إدورد وليم لين - 45 - المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر .. للأستاذ ع

تابع الفصل الثالث عشر - الأخلاق

قد تعتمد المرأة أحياناً على الظروف المخففة أو على معونة أصدقاء أقوياء، لتنجو من عقوبة الإعدام إذا ضبطت في معاشرة أثيمة. وذلك كالحادث التالي: زوج الباشا إحدى جواريه من نخاس غني كان الباشا قد اشترى منه كثيراً من مماليكه وجواريه. ولم يكن الرجل يخون زوجه فحسب بل كان يهملها تماماً. فصاحبت تاجراً كانت تعامله صحبة غير لائقة. وجدث ذات يوم في غيبة الزوج أن رأى أحد عبيده السود رجلا في شباك الحريم. فذهب توا إلى غرفة الزوجة ليبحث عن الرجل. وسمعته الزوجة قادماً فأدخلت عشيقها في غرفة ملحقة وأغلقتها عليه. ففتح العبد الباب عنوة. فهجم عليه الرجل بخنجر كان يحمله في حزامه، ولكن العبد قبض على النصل بيده. وعاقته الزوجة حتى هرب عشيقها ثم قبلت يده وتوسلت إليه ألا يخبر زوجها فيسبب قتلها. غير أنها وجدته صلباً لا يلين. وذهب العبد في الحال إلى سيده وأراه يده الدامية وأخبره بالحادث. وهربت المرأة في أثناء ذلك تنشد الحماية في حريم الباشا. وطلب من الباشا أن يرد زوجته عليه ليقتلها. فاستدعاها الباشا وسألها عن جريمتها فرمت بنفسها عند قدميه وقبلت طرف ثوبه وأخبرته بسوء أخلاق زوجها وإهماله الشديد لها. فبصق الباشا في وجه النخاس لأنه اعتبر أن سلوكه إهانة له. وأعاد الزوجة إلى حريمه. ولم يعش عشيقها طويلاً بعد ذلك فقد خنق في منزل بعض البغايا ولم تعاقب البغي لعدم ثبوت التهمة عليها

يؤخذ على المصريين والمسلمين عامة القسوة الشديدة في معاملة النساء. حقاً إنهم لا يعتبرون استشارة الفتاة القاصر قبل زواجها ضرورياً. ولكن الغالب أن الرجل في الطبقت الوسطى والعليا يكاد يختار زوجه على السماع دون أن يراها، إذ لا حيلة له رؤيتها قبل أن يعقد العقد وتنقل إلى منزله. فيستحيل لذلك أن يكون هناك محبة متبادلة قبل الزواج. والحقيقة أن الجنسين معاً تثقل عليهما القوانين والعادات الجائرة، ولكنهما من حسن الحظ يعتبران هذه القيود ملائمة مشرفة. وقد يشعران بالعار في التخلص من هذه العادات. وقد لاحظت أن الحجاب الواقع على النساء يكون باختيارهن إلى حد كبير. وأعتقد إنه أقل صرامة في مصر منه في أي بلد آخر من بلاد الدولة العثمانية. ومن المؤكد إن هذا الحجاب اقل جداً مما صوره لي الكثيرون. وينظر النساء إلى هذا الاحتجاب بفخر من حيث إنه يدل على عناية الزوج بهن. كما أنهن يقدرن أنفسهن بقدر حجبهن كالكنوز ولا يليق في المجتمعات الطيبة أن يستفسر المرء بطريقة مباشرة عن حال زوجة الصديق أو امرأة ما في منزله إلا إذا كانت قريبة له. وسأل أحد معارفي المصريين آخر كان في باريس عن أغرب الأشياء التي رآها في بلاد الكفار فأجابه الآخر: إن كل ما شاهده حري أن يثير إعجاب العاقل البعيد عن التعصيب ولم أر شيئاً يستحق الاعتبار مثل هذه الحال: فقد جرت العادة في باريس وغيرها من مدن فرنسا أن يدعو كل من الأغنياء والعظماء أصدقاءهم ومعارفهم رجالا ونساء معاً إلى حفل في منزله. ويستقبل الضيوف في غرف تضاء بعدة شموع وقناديل. وهناك يختلط الرجال بالنساء، وأولئك كما تعلم سافرات. ويستطيع الرجل أن يجالس زوجة رجل آخر وهو لم يرها من قبل. ويستطيع أن يسايرها ويحادثها ويراقصها أيضاً في حضور زوجها الذي لا يغضب ولا يغير لمثل هذا السلوك المخزي)

يشتهر المصريون أيضاً بكرمهم وجشعهم على السواء. وإن اجتماع مثل هاتين الصفتين المتناقضتين في ضمير واحد قلما يدهش. ولكن هذا هو الحال مع هذا الشعب. ويعتبر الغش والمكر في التجارة، وذلك في جميع الشعوب، إحدى نقائص المصريين الذائعة. وقلما يتردد المصري في مثل هذه الأحوال عن الكذب ليكسب. ويميل الشعب الذي يئن تحت نير الجور والجشع، الذي امتازت به حكومات مصر طويلا، إلى الشح دائماً. لأن المرء بالطبع يتمسك بما هو أكثر عرضة للضياع. ولذلك يعمد المصري المضيم إذا ملك مبلغاً من المال لا يلزمه حالا إلى شراء مصاغ لامرأته أو لنسائه، إذ يسهل عليه تحويل المصاغ ثانية إلى نقود. ومن ثم أيضاً جرت العادة في هذا البلد، وفي أكثر البلدان التي تخضع لهذه الظروف السياسية، أن يخبئ الرجل أمواله في منزله تحت البلاط أو في أي موضع آخر. ولما كان الكثيرون من هؤلاء يموتون فجأة دون أن يطلعوا أسرهم على مكان المخبأ فإن من المألوف أن تكتشف نقود عند هدم المنازل. وهناك رذيلة تقرب من الجشع وهي الحسد. وأعتقد أنها تكثر بين المصريين المحدثين والشعوب العربية بأجمعها على السواء. ويعترف الكثيرون مدفوعين بسلامة النية أن هذا الميل الكريه يكاد يتركز في أذهان شعوبهم تماماً.

والمصريون أمناء في الوفاء بديونهم. وقد بين الرسول صلعم أن لا شيء حتى الاستشهاد، يكفر عن دين لم يوف. وقل من المصريين من يقبل فائدة على قرض أقرضه إذ أن الشرع يشتد في تحريم ذلك.

إن دوام الصدق فضيلة نادرة للغاية في مصر الحديثة. وقد ترخص الرسول في الكذب إذا وفق بين الناس في منازعة أو أرضى زوجة أو أفاد في حرب على أعداء الدين. غير أن الكذب في أحوال أخرى محظور بشدة. ويبرر ذلك بعض التبرير عادة الكذب السائدة بين العرب المحدثين إذ أن السماح لشعب بالكذب في أحوال يعوده بالتدريج الكذب في غيرها. ومع أن أكثر المصريين يكذبون عمداً فقلما تسمعهم يرجعون عن تحريف غير مقصود دون أن يقولوا: (لا. أستغفر الله إنه كذا وكذا) كما يقولون عندما يقررون شيئاً لا يتأكدون منه تماماً: الله أعلم

ويمكنني أن أذكر هنا، وأنا أشعر بالفخر، الحادث التالي: كان في القاهرة صائغ أرمني اشتهر بالصدق إلى درجة أن عملاؤه قرروا تسميته اسماً يدل على تمتعه بفضيلة قلما توجد فيهم، فلقبوه بالإنجليزي وصار من بعد ذلك لقباً لعائلته. والمعتاد أن تسمع التجار هنا يقولون عندما يطلبون ثمناً لا ينوون إنقاصه: كلمة واحدة. (كلمة الإنجليز). وكثيراً ما يقولون أيضاً في هذا المعنى: كلمة (الإفرنج). ولكني لم أسمع أبدا بأمة كرمت هذا التكريم غير الإنجليز والمغاربة. وقد اشتهر هؤلاء دون أغلب العرب الآخرين بالصدق في القول

أشرت سابقاً إلى عادة القسم بالله السائدة بين المصريين. وينبغي أن أضيف هنا أن الكثيرين منهم لا يترددون عن القسم ليدرءوا عن أنفسهم تهمة الكذب. وقد يقولون في هذه الحالة أحياناً. والله (بكسر الهاء) أو عادة: والله. كأنهم يزعمون أن الصيغة الأخيرة يجوز استعمالها في الدعاء. أما (والله (بالكسر) فهو قسم صريح والنطق به كذباً، إثم كبير. ويكفر عن هذه اليمين بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة أو صيام ثلاثة أيام. على أن هذه الكفارة رخص القرآن بها لقسم طائش فقط. ولكن المصريين المحدثين يراعونها أحياناً ليحرروا أنفسهم من وزر قسم كاذب مقصود. ويفضلون الصوم على الكفارات الأخرى. وهناك أيمان أعتقد أن بعض المسلمين لا يترددون في القسم بها كذباً مثل قولهم ثلاثاً: (والله العظيم) أو القسم على المصحف بقولهم: (بما يحتوي هذا من كلام الله)، ولكن القسم الذي لا يزال يعتمدون عليه هو قولهم: (عليّ الطلاق) أو (عليّ الحرام) أو (عليّ الطلاق بالثلاثة). فإذا كذب الرجل في أحد هذه الأقسام الثلاثة تصبح امرأته طالقاً إذا ثبت حنثه. وإذا كان للرجل أكثر من زوجة وجب حينئذ أن يختار إحداهن فيخصص بها الطلاق. غير أن هناك كاذبين فاسدين يقسمون زوراً بأشد الأيمان إلزاماً. وقد قال الشاعر يصف هذا الخلق.

وأكذب ما يكون أبو المعلَّى ... إذا آلي يميناً بالطلاق

ويسهل تحريض المصريين إلى المشاجرة وخاصة السفلة الذين يتشاتمون في ثورتهم بسب الآباء والأمهات واللحى الخ. ويسرفون في نعت كل من الآخر بأحط النعوت كأن يقول: يا أبن الكلب، أو يا قواد، أو يا خنزير، وهناك تسمية أخرى يرونها أشد الشتائم على الدوام وهي قولهم: يا يهودي. وعندما يسب أحد المتخاصمين الآخر يجاوبه هذا بلعن أبيه وأمه وأحياناً بلعن العائلة جميعها. ويهدد كل منهما الآخر ولكن قلما يبادران إلى الضرب. غير أنني رأيت في أحوال قليلة بعض السفلة ثائرين إلى درجة أن كلا من المتشاجرين كان يعض الآخر ويقبض عليه من حلقه. وشاهدت أيضاً عدة مرات أفراداً من الطبقتين الوسطى والسفلى يتحملون السب الغليظ. وكثيراً ما سمعت المصري يقول عندما يضربه ندّ له: (الله يبارك فيك. الله يجازيك خيراً. اضربني مرة أخرى). وتنتهي المشاجرة عادة بأن يقول أحد الطرفين أو كليهما: (الحق علي) وكثيرا ما يقرأن الفاتحة بعد ذلك ثم يتعانقان ويقبل كل منهما الآخر أحياناً

ويميل المصريون خاصة إلى الهجاء. وكثيراً ما يظهرون ذكاء في تهكمهم ومرحهم. وتساعدهم اللغة العربية على استعمال التورية والحديث المبهم الذي يتهكمون فيه بكثرة.

وتهجو الطبقات السفلى أحياناً حكامها في الأغاني ويسخرون من هذه القوانين التي يقاسونها كثيراً. وقد تسليت مرة بأغنية شائعة في أسوان وإقليمها. وكانت هذه الأغنية دعاء صادقاً بأن يبيد الطاعون حاكمهم المستبد وكاتبه القبطي. وكانت في مصر كلها أغنية ذائعة أثناء زيارتي الأولى ألفت لزيادة ضريبة (الفردة) وكانت تبدأ هكذا: (يا للي عندك لبده، بعها وادفع الفردة) واللبدة كما ذكرت قبلا غطاء رأس من اللبد يلبس تحت العمامة أو بدلها. ويعتبر من ليس له غطاء رأس غير اللبدة فقيراً جداً.

(يتبع)

عدلي طاهر نور

المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

مجلة الرسالة - العدد 492

بتاريخ: 07 - 12 - 1942

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى