .. ستنفعك الميرمية !

تحاول أن توقف دوامة الصور .. تتشبث بالواقع ، تجيل عينيك الملتهبتين في أرجاء المغارة .. ضوء السراج الشاحب يجعل التخلص من الدوامة أمرا" صعبا" .. تقول بصوت هامس مبحوح :

- أعطوني سكيناً .. سأخرج الرصاصة بنفسي !
يخيم الوجوم عليهم .. يدخل أحدهم فجأة

- جاء خالد !
تنظر إليه فيتابع : - طالب في كلية الطب .. شيء خير من لاشيء
يدخل خالد ، يحيطون به .. يسأله أحدهم
- ألم يتبعك أحد ؟؟
- اطمئنوا .. جئت عبر الأحراش .. أحضرت معي المشرط وبعض الكحول .. أشعلوا النار .
ينظر إليك .. - ليس معي مخدر .. لكنك ستتحمل أليس كذلك ؟
تنظر إلى السقف بتحد عنيف .. صورة واحدة يجب أن تسيطر على عقلك المشتعل .. أختك هدى ..! المشرط الملتهب يقترب من مكان الرصاصة .. يخيم الصمت .. أختك هدى .. لقد قتلوها .. لقد تألمت اكثر منك .. يرتفع صوت الحديد المحمى وهو ينطفئ في اللحم .. آخ ..!
- أخرجتها ...
يصفق الشبان .. أحدهم يقول : - سنشرب شاياً بهذه المناسبة ..! ويسرع لصنع الشاي ..
يقترب خالد .. يضع يده على جبينك ويقول :
- لم تصرخ .. أنت رجل حقيقي ..! يبتسم .. يشد على يدك ويهمس :
لا وقت للألم يا صديقي .. لا وقت !
تنظر إليهم .. إلى عيونهم ، يناولك أحدهم كأس الشاي .. تنتشر في المغارة رائحة الميرمية .. أيها الأصدقاء الطيبون .. من منكم سيستشهد غداً .. ومن سيبقى ؟! .. تنظر إليهم وتشعر أنك قوي .. قوي جداً .. وتبتسم ...!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى