د. مصطفى أحمد علي - تأمّلات في زمن الكورونا: لفظة "دار"

لفظة "دار" محدودة الاستعمال في دارجة سودان وادي النيل، بينما يتّسع استعمالها في دوارج المغرب العربي. ويقابلها في دارجة سودان وادي النيل، وما وراء ذلك، في سائر دوارج المشرق وجزيرة العرب، لفظة "بيت"، التي ينحصر معناها لدى المغاربة في "الغرفة".
ويكاد ينحصر استعمال كلمة "دار" في دارجة وادي النيل، في سياقات محدودة هي أقرب ما تكون إلى التعابير الاصطلاحية والمجازية، وذلك في نحو قولهم: "دار ابوك إن خربت، شيل ليك منها شلية"، كناية عن الفوضى التي لا أمل في انقيادٍ بعدها، وقولهم: "ال ما شفته في دار أبوك بيخلعك"، كناية عن النعمة الطارفة في مقابل المجد التليد، وقولهم في مقام الترفّع والاعتداد بالنفس: " في دار أبو منو!!". وقد يتّسع معنى "دار" في وادي النيل، ليشمل القبيلة، كما في قولهم "دار جعل"، وهو في حكم النادر وأقرب شيء إلى الاستثناء، ولا أكاد أجد له قريناً أو مثيلاً في مصطلحات سودان وادي النيل.
أمّا في السودان الأوسط والذي يمتدّ، تجاوزاً ما بين النيل الأبيض وبحيرة تشاد، فإن كلمة "دار" تتّسع من حيث الدلالة، فتعني كياناً جغرافياً، إدارياً، قانونياً، بكلّ ما يترتّب على ذلك من تبعات ومسؤوليات، وهذا ممّا قد يتعسّر فهمه لدى أولي أمرنا في هذا الزمان، وما نازلة دار فور من ذلك ببعيد. بلى، تتّسع الكلمة من حيث الدلالة فتعني القبيلة وما يدخل في حيازتها من أرض وموارد طبيعية، كما في قولهم: دار رزيقات، ودار تعايشة ودار سلامات، ودار حمر ودار مساليت ودار زغاوة ودار قمر، وغير ذلك ممّا هو شائع في كردفان ودار فور وودّاي، وما وراءها إلى ضفاف بحيرة تشاد. وكثيراً ما تنسب الدار إلى ذوي المآثر والأيادي والفضل من رجال القبيلة، كما في قولهم: "دار أندوكة"، يريدون بها "دار مساليت" وأندوكة هو السلطان بحر الدين، أحد أشهر سلاطين مساليت. ومن ذلك أيضاً "دار موسى"، يريدون بها "دار رزيقات"، ينسبونها إلى زعيمهم، ذائع الصيت (موسى ولد مادبّو). وقد وردت اللفظة في مسدار القمرية، لعلي الشيخ محمّد التوم ود المرّ، في حواره مع القمرية:
وين مدّيتي يا القمرية؟
قالت كنت ناجعة للسراتها قوية
لنقبنا الصعيد "دار موسى" والماهرية
والإنقيب بيواوي وعشّي سرج وحوية.
كما وردت اللفظة في مجاراة حنفي ولد الطيّب أبو المرضية، للمسدار نفسه، في قوله:
وكت جاحت بلدنا وفي الحقيقة شفقنا
أخدنا أيامنا في "دار موسى" شلنا رزقنا
لا جوع لا عطش لا طالقونا سرقنا.
وتتّسع دلالة "دار" فتتجاوز القبيلة لتعني الدولة بكلّ مقوّماتها السياسية والقانونية والإدارية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، كما في سلطنتي "دارفور" و"دار ودّاي"، اللتين سادتا في السودان الأوسط على مدى أكثر من أربعة قرون، من مطلع القرن السادس عشر الميلادي إلى بدايات القرن العشرين.
واكتسب لفظ "دار" دلالة مطلقة غير محدّدة في السودان الأوسط ليعني اتجاهاً جغرافياً مطلقاً، وذلك في نحو قولهم "دار الريح"، وتعني جهة الشمال، مصدر الرياح، و"دار صباح" وتعني جهة الشرق، مصدر الإصباح
وبدا لي أن أهل دار فور حاروا في أمر سودان وادي النيل وفي (دولة سنار)، فلم يجدوا ما يسعفهم سوى الاتجاه الجغرافي، فأسموها "دار صباح"، وهو مصطلح غامض، لا يتجاوز في دلالته الوجهة الجغرافية التي تعني مشرق الشمس ومصدر الإصباح. وواقع الأمر، أن الدارس لتاريخ سنّار يجد مشقّةً وعنتاً في ضبط المصطلحات الإدارية والقانونية للسلطة والدولة في سنار. وكان قد أيّدني، في هذا السياق، فيما استقرّ عليه فكري بعد تأمّل ونظر في الأمر، أستاذي الأثير العلامة عبد الله الطيب، في حوار لي معه في مدينة الرباط، في منتصف تسعينات القرن الماضي، وأكّد لي رحمه الله، أن اللقب أو الصفة التي كان يطلقها كبار سنار على أنفسهم هي "المكّ"، دون اصطناع لصفة تميّزهم عن "مكوك" سائر القبائل السنارية التي تدين لهم بالولاء في دولة سنّار، كما في قولهم (المكّ عمارة) مؤسس دولة سنار في مطلع القرن السادس عشر الميلادي. وغالب الظنّ أن إطلاق مصطلحي (سلطان) و(سلطنة) على دولة سنار، المتواتر في كتب تاريخ سودان وادي النيل، أتى بفعل تأثيرٍ وافدٍ على السنّاريين، خارجٍ عن إرادتهم، شأنه في ذلك شأن مصطلحي (السودان) و"(السوداني)، فكلاهما وافدٌ غريبٌ، تقبّله القوم، ولم يعترض عليه معترضٌ. ولله الأمر من قبل ومن بعد.


د. مصطفى أحمد علي،
الرباط، 21 مارس 2020م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى