أسامة حويج العمر - الرأس المائل

ذات صباح، وبعد ليلة مشحونة ببروق الكوابيس، استيقظت من نومي بقرفٍ ، وبدأت بتدليك رقبتي التي أصابها التصلُّب ربما لأني نسيت إغلاق نافذتي المطلّة على الشتاء والبطالة. رأسي كرحم امرأةٍ حبلى بأربعة توائم مشوهة! أسير باتجاه النافذة بعدما زررت ياقة البيجامة جيداً، أتأمل الأشجار المنتصبة على جانبي الطريق، السماء تلقي برذاذها المتسرب من الشلال الأبيض المتجمد، طفل يركض خلف قطةٍ صغيرة لا تلبث أن تختبئ تحت إحدى السيارات، من بعيد يظهر قاسيون معانقاً الأفق، بدا كماردٍ أجلسه التعب.. خُيّل إليٌّ أنه يلهث.. ولكن ما الذي يدفعه للهاث؟ فجأة، يُزلزلُ رعدُ صوتٍ يهز أركان الحي: غاز.. غاز!

أنظر ناحية اليمين بذعر، كانت سيارة سوزوكي فيها اسطوانات الغاز وفوقها رجل ضئيل الحجم أسمر الوجه يضع على رأسه طاقية سوداء لاكها الزمن، ينظر في جميع الاتجاهات ولا يلبث أن يتابع بصوتٍ أعلى من ذي قبل: غاز.. غاز.. ياللهول! أيها الرجل الضئيل.. من أين تأتي بمثل هذا الصوت الذي يبدو وكأنه قُدٌّ من جبال همالايا؟!! وشعرت بشيء من الغيرة أنا الذي يبدو صوتي ضعيفاً حتى مع استعمال مكبّر الصوت!

لفحتني نسمة باردة حركت راكد المشاعر المختلطة، صاحب المنزل الذب بعث إليٌّ آخر تهديداته ليلة البارحة : لقد تأخرت ثلاثة أشهر عن دفع الإيجار.. سأمنحك مهلة يوم واحد وإلا..، زوجي التي هجرتني بسبب فقري ومرضي، ابنتي الصغيرة هبة، هذه الطفلة الجميلة التي اشتقت إليها كثيراً.. والبطالة! هذه الساحرة الشريرة التي تقف لي بالمرصاد أينما ذهبت وأنىّ تحركت.. هذه العجوز الفاجرة التي تطاردني في صحوي ومنامي، لم أتمكن من إتمام أسبوع واحد قي أي عمل استلمته، صاحب متجر الملابس طردني لأنني متكبر وبطيء الحركة، وصاحب المزرعة العجوز طردني ولم يلبث أن طاردني حول المزرعة حاملاً العصا لأنني كنت آكل من التفاح والأجاص والخوخ أكثر بكثير من الكمية التي أقدمها له ولغائلته، أما أبو أحمد صاحب أكبر محل لكيّ الملابس في المدينة فقد وصل به الأمر لمطاردتي والمكواة المحمّاة على نار جحيمه بيده لأنني أحرقت ما يزيد عن أربع قطع ملابس ما بين بنطال وقميص وسترة، الأمر الذي عرّضه لألسن أصحابها المحمّاة ورغم الوساطات الكثيرة لم أتمكن من العودة للعمل لديه.

نسمات باردة تتقاطر إليّ ، تتغلغل في خيالي المتشرد في كل مكان فتجمده عند أيكةٍ من أيكات الماضي الفاتنة والحزينة، فدوى.. تلك الفتاة الحالمة ذات العينين الخضراوين والبشرة الحنطية، ما أكثر ما كنت أنهل من كوثر ضحكاتها، لكنها هجرتني فجأةً ودونما سبب.. دون حتى أول حرف من كلمة" وداعاً". نسمات شديدة البرودة.. رياح قطبية تجمّد خيالي وتحركه كيفما تشاء، يحطمه فجأة زعيق البائع المتجول: بطيخ.. بطيخ..! ترتسم على شفتيّ ابتسامة باهتة: أمِن أجل كلِّ هذا الحزن خلقتني يا إلهي؟! الكرة الأرضية بطيخ.. المستقبل بطيخ لا يعلم أحد ماذا يخبئ بداخله، القدر يجلس على أريكة وثيرة وينظر إلينا بعينين نصف مغمضتين حيناً.. وبعيون مفتوحة عن آخرها أحياناً.

رأسي منفضة سجائر في قبو يقطنه مراهقين نبذهم المجتمع.. هل أنا إنسان فاشل؟ ربما.

أغلقت النافذة جيداً بعد أن بدأ المطر يتساقط بغزارة، أرهقني البرد الممزوج بحرارة الحزن، أشعلت نار المدفأة ثم توجهت إلى المغسلة لغسل وجهي بالماء والصابون، لكنٌّ وجهي ظهر على المرآة بوضعٍ مائل! حدّقت جيداً.. تملكني الذهول، تحسست رأسي ورقبتي بذعر: ليس فيهما ما يدعو إلى الريبة، فحصت إطار المرآة.. ليس فيها أيُّ ميلانٍ فسألتها بصوتٍ شوهته الجروح: ما هذا.. ما الذي حدث؟ أجابتني قائلة: أنا أنقل الواقع بأمانةٍ تامة !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى