د. إيمان الزيات - الفتاة التي تركض بمعطف ثقيل.. قصة قصيرة

بسرعة رفعت قدمي المتشنّجة التى غاصت منذ قليل في بطن الفأر الميت التى اعترضتني؛ فحرَّكتْ رأسه البارزةُ قواطعها ويداه القصيرتان كأن الحياة قد دبت فيه من جديد، للحظة خُيِّل إلي من حركته المفاجئة تلك أن ذلك الجسد الضئيل الممد أسفل مني على الرصيف الخرساني بجوار فتحة البالوعة كان مصدر الصرير الذي سمعته منذ قليل واصطكت بعده أسناني.

خليط من الذهول والتقزز سد أنفي، وأغلق حلقومي بشكل لا إرادي، رحت أنظر لقدمي المتورطة ولا أعرف ماذا أفعل فيها، فحكّها في الأسفلت ووسط كومة الورق اللائذة بساق الكرسي الرخامي مرات متتالية لم يقنعني بأن لا شئ يعلق بها من أمعاء الفأر المبقور!

نفير القطار الوحيد أوجفني، دفعني بزجرته التى مزقت قلب الليل، وبصوت عجلاته المتكاسلة التى تتمطى كي أخطو بساقي المرتعشة فوق الجثة المستسلمة.

الإشارة المتقاطعة ذات الأعين الحمراء التي تتناوب الومض والانطفاء، تدق بعنف كمؤقت يذكرني بقرب انتصاف الليل وببيتي البعيد الذي ينتهي عنده شريط القطار، تركت جانبي معطفي الثقيل يرفرفان حولي ورحت أجري راضية عن احتكاكات حذائي الاضافية بالرصيف، تفصلني عن الباب الأخير للقطار المغادر بضع خطوات لا يقللها ركضي، مددت ذراعيّ بتضرع وتعلقت بالذراع المعدني، قفزة يئوس أصبحت بفضلها لقمة سائغة في جوف علبة الصفيح الصدئة تلك.

ثلاث عربات اجتزتها وأنا أترنح ولا أثر لمخلوق حتى الآن! الظلام كما هو دامس بالخارج والصقيع الداخل يعوي من الشرفات والأبواب المفتوحة على آخرها.

هل أكمل ترنحي حتي أصل لعربة السائق..؟ ستؤنسني على الأقل فكرة وجوده معي في مكان واحد، إنها المرة الأولى التى أبقى في (المول) حتى وقت كهذا..

“سامحك الله يا سامر، طلبت منك مراراً أن تنزل من بيتك مبكراً قليلاً كي تصل في موعد “شيفتك المسائي”، لكنك في كل ليلة تدخل بابتسامتك المملة مع آخر نقطة من دمي الذي احترق وأنا في انتظارك”، والآن حدث ما كنت أخشاه.

*

كنت أهمّ بالمضي قدماً نحو العربة التالية لكنني لمحته آتياً من العربة الأخرى كأنه يبحث عن أحد فتنفست الصعداء، أخيراً وجدت من يؤنسني، جلست عند أول كرسي، أضم المعطف ضمة لائذ وأراقب تقدمه البطئ، لعله يجلس هو الآخر مستأنساً بوجودي.

بنحافته الملحوظة وطوله المبالغ فيه سار ثم جلس غير بعيد بعد مقعدين من الباب الفاصل بين عربتنا والعربة التالية التى جاء منها، نظر في اتجاهي طويلاً، وانتظرت أن يخفض عينيه لكنه لم يفعل، ربما أكون أنا من تقطع الطريق على نظراته المسترسله، أو ربما يريد هو الآخر أن يشعر بالألفة، أشحت بوجهي عنه، ورحت أبحث في جيوب المعطف عن هاتفي النقال لأطمئن أمي، أزراره صامتة وشاشته بلا ضوء، لا فائدة منه فالبطارية فارغة، أعدت الهاتف الأخرس إلى جيبي وحاولت شغل الوقت بالنظر خارج الشباك لكنني لم أر سوى وجهي المتجهم العبوس منعكساً على زجاجه.

تفرست في الظلام ورحت أتذكر قصة جارتي (سعاد) التى سرقوا هاتفها وقرطها الذهبي الأسبوع الفائت في القطار وعن حالتها حين وصلت لبيتها، كانت ترتجف وتتحسس جسدها من حين لآخر كمن تريد أن تتيقن من وجود كل جزء فيه.لا أعلم لمَ وضعت يدي بطريقة لا شعورية على قرطي وجيبي لأطمئن أن كل شيئ في مكانه ونظرت للجالس في آخر الرواق، نظرته التى لا تنكسر مريبة لكن على كل حال لا يبدو عليه أنه سارق.



تجولت بناظريّ في المكان، مبتغية تغيير مشاهد الشباك الظلامية، لم يختلف الأمر كثيراً كل شئ رمادي وبارد، “من الأسود للرمادي يا قلب لا تحزن” الأرضية والكراسي وهيكل العربة الداخلي، المراوح المعطلة بالسقف تعزز شعوري بالصقيع، والراكب الفضولي الذي لا يمل من التحديق، بعنقه المحاط بكوفية ورأسه التى بدت كنقطة على جسده الناحل جعلته أشبه بعلامة تعجب مقلوبة.

كانت اليد الحمراء الموضوعة داخل صندوق زجاجي مكتوب تحته “فرملة الطوارئ” هي الشئ الوحيد المطمئن في هذه العربة المزعجة.

غطاء حديدي معلق على واحدة فقط من مفصلاته فوق الباب المجاور لي لا أعرف وظيفته ولا أرى شيئاً ينم عن الأهمية خلفه كلما تأرجح، كل ما أعييه أنه لا يكف عن الارتطام الذي يفلق رأسي نصفين، أما يكفي صداع الزبائن ومشرف الممر؟! أضع كفي على أم رأسي مربتتة على الوجع، أكاد لا أصدق حظي العاثر الذي جعلني أقف في “بارتيشن” الخضار، “أووف” سئمت تحذلق رواد “المول” وأياديهم المتطفلة التى لا تكف عن ملامسة الثمار غير مدركين أنها قصمت ظهري إلى أن انتهيت من رصها على هذا النحو الذي لم يعجب مستر (حاتم) يوماً، لكنه جذب تلك الشمطاء التى سبقت يدها تحذيري فسحبت ثمرة المنتصف من بين الصفوف وحولتها إلى كومة متدحرجة، رحت ألاحق ما استطعت منها وألتقطته من بين أقدام زبائن “المول” البُلداء، ثم أفرغتْ ما تبقى في جعبتي من صبر حين قالت: “سوري” ومضت دون أن تأخذ ما اجتذبها وبُليت بها من أجله، وقفت كـ (سيزيف) أعيد ترتيب كل شئ من جديد، وأحبس أنفاسي بعدها كلما وقفت زبونة جديدة قبالة طاولات الخضار اللعينة المائلة.

ابتسامة الرفيق المحدق تقلقني لا أعرف لماذا تلح على عقلي أسماء العفاريت والغيلان كلما نظرت له “أبو رجل مسلوخة” لقب يليق به.

تشاغلت عنه بالتفرس مرة أخرى في شباكي لا أمل في رؤية أي شئ على الأرض، رفعت رأسي نحو السماء التى كانت بلا قمر، وقبل أن أخفضها لمحت وجهاً آخر على زجاج شباكي، بسرعة استدرت فإذا بالرفيق يقف ورائي مباشرة كقوس مقعر، ندت عني شهقة لا إرادية ورجعت برأسي للخلف مبتعدة عن نظراته المتفرسة، في البداية لم أر سوى محجرين غائرين في جمجمته وبعد ثوانٍ لمحت حركة طفيفة من نقطتين بداخلهما.

سألته باستنكار: ايه يا حضرت؟!

زاد من ميله ووسع ابتسامته البُنيَّة، ثم انبعث من بين أسنانه التى عاث فيها السوس فساداً رائحة كريهة وضعت بعدها يدي على أنفي كي أتقيها دون جدوى، الوجل بدأ يرجفني، كررت سؤالي بصيفة أخرى علّه يرد: عايز ايه..؟

فتح فمه ليتكلم لكن القطار العكسي إلتقم صوته ولم أعد أرى سوى فراغ فمه المظلم وهو يضيق ويتسع، كان كل شئ يشَّقق ثم يتحول لرماد بعد أن يلمسه،

طرف المقعد اشقق ثم تلاشى، المقبض المعدني يتلاشى الفاصل الخشبي بيني وبينه يتلاشى. عيني التى تحسب المسافة بين خطوته التالية وبين فرامل الطوارئ تكاد شعيراتها الدموية تنفجر، أنفاسه لفحت خدي فتيبس متأهباً للتحول إلى رماد..

حين تحركت للخلف محاولة الابتعاد عنه قدر الامكان لفظ كيس الخضراوات الذي جلبت فيه كل ما طلبته أمي، رؤوس الثوم من فوهته فوترت النقطتين في عيني المخلوق الذي فزع ورجع للخلف، كانت فرصة جيدة للركض، انحنيت ألتقط أحد الرؤوس البيضاء على سبيل الحماية، ثمّ أطلقت ساقاي في الممر الذي استطال بالفزع، عيني على المقبض الأحمر، وعيناه عليّ، لماذا لم يعد القطار يقف في أي محطة؟!

عرقلة في شريطه أخلّت بتوازني، ترنحتُ وارتطمتْ رأسي بقوة في العامود المعدني ، طارت رأس الثوم وخرجت ساقطة من الشُّباك محرزة هدف النجاة وكنت أنا الخاسرة، أرى الصور بعد الارتطام متميعة من خلف زجاج وعيي المغبش.

صرخةٌ مروعة شقتت بها صدر الصمت بعد اقتلاعه لذراعي الأيسر، صار الألم أخاً لخوفي الكبير، ثبتني على الحائط بأظافره السوداء المتعرجة، وراح يقلب في الذراع غير مسرور به، جحظت عيناي في غير تصديق وأنا أراه يلقي بذراعي فيبتلعه فم الطريق الأسود خارج القطار.

غيرتْ نقطتي عيناه مؤشرها نحو ذراعي الأيمن كان اقتلاعه هذه المرة أسرع، أغمضت جفوني على بؤبؤتي عينيّ اللتان كادتا أن تنفرطا، شبّ الألم الذي لم أعد أقوى على احتماله وبلغ مبلغ الرجال بداخلي، ذراعي الأيمن الذي أضم به أمي وبه ألملم ما يسقطه الزبائن على الأرض، وأعاود الرصّ لآكل، كيف سأعيش من دونه؟!

بدا صوتي متذللاً وأنا أرجوه قائلة: كفاية كده!

لم أكن أعرف أنني مازلت مطمعاً إلا حين لف جديلتي حول العمود ليعلقني فيه، ثم فتح أذرعه الأربعة على جانبي جسده منتزعاً ساقيّ معاً وملصقاً إياهما بجنبيه، دار على أربعته مجرباً ساقيه الجديدتين ثم راح ينهب السقف والحوائط من حولي ذهاباً وإياباً بقوائمه الجديدة والقديمة، مبتدئاً كل دورة بي ومنتهياً عندي.

لم يعد لدي نبض كي أصرخ، كدت أغيب عن الوعي تماماً حين ركض القطار ككلب مسعور كانت نهاية احدى دورات المخلوق عندي حين حلت جديلتي وسقط كيس الملح وتناثر في أرض العربة وفي الهواء وفي وجه المخلوق الذي عوى ولم أجد له بعد ذلك أثر.

توقف القطار لا أعرف أين، ودحرجني خارجه بفرملته العنيفة كثمار المول التى سقطت هذا المساء، ثم وقف ساكناً كميت دون حراك.

على يديّ وقدميّ رحت ابتعد عن الباب مخافة أن ترتد الحياة إلى الساكن المخيف، وقفت أتحسس أعضائي الكاملة وصدري يتقطع من فرط الشهيق، حبست أنفاسي حين سمعت نفير القطار ينطلق مجدداً واتسعت عيناي على صورة الإشارة المتقاطعة ذات الأعين الحمراء التى تتناوب الومض والانطفاء، وتدق بعنف كمؤقت، جريت قدر استطاعتي وفي إلتفاتتي الأخيرة فوجئت بفتاة تركض بمعطف ثقيل وتلحق بعربة القطار المغادر في آخر لحظة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى