أحمد ولد إسلم - المنتظر.. قصة قصيرة

بجلبابها البني الذي يغطي قدميها، ويؤدي عفويا دور البلدية، وحجابها الأبيض المنسدل إلى منتصف جسمها راسما مثلثين متوازيين، وحاجبا لون شعر يجهله كثير من معارفها، تقدمت بتؤدة تتأمل المباني المحيطة بساحة الثورة الشهيرة في عنابة، حيث السياح والمتسولون ومشاريع العشاق.. لا تعرف لم تجاوزت مقهيين في المدخل الغربي، شيء ما داخلها جعلها تتوجه إلى الثالث، تسحب بهدوء كرسيا منسوجا من سعف النخل، وتنظر ساعة الهاتف، ربما موقعه المناسب وسط أشجار الصفصاف، وربما ارتباك من يزور هذه المدينة أول مرة..

محمحمة النادل نبهتها من شرود خفيف تأملت فيه أسراب الحمام المنزلي وهي تحط وتطير بين المقاعد، تصفحت قائمة المشروبات التي كانت في أغلبها مثلجات تطفئ حرارة يوليو في مدينة تغرقها الرطوبة كل صيف.. طلبت كعكة وكأسا من عصير الفواكه المشكلة الطازجة..

ابتسم النادل كعادته، لكنه عاد بعد خطوتين وقال: هل قلت عصيرا طازجا...

- نعم

- شكرا سيدتي سيكون جاهزا خلال خمس دقائق..

استطاعت أن ترى من زاوية عينها اليسرى حديث النادل إلى المشرف عليه، وابتسامتهما المريبة.. للحظة خطر لها أن قرارها غير صائب، لكنها ما لبثت أن تراجعت عن ذلك فظل الصفصافة كان أقوى جاذبية في هذا الحر، "ربما أنا الوحيدة التي تلبس جلبابا سميكا في هذه الساحة، أو أني الوحيدة التي تجلس على طاولة يقابلها كرسي شاغر"، قالت في نفسها محاولة تفسير ابتسامات النادل ومشرفه.
طعم العصير بدا مألوفا، مع أنها لم تشربه من قبل، أثناء شربه كانت تقلب صفحات جريدة أخذتها من الكشك القريب، لم تجد فيها ما يستحق القراءة، فأشارت على النادل..

- الحساب من فضلك..

- ألن تطلبي شيئا آخر، لدينا تشكيلة من المثلجات قد تعجبك..

- لا شكرا ربما في المرة المقبلة

غاب عنها للحظة، ثم عاد وصدغاه تعتريهما رعشة خفيفة جدا، كأنه خجل مما سيقوم به، تردد قليلا ثم قال.. هذا الحساب، عليك فقط دفع ثمن الكعكة لأن العصير مدفوع الثمن..

- من دفعه..؟!

- من الصعب أن أشرح لك سيدتي.. لكن – سعل قليلا- قبل أربعة أعوام كان لدينا زبون دائم يجلس على هذه الطاولة مساء كل جمعة، ويراقب ساعته كأنه ينتظر أحدا، وفي المرة الأخيرة دفع ثمن عصير فواكه مشكلة وقال لي إن جاءت فتاة محجبة وجلست على هذه الطاولة وطلبت عصيراً طازجا لا تدعها تدفع ثمنه.. كما ترك هذه الورقة..

- ومن قال لك إني تلك الفتاة.. هذه أول مرة أزور فيها مدينتكم، سأعتبر هذه إهانة، قالتها بحدة.

- معذرة سيدتي هو أيضا لم يكن من أهل البلد، انظري إلى الورقة ربما فيها ما يدل على أنها أنت، كما أني أعمل منذ ست سنوات ولم يصادف أن اكتملت كل المواصفات قبل اليوم.. أنا آسف سيدتي..

"المنتظر قد يأتي.. ولو بعد حين.. م" هذا ما كان في القصاصة التي طويت بشكل جيد ويدل مظهرها أنها كتبت منذ أمد..

- غريب.. على العموم خذ المبلغ كاملا اعتبره إكرامية لك.. مع أني لم أفهم شيئا مما في الورقة.. "المنتظر قد يأتي.."

- شكرا سيدتي، هنيئا.. قالها وهو يمسح الطاولة بمنديل أبيض ويراقبها بطرف عينه وهي تغادر المقهى باتجاه المكتبة.

***

بين الرفوف المتقاربة جدا لدرجة لا تسمح لشخصين بالمرور دون تماس، تصفحت عناوين عن الطبخ الجزائري وكتبا عن السياحة والثورة الجزائرية أغلبها باللغة الفرنسية، ثم اختارت كتاب "ذكريات عاشق فاشل.." تقدمت إلى الشباك لتدفع ثمنه، لكن البائعة التي كانت منشغلة بأكثر من مهمة رمقت العنوان بسرعة وقالت: خذيه إنه لك..

- عفوا هل تتحدثين معي..؟

- bien sûr مع من إذا؟

- لا أعرف.. ولكن لم أدفع بعد ثمنه..

- هذا الكتاب مجاني، حصل عليه قبل مدة أحد زوار المكتبة في سحب على الجوائز وتركه هنا طالبا منا إعطاءه لأول فتاة تطلبه..

- منذ متى؟

- Depuis 4 ans.. قالتها وهي تأخذ مجموعة كتب من زبون آخر، وتمرر عليها جهاز الإدخال..

لا تبدو أحداث اليوم من النوع المألوف أبدا.. تأتي إلى مدنية أول مرة، فيدفع عنها مجهول ثمن العصير، ويعطيها آخر كتابا..

أوقفت تاكسي، غمغمت: لا تقل لي أنت أيضا إن أحدا دفع لك مسبقا..

لم يسمع ما تقول فقد كان يردد بانسجام أغنية جو داسان Et si tu n'existais pas, Dis-moi pourquoi j'existerais التي تنبعث من المذياع.. ثبتت عينها على الصفحة الأولى مشدوهة وهي تقرأ: " لا يستحقه غيرك.. م".

فطفقت تبحث في حقيبتها عن الورقة التي أعطاها النادل.. فيما أصوات مزامير السيارات المنتظرة تعزف مقطوعة متواصلة من الغضب.. وشيء من الحزن.


__________
* صحفي وكاتب موريتاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى