عمر الصايم - بين راما والمقهى المنكفئ

سبعةٌ كُنَّا مهووسين بالدُّخانِ وراما! نحقنُ الذاكرة بالترهات والأورام العاطفية؛ فيما كُنَّا نحاولُ استعدالها وسط حالة مِن الانكفاء العام. نشبَ بيننا حديثٌ، ونحن نَعُضُّ على أثداءِ النَّارجيلاتِ الأمهاتِ ، ثُمَّ ننفثُ دخانَها كطفلٍ سَئِمَ اللبن.
قالَ قاسم ــ غفلَ الغبشُ عنِ المدينة؛ فتوغل الاسمنت فِي السَّماءِ.
ضحك موسى الذي كان يرى الأسمنت أجمل مِن السماء وقال:
ــ كوستي أنشاها الإنجليز، خواجة كوستا كان صاحب الفضل فِي اكتشاف الأراضي الجديدة!
ــ ولكن من بعده سكنها عرب البادية، وزرعوا البحر.
قال أحمد ـ أكرهُ المدن التي أحس فيها بنادق الأتراك والإنجليز.
ــ هذا يعني أَنَّك تُحِبُّ أمدرمان.
ــ وهل ينفعُ أهل أمبدة حبك؟
غرغر.. أوف.. أوف! نفثتُ دخان الشيشة، هذا الذي يسكنُ غُرَفَ قلبي الأربعة. خرجَ ليرسمَ راما طفلة! تَشَكَّلَتْ راما وَهِيَ طفلة تهرولُ فِي أَزِقَّةِ القاهرة خلف بائع الفجلِ، والترمس. عادتْ مِن الحضانة لبيتِهم فِي الست زينب، فوجدتْ أباها يضربُ أُمَّها ويشدُّها مِن شَعْرِها للخارج، بعدها لَمْ تعرف شيئاً سوى فرحتها بركوب الطائرة. هبطتْ على مقربة مِن خط الاستواء. احتوتها أمدرمان، حملتها فِي (أبوروف، وبيت المال). يرى الأمدرمانيون راما قادمة مِن النيل مغسولةَ الجدائلِ. تفرشُ جدائلها مِن النيل حَتَّى سوق الشجرة. يلهو الأطفالُ فوق ضفائرها، يأكلون حلاوة قطن، يلعبون عِرِس عِرِس، ويندسون بَيْنَ خصلاتِها باحثين عَنِ التَّمْرِ ،القمرِ ،والبحرِ. تخلقُ أسواراً مِن الطمأنينةِ حَوْل الأطفال؛ فينامون على وعدٍ مِن أحلامِها الرائعة، معها يعيشون أسطورة الطفولة، وفاطمة السمحة. لا يعرفون أنَّ راما كائن الحزن تحتضنُ الرِّجال فِي الشَّوارع بحثاً عن أبيها، وحيناً مِن الإعياءِ تحملُ جدائلها، تبتسمُ للأطفالِ، ثُمَّ تلوذُ إِلى النيلِ باكيةً.
قال قاسم ــ ضَعْ جمرة على الشيشة.
وسط دهشة الحضور حملتُ الجمرة بيدي، ووضعتُها لمزيدٍ مِن الدُّخانِ؛ مَزيداً مِن راما.
للمقهى رائحةٌ نَفَّاذة، خليطٌ مِن التباكو والزنجبيل، ولنا حّقُّ إهدار النهار بين رِكَامِه، التراشقُ بالثقافةِ، عليه نُحاولُ رَسْمَ ملامح الجانب الآخر للعالمِ. طلاءُ المناضد نكتبُ عليه أسماء مَنْ نُجَازِفُ مِن المحبوبات، رقية، آمنة بائعة الشاي. إعياءٌ ما أصابنا؛ فجلسنا على أثاثه المنكفئ لنكتبَ في لحظة واحدة (راما). كنا جميعاً نُحِبُّها! هِي مَنْ وَظَفَّتْ أجهزة العشق المعطوبة. ألقتْ بِها إلينا ليلة شاتية كيما لا نعرفُ محبوبة سواها. لا نعرفُ مِن أين تأتى، ولا فِي أي المُدُن تغيبُ، حتّامَ نلقاها تكون فِي دواخلنا ثاوية. كنتُ أفهمُ احتياجها للأب؛ فوهبتُها هذا الإحساس. وحدي كنتُ أحسبها تحبني. وحدها كانتْ تعلم أَنَّها تحبُّ الجميع! ابتلعَ موسى نَفَسَاً طويلاً مِن النارجيلة، رَشَفَ مِخَاطَاً دَنَا مِن شاربهِ؛ فَتَنَحينا لصوتِهِ الذي يُداهمنا كالمقذوفات.
قال ــ لي الله مِن ساقَي راما! سأدعوها يوماً لهذا المقهى المنكفئ، حَتَّى إِذا جلستْ منكفئةً؛ اعتدلتُ لأَرى قَوس حبها.
موسى محسوبٌ علينا؛ رغم أَنَّه لا يشبهنا، يحيا بعاقلة التُّركيّة السابقة، يستلذُّ بإدخال الكلمات الإنجليزية في حواره، كان ورماً فِي المقهى لم نستطع استئصاله، يتحركُ مِن منضدة إلى أخرى، يُعلنُ على رؤوس النارجيلات أنّه مثقفٌ ومفكرٌ بالغ الوعورة. كُلُّ الأمكنة عنده خانة؛ مدرسخانة ، إجزخانة، وسلخانة، فأطلقنا عليه الأديبخانة، ذبابةٌ خضراء عنيدة لم تكن مثله فِي التصاقِهِ بِنا، وما أغظانا شئ كفهمه المَغْلُوط لراما، يُقسِّمُها كالقَصَّاب، أفخاذ، ساقين، وصدر، ويُجزّئ جمالها الذي كُنَّا لا نبصرُه مُجَزَّأً، سكتنا على حديثه النتن، حَتَّى قَاَل قاسم
ــ كارثة أنْ يكونَ المثقف أديبخانة، ممتلئ بقذارة ما أفرزته الإنسانية؛ أزمة فكر حقيقي!
قال عارف
ــ ياه.. ما أصدق الفيتوري!
(أدنى ما فينا قد يعلونا
يا ياقوت فكُن الأدنى تَكُنْ الأعلى فينا)
لم يعبأ الأدبيخانة بكلامنا؛ وقال
ــ سأصدر قصيدخانة أُعَبِّئُ فيها غرائزي الحسية، واستنفرُ مقدراتي الأورقازمية
غرغر... أوف .. أوف
نفثتُ دخان الشيشة واكتفيتُ بجزء منه للأورطة، خرج مِن صدرِي مُشَكِّلَاً راما،الآن تبلغ سن الفتيات رأيتُها ترحلُ مِن أمدرمان إِلى كوستي مع زوج أمها. فِي الحلة الجديدة بدأتْ حلمة صدرها تتحجرُ، ثُمَّ تَكَوَّر النهدُ مُعْلِنَاً سُموق حسناء. يجمعُ ساكنو الحلة الجديدة على أَنَّ والدها مصريّ، وأمها يمنيّة، وتارة يقولون بأنها أرترية مِن العفر. حين كانتْ تخرجُ إِلى المدرسة تعوي أبواق القذرين مِن أصحاب السيارات، يحاولون اصطيادها رغبةً فِي طمس معالمها الناتئة؛ لتكونَ مستويةً، أو رخوةً؛ توطئة لزرعها في بيوت الليل شجرةً تثمرُ كُلّ يومٍ جنيهات، لم تكن القذارة كافية لتلويثِ راما، وسحق البراءة السماويّة فيها؛ يئسوا منها لما وجدوها على قلوبنا مستوية. في الصباح حين يغسل المطر شوارع كوستي تخرج راما ناشرةً شذاها على بائعات الفسيخ، مرتسمةً على الجدران العارية مِن الطلاء. يلقاها الأطفالُ بالطين فتبني معهم المدن التي لا تبكي، عرائس وزوجات لا ينتظرن الأزواج المرهقين. لم تزل راما مبتسمة حين سمعتُ صياح موسى
ــ هات جمرة؛ النار خمدت.
صوتُهُ المقذوف هَزَّ مقعدي المنكفئ (يا راما أيُّ إعصار ألقى بك خارج مقياس الرسم، عبأك بالفجيعة، ثم دسني بين خصلاتك آآه) قلت . فلم يقل أحد بعدي.
ذات يوم قالت بأنها مستهدفة. وبأنَّ ثَمَّة قوة غيبية تجعلها دائماً مُسَيَّرَة. ودَدْتُ لو احتضنها فتستكين إلى صدري، وتبلل قميصي بدموعها. قلتُ ذلك في المنضدة، فقالوا بصوتٍ واحد (مزيداً مِن النار.. مزيداً مِن الدخان ) نظرتُ إِلى المناضد فوجدتُ رواد المقهى قد خرجوا، إِلاّ مِن رجلٍ ضاعتْ عليه نَوْمَة فِي البيت؛ فنام وشخيره أعلى مِن أزيزِ النارجيلات.
قال عاطف
ــ لنا الله نحن جيل ثقافة الهامش.
فأتَمَّ عَلِيٌ
ــ جيل المحرقة.. (كح كح كح) وهل نعيش هكذا طويلاً؟
- الأعمار بيد الله، ليس ثمة مناص.
- أعني إمكانية الحياة الحقيقة.
- كيف؛ وأنت ثاوٍ فِي مقهى مقلوب؟
- صحيح الآن نحن بين راما والمقهى والمنكفئ.. أووف..
قال الأديبخانة
- أنتم تحرثون السَّماء، الواقع يحتاج إلي بعضِ الحركيّة. أنا أحبُّ الانكفاء وكل قصائدي منكفئة على ذاتي.
(إنْ لم تكن ذئباً أكلتك الخراف؛ أنظر ميكافيليّة الأشياء واللحظة ) حينما بلغ بها السأم حد الانعزال، ويئستْ مِنَّا قالتْ ذلك. استفزَّنِي الأديبخانة، مُنَظِّر الانتهازية. قررْتُ الدخول في المعركة؛ تحديد هوية المكان واللحظة. هذا الأديبخانة يجلسُ معنا بإيعاز من كل إحباط التاريخ وانزلاقاته، لهذا نراه حلزونياً يَتَشَكَّلُ حسب المقاعد.
قلتُ ــ لا لن نستكين لهذا الشكل علينا تغييره.
هتف الخمسةُ، عَدَا موسى
ــ كيف؟ - - نبدأ من هنا!
- من أين؟
- مِن هذا المقهى، علينا وضعه فِي صورتِهِ الصحيحة، استعدال الأثاث المنكفئ؛ لنجلسَ كما البشر. العرقُ يصبُّ علينا مِن الفضاء، الصمتُ يستكينُ فِي حواشي النارجيلات، غرغرة نارجيلة الأديبخانة تَحَوَّلَتْ إِلى عويل. اتفقنا على ترتيب المقهى؛ لنخرجَ منه إِلى راما رافعي الرؤوس غير منكفئين، ولسوف تلقانا بالجدائلِ السُّود، نتمددُ عليها وننامُ كما الأطفال؛ فتضحكُ الفتاة، وتضحكُ الأشجار اليابسة، تضحكُ الشوارعُ المخبأةُ بَيْنَ الجُدُرِ الهزيلة، ونضحكُ نحنُ حَتَّى تغادر الكُتبُ الصفراء رفوف المكتبات.
قمتُ على شَكْلِ الاعتدال، وقفتُ على رجلين ــ فقط ــ ! قاموا جميعاً معتدلين عدا الأديبخانة نهضَ مُنْكَفِئاً تاركاً مقعده منكفئاً. حين خرج كنا قد جعلنا المقهى معتدلاً، وقفنا رافعي الرؤوس نضحك.. ونضحك، بعدها تحركنا إلى الباب المنكفئ، وقبل أنْ نصلحه دخل الأديبخانة ومعه رجال غريبو السحنة، يحملون هراوات مِن عظام الديناصورات، على وجوهم أقنعة مِن جلود الأفاعي. كانوا كُثُر وجاهزين لخوض أي معركة. ضحك موسى حتى اختلطت شفتاه بعينيه. فاجأنا الرجالُ بِالهراوات، هجموا علينا، ضَرَبُونَا، وقَيَّدُونَا، سألتُ أحدهم
- ما التهمة الموجهة إلينا؟
ضَحِكَ لا كما الضحك الذي نُؤَدِّيه، ضَحْكَة مِن عهد قديم، عليها غبار الأزمنة السابقة، وأتربة الصحاري، وقال
- أنتم متهمون بحب راما وتغيير الانكفاء مع سبق الإصرار والترصد.
عصبوا أَعْيُنَنَا، واقتادونا، صحنا فيهم
ـ إلى أين؟
ردَّ الرجل ذو الصوت الغباريّ
- إلى السلخانة.
فعلها الأديبخانة (الوغد) وزَجَّ بِنَا إِلى السلخانة فِي محاولةٍ للظفرِ براما.
( هل نستعيدك رغم تداخل التاريخ؟ نسافر عبر ضفائرك، ونعرجُ إِلى حيثُ نلقى الأمان؟ الآن نحتاجُك يا راما.. اللحظة يا راما نحتاجُك )
كنتُ أُحَدِّثُ نفسي، وحين فتحتُ عيني رأيتُ السلخانة مستوية فِي مكان ما، أسفل السماء وأعلى الأرض، لكنه يأخذ مناخ الصحراء، غرفة مستطيلة وعريضة مسقوفة بالأسمنت، مِن سقفها تتدلى المشانق ذوات الغلظة، وعلى الجدار تذكارات لبعض الذين زاروا السلخانة، عمرو بن عبيد، عباس بن فرناس. الجاحظ رسم صورته على الجدار ونَحَتَ عينيه بِشَكْلٍ مخيفٍ! تلفتُ فرأيتُ خزانة كبيرة كُتِبَ عليها خَزَانة رؤوس العُصَاة. أوّل رأس كان لواصل بن عطاء، كيف تحصلوا عليه؟ رأس الحلاج أيضاً! لم أُصَدِّق نفسي حين رأيت رأس (........) أعرفه جَيِّداً. ثَمَّة رؤوس لرجالٍ لا أعرف أسماءَهم تَمَّ سلخهم قبل آلاف السنين في سلخانة قديمة، سدنتها مِن كُلِّ الأجيال. تحركنا نحو الخزانة وحجزنا رف لرؤوسنا، طلبنا مِن السدنة أنْ يضعوا النارجيلة أمام رأس كُلٍّ مِنَّا، تهيأنا للمصير المحتوم ، فقط كنتُ أحب معرفة الطريقة التي تعمل بها السلخانة؛ فسألتُ سادناً يبدو أنَّه مُسَخَّرٌ لسذاجته
- كيف يتم الذبح والسلخ عندكم ؟
أجابني
- حسب جيل المذبوحين، فمثلا هناك أجيال بدائية استعملنا معها السكاكين والأشواك.
- جيلنا في زمن الإلكترونيات.
- أعتقد أنّه سيتم ذبحكم وسلخكم عن طريق الصّعق الالكتروني.
اطمأنّ قلبي عن طريق الصّعق لن يطول الألم. غداً سينفذون ذبحنا، والوقت في السلخانة يُحدد بعدد المذبوحين. ترجلنا عن ذاكرة الحياة، إِلاّهَا صمدتْ على جدار الذاكرة، بها نقاوم رائحة الموت، نتأكدُ مِن أَنَّنَا أحياء، ولكن تحاصرنا دماء تاريخية وسلخانة مُتَجَذِّرَة ( يا كم تبعدين يا راما ونحنُ محاصرون بانتظار الرحيل الأبدي! تُرَى هل يظفر بك الأديبخانة؛ فيصاب الأطفال بالشيب، الرجال بالعنة، وتصاب الكلاب بالعته؟ أم تبحثين عَن أبيك فِي هياكل الرجال على الأرصفة؟ أيُّ حزنٍ ينتظرنا جميعاً؟ ) مِن استيائي ضربتُ الجدار برأسي. تلفتُ لأرى سدنة السلخانة وقد ناموا. اهتزَّ السقف فالتفتنا جميعا نحوه، ثَمَّة قوة ترفعُ السقفَ، وتهدُّ جدار السلخانة. شعرنا ببريق الحياة؛ فهناك من يحاول إنقاذنا! تهدَّم السقفُ وبعد برهة خرجنا؛ لنرى راما.. راما المخلصة! رأسها في السماء وجدائلها في الأرض، عيناها سحابتان، صدرها عالٍ تمر السحابات بين نهديها. بينما كان السدنة يتساقطون أمسكنا بجدائلها وانزلقنا، انزلقنا حتى وصلنا الأرض. أخذت ضفائر راما في الانسحاب عَنَّا رويداً رويداً، تاركة شعيرات في الشوارع للأديبخانة يلهثُ خلفها. كوستي وجدناها مغسولة بالمطر ودموع أهالينا. الأطفال يلعبون بالطين، بائع الترمس ينفخ صافرته؛ يغازل جيوب الآباء المفلسين. بعد شهور صدّقنا حكاية النجاة، نجاتنا مِن السلخانة. حملنا معنا رؤوس المذبوحين إلي المدينة ليصدّق أهلها أسطورتنا بين راما والمقهى والمنكفئ. صرنا ندير الحديث عن راما مِن منازلنا ـ إنْ وُجِدَتْ-وبحثنا عن المخلصة بين الأزقة الواهنة والشوارع الخربة فلم نجدها. قمنا بتجنيد كل الأطفال للبحث عنها بأوصافها المعروفة للأشجار والبحار. فشلنا في العثور على أثر ضفائرها. كانتْ قد غادرتنا إِلى المدن الأخرى ذوات الرشح الدموي. بعض العرب الرحل قالوا أنهم رأوها في صحراء العتمور غائصة في الرمال، والمسافرين إلي الحج قالوا برؤيتها في صحراء نجد. حينما كُنَّا نبحثُ عنها كانتْ الصحاري تحتويها والأنهار تغسلُ جدائلها. يسألُنا عنها الأطفال نقولُ عنها: عائدة! هكذا حدثتنا قبل رحيلها، عائدة! فقط حين يحلم الأطفال.
أعلى