أمل الكردفاني- رجل في الحضيض- قصة قصيرة

عندما تقرأ قصة، لا تنتظر أن تفاجئك بعمقها، استمتع بالقصة، كما تستمتع بمسلسل مكسيكي عن قصة حب مليئة بالمؤامرات ضد الحبيبين، والتي تنتهي دوما بقبلة النهاية السعيدة. فمكان العمق قد يكون في السطح أيضاً.
ولذلك عندما أحكي قصة السيد رغيب، فليس بالضرورة أن أحكي قصة عن كائن كمسخ كافكا، أو مالون بيكيت.. إنني هنا أتحدث عن الحضيض، تلك الكلمة التي تعلمت معناها بالممارسة المباشرة. ولذلك أفهمها بدون حاجة لقاموس. والسيد رغيب، ليس ذاتي، ولا هو شخصية مفهومية، ليس أياً من تلك التوصيفات الفلسفية، إنه شخص مثلنا جميعاً، موجودٌ في هذا الكون، داخل عالمنا، ثم داخل الكرة الأرضية ثم داخل رقعة أرضية..يسمونها بالدولة. وبما أنه كذلك فهو متواجد في كل الزمان والمكان، لا يتنقل عبر الزمن بل هو موجود دائماً في الزمن، وليس خالداً لأنه محكوم بتفاصيل الزمن مثلنا ومثل الكلاب والحشرات والديدان ونهر هيراكليتوس الذي ليس هو هو دائما وإن كان دائماً يبقى هو.
ولكن كيف يمكننا أن نختزل حياة رغيب في قصة، بل وكيف يمكننا في نفس الوقت أن نطلق حبل صيرورتها بلا حتف؟ وما الذي يمكن أن نركز عليه ليكون ما يجب أن يُحكى موناداً أدبياً؟
دعونا نتلمس بعض المخارج، ففي النهاية لا يريد أن يفعل السيد رغيب شيئاً سوى أن يحفر ممرات للأمل، رغم أنه ليس شاعراً ولا روائياً ولا مطرباً ولا فيلسوفاً ولا طبيباً ولا سياسياً ولا محامياً...إنه لم يستمتع يوماً بأن يكون شيئاً من ذلك. لم يكن السيد رغيب سوى غرافتوناً، نعم.. غرافتوناً في الكون الفيزيائي.
....

بغير المتوقع، وبما يتنافى مع كرشه، فهو يسير بخفة، يقفز يمينا متجنباً البركة المائية ثم يساراً عابراً فوق بركة أخرى، وحذاؤه يلمس الأرض الطينية مجرد لمسات خفيفة. وصوته يتهدج بسبب ضربات قدميه على التضاريس المتعرجة:
- ليس على المرء أن ينتحر عندما يشعر بالتعاسة..
يلتقط انفاسه دون ان يتوقف عن السير وعيناه تحت قدميه ليتفادى الإنزلاق المفاجي في الأرض الوعرة:
- بل يجب أن ينتحر وهو في قمة سعادته..
يلتفت ويقول بجزَل:
- ليكون موتاً رفيع المستوى..
....

ويشير بسبابته إلى بستان للجوافة، بستانٌ واسع المساحة..فألاحظ خاتماً فضياً وعليه حجر كريم أخضر على خنصره.
- هو ذا...
الباب المفضي إلى داخل البستان صغيرٌ جدا ومختبئ داخل كومة من فروع الأشجار الشوكية..لاحظت عرقاً يقطر من لغده...لقد أصبح كهلاً الآن...
- أدرك ما تفكر فيه...
يقول من بين أنفاسه..ويفتح المغلاق الفولاذي بأصابعه القصيرة..فألحظ خاتمه الفضي ذو الحجر الكريم الأخضر مرة أخرى...
....

يفك ذراعه اليمنى من مفصل كتفها ويلقيها بإهمال تحته، ثم يفك فخذه الأيسر من مفصل عظمة الحوض ويلقيه بإهمال أيضاً على الأرض، ينحني بكتفه ويهتز فتسقط ذراعه اليسرى، ثم ينفض قدمه اليمنى فتنفصل من فخذها وتسقط في الأرض، يلوي عنقه، فينفصل الرأس عن الجسد، ويسقط متدحرجاً ليستقر على جانب خده الأيمن تحت زهرة عباد الشمس...يفتح فمه ببطء ويسلُّ لسانَه ببطء أيضاً ثم يغمض عينيه ويتنفس ككلب..
- كان يوماً مرهقاً جداً..جداً..
يخفت صوته وينام..
....

لم يكن رجل أعمال في يوم من الأيام، لقد قال بغبطة:
- لن أكون غنياً أبداً، فأنا مريض بالشعور المتضخم بالكرامة..وهذا هو الفارق بيننا كمرضى عُصابيين..إننا مريضون بتضخم الكرامة..إن المشكلة فينا فنحن نفكر بطريقة خطية..وهذا ليس تفكيراً في الحقيقة..بل هو عدم التفكير بعينه..
يصب كوب الشاي؛ كان يحمل البراد عالياً فيسيل الشاي هابطاً في خط مستقيم عبر الفراغ ليصب في الكوب الزجاجي، حينها تنتفش الرغوة البيضاء في سطح السائل القاني..
- منذ أن انتهيت من الجامعة وأنا أحرس هذا البستان...بستان الجوافة.. مائتان وخمسون فداناً..
يرفع كوب الشاي إلى شفتيه دون أن يرشف منه..يتحدث وصوته ينكتم داخل فوهة الكوب:
- صاحبه توفى منذ سبع سنوات وورثته لا يعرفون عنه شيئاً.. ولا أعرف أساساً من هم.. إنني أحاول إدارته الآن وحفظ ريعه للورثة..جاءني عشرات المشترين..ولم أشأ إخبارهم بأنه ليس ملكي..سيحفرون وراءه حتى يعرفوا الورثة وحينها قد أُطرد للعالم الخارجي.. هذا العالم الذي لا أستطيع التعامل معه...
.....

ذلك ممر ضيق جداً ينحدر تحت الأرض، لقبو مظلم، ينفتح على صالة واسعة مظلمة بدورها، صالة خماسية الجدران وأمام كل جدار وقف شبح رجل يقرأ كتاباً مقدساً بلغة غريبة مزعجة...
مدََ أحدهم كتابه لرغيب، فنظر إليه رغيب دون أن يحرك يديه المسبلتين، ثم رفع وجهه ونظر إلى وجه شبح الرجل، بعدها حمل الكتاب وأخذ يقرأ وكأنما قد ولد بتلك اللغة الغريبة..كان متفاجئاً من تلك القدرة التي هبطت عليه فجأة..مع ذلك لم يكن قادراً على فهم حرف واحد مما كان يقرؤه.
أعاد الكتاب لشبح الرجل، وصعد نحو الممر الضيق، ثم خرج إلى بستان الجوافة، الذي تغطى بسواد الليل، وشعر بأنه قد حفظ ذلك الكتاب عن ظهر قلب، ولاحظ حينها أن القمر يضيء نصف البستان فقط. أين اختفى النصف الآخر..؟؟؟
....

فتح عينيه بصعوبة، ثم استدعى جسدَه، فقفذت ذراعاه والتصقتا بكتفيه، وكذلك فخذاه ورأسُه حتى التئمت أطرافه وعاد جسداً كاملاً، ولكنه ظلّ ممداً على بطنه. جسده عارٍ إلا مما يغطي عورته، كرشه لا زالت منضغطة بالأرض فتضيِّق على رئتيه وتنكتم أنفاسه. إنقلب حينها على ظهره بسرعة وشهق وعيناه متسعتان..لم يكن هناك قمر بالمرة...لكن وجهه كان مضيئاً من مصدر ضوء مجهول..
....

"رغيب..رغيب"
أحس بصفعة خفيفة على خده الأيمن ثم الأيسر...
"استيقظ"
هل هناك أمطار في الصيف؟، أصابته الدهشة، فالصوت صوت امرأة..صوت أنثى..
"استيقظ"
-نعم..سأفعل يجب أن أستيقظ...
قال وسماء دماغه ملبدة بالغيوم السوداء التي تتحرك بسرعة، من اليمين للشمال، ومن أعلى لأسفل، وتتداخل ثم تتباعد متفككة قبل أن تتداخل مرة أخرى..وعليه أن يحطم هذا الحاجز الذي يفصله عن تلك الأنثى..عليه أن يستيقظ..وكعادته..إجتر شهيقاً قوياً بنصف صرخة وفتح عينين جزعتين..كان الرمل مدفوناً داخل جفنيه، والغيوم لم تتبدد بسرعة بعد..حرك أصابع يده التي كانت مبسوطة الذراع على الأرض..ثم كسَر مفاصلها بصعوبة، ومسح جفنيه ليزيل عنهما الرمل..
دار برقبته ورأى وجه الأنثى وضوء القمر يسقط من فوق رأسها فتتلثم الملامح بالظلال المتحركة؛ حينها عاد متوجهاً برأسه نحو السماء.
لكنها أنثى على أية حال، وهذا يكفي..
"رغيب..رغيب..استيقظ"..
أبتلع ريقه ثم أغمض عينيه مغمغماً:
- من أنتِ؟
جاء صوتها رخيماً:
- تلك التي تحرشت بها عندما كانت طفلة...
تنفس بعمق، وازدرد لعابه وقال بصعوبة:
- ابنة مالك البستان..؟
لم يرها وهي تهز رأسها إيجاباً لكنه شعر بذلك..فهمس:
- كانت قبلات فقط..
اشتم رائحة عطر تقترب من أنفه ثم شعر بأصابعها تمسح شفتيه..
- لا بأس يا رغيب..لا بأس..
قالت هامسة..
فتح عينيه ولكنه لم يحاول الإلتفات والنظر إلى وجهها:
- كم أشعر بالخزي..
مسحت شفتيه مرة أخرى مسحة دائرية بالسبابة والوسطى..وهمست:
- لا بأس..
أجهش بالبكاء وصرخ:
- دمرتك نفسياً...
جاء صوتها جزعاً وحانياً:
- لا..لم تفعل..
- بل فعلت...
أخذ يبكي بأنين كعواء الذئب...ضرب صدره بقبضتيه بقسوة وهو يهز رأسه يمينا وشمالاً..
سمع أنينه...ففتح عينيه..ورأى سقف الكوخ مظلماً.. تلفت يميناً ويساراً ولم يكن من أحد معه..
....

نعم.. يضع فوهة الكوب على شفتيه، لكنه لا يرشف منه، كنت ألاحظ ذلك..غير أن كمية الشاي كانت تنقص داخل الكوب كلما قربه إلى شفتيه..أزعجني ذلك، وتحول الشعور بالإنزعاج إلى خوف..
رفع وجهه وقال بإبتسامة ذئب:
- إنني رجل في الحضيض...
ثم عاد وأخفى وجهه في فوهة الكوب...
قميصه ليس مزررا كما يجب، كرشه الكبير شَدَّت القميص ففتقته من الأسفل لتبرز سُرة محاطة بالشعر الأشيب..حتى البنطال كان مرتقاً من منطقة الخصيتين وحتى المؤخرة بخيط أبيض لا يتناسب مع لون القماش الأسود..كان رتقاً باليد وليس بماكينة حياكة.. وعلى قدميه نعل بلاستيكي قديم مشقوق من تحت الأصبع الكبير..وأصابعه -في الواقع- كانت كبيرة كلها، وأظافرها متكلسة يحفها الفِطر..
وضع كوب الشاي على الأرض واتكأ بظهره على جزع شجرة جوافة..
- هذا وَهْنٌ كامل...حين أبلغ السعادة سأنتحر كما أخبرتك...لتكون ميتتي رفيعة المستوى..
يقهقه بضعف شديد..ويزدرد لعابه وهو مغمض العينين..
- لا أحد يبلغ السعادة أبداً..لا أحد يموت ميتة رفيعة المستوى
....

كان يعمل بنشاط..يجلس على فخذيه وينصب الشراك للعصافير بين الأشجار، إنها تلك العصافير الطماعة، التي تترك القمم لتعتدي على مناطق السحالي والضفادع والنمل في الأسفل...لذلك فهي تستحق الوقوع في الشرك...نهض وتراجع بظهره إلى الخلف بخطوات بطيئة وعيناه مثبتتان على الشرك...
- دعنا نراقب من بعيد..
الصيف يقرظ الدماغ، لكنه لم يأبه لذلك.
- الطيور لا تفكر في الغد..وهذا ما يبرر للإنسان قتلها...
"رغيب...رغيب"
تهدّل جلد وجهه، وطأطأ رأسه لأسفل..
- ليس لعمي علاقة بالأمر...
- حسنٌ..
- لا ليس له علاقة بالأمر..كان موت والدي بسببي..إنني أعترف...كنت ابنه الوحيد وكنت فاشلاً في نفس الوقت..
يقهقه
- عمي لم يفعل شيئاً سوى سرقة أمي منه..فرا سوياً وتركاه معي..وكانت عيناي تشبهان عينَيْ عمي كثيراً...لكنني مثلُ أبي..لست جريئاً مثل عمي.. لم تعشقني امرأة أبداً تماما كوالدي..
اشتبكت أجنحة طائرين داخل الشرك فصدر منها صوت معركة مصيرية ولكن بلا أمل..
....

ينفذ الضوء من السحاب، الضوء الأبيض، الأبيض المتبعثر في الحلكة، تومض السحب كطفل يندس داخل لحافه بحثاً عن الطمأنينة..القمر يستدير في الخلف كمارد بتجبر وصلف، يشع كوثن قديم..ليظل صامتاً كحكيم صيني، وتهبط السماوات لتنطبق بمسطحات الأرض القديمة فينمحي الأفق.
وهو هناك ملقى، وسط الكون..عارياً وعلى رأسه ريشتا طاؤوس..يكزُّ أسنانه كزاً ليُخرِج من بينها صوت موسيقي...موسيقى ذات صدىً لأصوات زاعقة في الخواء، تطفوا في الفراغ الشاسع من حوله تتبعها بين الفينة والأخرى نقرات سريعة، فيدور بؤبؤا عينيه حول محجريهما وتتمطى شفتاه بابتسامة مستلذةٍ..يكز بأسنانه وترددات الموسيقي تتكثف ثم تندحر ثم تتكثف...وهكذا دواليك..
....

- لماذا تهرولين..زوجك لم يمت..مجرد جرح بسيط...
لكنها هرولت والدموع تتطاير خلفها..وحين بلغت شجرة السَّنْط الوحيدة التي تتوسط القفر لم يكن هناك..
إلتفتت مستفهمة..
داهمها وقيد ذراعيها بيديه القوتين:
- اسمعيني.. أنا أعشقك..أعشقك..
تصاعدت أنفاسها..ثم خمدت بعد نصف ساعة..
كانت سكينته مضمخة بدمائها، فقضى ليلته تحت الشجرة وهو يحفر القبر ويبكي..
وقبل الفجر، كان قد ارتحل، وهو يدرك أن أقدام أخيه ستقف فوق القبر دون أن يدرك أنها تحته...
...

- أنت لا تشرب الشاي..
دون أن يرفع رأسه، وضع كوب الشاي على يمينه...وظل صامتاً..
- أين يختفي الشاي.. من أنت؟
رأيت جسده ينتفخ ويتضاءل، كان يتنفس بصعوبة بالغة..وحين رفع وجهاً متجهماً صاح:
- من أنت لتسألني..هل تريدني أن ألتهمك...
وقفز بغتة نحوي وفمه يتسع لعضة قوية على رقبتي..
دفعته بقدمَي الإثنتين في وقت واحد وحاولت النهوض بسرعة ولكنني فشلت...كان رشيقاً رغم كرشه الكبيرة..قوياً رغم ذراعيه الهزيلتين، جثم فوق صدري وخنقني فتشبثَتْ قبضتَايَ بقبضتيه بقوة وأحسست بضغط الحجر الكريم المؤلم على باطن كفي.
"لن أتركك تأكلني أيها الوضيع.."
سال لعابه ذو الرائحة الكريهة على فمي. كان مراً، وحارقاً..
"رغيب..رغيب"..
ارتخت قبضتاه وأخذ يتلفت بذعر..
"رغيب..استيقظ يا رغيب"
ندت منه آهة وأحمر وجهه ثم نهض من فوق صدري ووقف منذهلا وحائراً دون أن يتوقف عن التلفت حوله..
- من أنتِ؟..هة؟!! من..؟
"لماذا تشعر دائماً بالخزي يا رغيب"..
يتراجع بظهره مرتبكاً ويصرخ:
- لا أشعر بالخزي.. لم أفعل شيئاً لأشعر بالخزي..
"رغيب..كل شيء في هذا العالم طبيعي فلا تشعر بالخزي..حتى القتل..حتى القتل هو وجه آخر للحياة"..
يتهدج صوته:
- لم أقتل أحداً..
يصرخ باكياً:
- لم أقتل أحداً..هذا البستان ملكي...
"رغيب..يا رغيب.. كل الجيوش تتقاتل من أجل البساتين..كل شيء طبيعي في هذا العالم"
يغطي وجهه بكفيه أثناء جثوِّه على ركبتيه..
"رغيب..الناس يسرقون بساتين بعضهم البعض منذ فجر التاريخ يا رغيب.."..
ينهض ويبتعد مترنحاً....
"رغم أن العالم مليء بالبساتين يارغيب"..
"العالم مليء بالبساتين يا رغيب"..
يجأر بالبكاء ويهو يترنح مخترقاً الكون المُحدِقَ بجبروته..


(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى