أبو يوسف طه - الأعمى..

تأكلني الغيرة من الحمائم التي تحوم في الفضاء الأزرق ثم تحط على سور السجن لتغيب بعدئذ ، ويزداد نفوري من السجناء لصفاقتهم وعدوانيتهم ، لكنني ، بعد أن لامس أخمصاي الأرض خارج بوابة السجن ، اندفع هواء منعش إلى رئتي ، فأحسست بالخفة والنشوة ، وزال فورا ذلك الضيق الذي جعلني متكلسا طيلة مدة السجن التي كنت فيها مقذوفا في فضاء العطانة ، والرطانات البذيئة ، والشذوذ.
لم يكن في حوزتي من المال إلا ما أسدد به الذهاب من فاس إلى الدار البيضاء بينما كان مقصدي مراكش . نزلت من الحافلة ثم بدأت أذرع الشوارع على غير هدى ، ولم يتضح في ذهني ما يجب علي فعله ، كنت فحسب أتابع الناس ، وهم يسيرون باطمئنان ، فأحسدهم على ذلك ، خطر لي أن أستريح قليلا ، اشتريت علبة صغيرة ، خمس سجائر ، كازا سبور ، جلست على مقعد بحديقة وبدأت أدخن ، بدأ الجوع يعصر أمعائي ، لمحت.قرص خبز موضوع بزاوية جدار قريب ، ذهبت واقتطعت كسرة منه ، وشرعت أهشم أجزاءها
بين أضراسي ليبوستها ، وكأن جبريل أوحى إلي إشفاقا منه على ماأعانيه من ضيق وكدر ، نهضت وتوجهت إلى حيث إدارة مجلة " المباديء " . قدمت نفسي لمديرها عبد السلام بورقيبة ، وذكرته بأن المجلة نشرت مقالا لي ، وأنني الآن في ورطة ، لا املك ماييسر لي العودة إلى مدينتي ، سارع إلى جر الجارور ، وسلم لي خمسين درهما ، غادرته شاكرا ، اطمأننت لكن غبائي جرني إلى حانة بددت فيها المبلغ ، وخرجت من دفئها إلى قر الشارع ، غير أن الواقع يجود أحيانا بمالم يكن في الحسبان ، إذ رأيت متسولا أعمى ، يتحسس الطريق بعكاز تبث فيه ناقوس الدراجات الهوائية ، يرننه مفسحا لنفسه طريقا آمنا ، ابتهجت لأنه من سكان حينا ، رويت له ما حدث لي ، تعلل بعدم إمكان أن يفعل هو شخصيا شيئا ما ، كنا وقتئذ قد وصلنا محطة القطار ، غير أنه أوصى بي صديقا له متوجها لحظتها إلى مراكش ، وكان متسولا أعمى ، أمسكني المتسول من رسغي ، وبدأ يسعى بعرض ورطتي مستعملا لازمة : عالله أخوتنا المسلمين ، عاونوا المسكين تقطع به الحبل . هناك من برتاب ، وهناك من يتصدق.
أخيرا ، صعدنا ، وتحرك القطار . قال المتسول الذي احتفظ في جيبه بالعائد من ورطتي ، اجعل نفسك نائما ، لم أكن أعرف داعيا لذلك إلى حين وصولنا إلى بن جرير ، حيث استفسرونا قبل مغادرة المحطة عن التذاكر ، فأجاب الأعمى بعدم وجودها ، و اننا ركبنا القطار من أربعاء الصخور ، أدى الرجل مبلغا بسيطا ، ثم ناور للتملص مني ، توسلت إليه أن نقتسم المبلغ لكنه امتنع ، قلت له أرني كم الحصيلة التي كانت بسببي ، أدخل يده في جيبه مكمشا على بضع نقود ، أفرج راحته ، بادرت بخطف النقود ، وعدوت هاربا . كان الفصل شتاء ، القر يجمد الجسد ، كان من العسير أن أبقى في الخلاء ، في مكان قفر ، بدائي المباني . من الألطاف أنني رأيت رجلا يحاول إغلاق مقهاه الشعبي ، عرضت عليه المبيت بمقابل مادي ، تمهل قليلا ، ثم قال: إذا نمت هنا سيأكلك البق والبرغوث . عقبت على الرجل : ليكن ، كم الثمن . قال: خمسين فرنكا ، قلت : ثلاثين فرنكا . وافق الرجل مشترطا أن أغادر في السادسة صباحا وقت فتح المحل ، فعلا ، غادرت المقهى في الوقت المحدد بعد أن فتحت بعد سماعي دقا على الباب ، وبعد نصف ساعة انتظار ، استقللت حافلة متجهة إلى مراكش بسبعين ريالا ، ولما وصلت إلى مراكش حمدت الله على النجاة وأثنيت عليه..
  • Like
التفاعلات: منى محمد صالح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى