د. إبراهيم عوض - فى الأدب المقارن (1) الأدب المقارن: تعريفه وميادينه

الأدب المقارن هو فرع من فروع المعرفة يتناول المقارنة بين أدبين أو أكثر ينتمى كل منهما إلى أمة أو قومية غير الأمة أو القومية التى ينتمى إليها الأدب الآخر، وفى العادة إلى لغة غير اللغة التى ينتمى إليها أيضا، وهذه المقارنة قد تكون بين عنصر واحد أو أكثر من عناصر أدبٍ قومىٍّ ما ونظيره فى غيره من الآداب القومية الأخرى، وذلك بغية الوقوف على مناطق التشابه ومناطق الاختلاف بين الآداب ومعرفة العوامل المسؤولة عن ذلك. كذلك فهذه المقارنة قد يكون هدفها كشف الصلات التى بينها وإبراز تأثير أحدها فى غيره من الآداب، وقد يكون هدفها الموازنة الفنية أو المضمونية بينهما، وقد يكون هدفها معرفة الصورة التى ارتسمت فى ذهن أمة من الأمم عن أمة أخرى من خلال أدبها، وقد يكون هدفها هو تتبع نزعة أو تيار ما عبر عدة آداب... إلخ. وهذا التعريف قد تمت صياغته وبلورته من خلال التعاريف والمفاهيم المتعددة لهذا الفرع من فروع العلم، تلك المفاهيم والتعريفات التى تتباين حسب تباين المدرسة أو الشخصية التى تقود هذا التيار أو ذاك من تيارات البحث المختلفة، وهو يختلف قليلا أو كثيرا عن التعاريف الموجودة فى كتب الأدب المقارن. وقد سرنى أن أجد التعريف الذى أورده كل من "TheFreeDictionary" وموسوعة الــ"Wikipedia" الحرة على المشباك متفقا مع تعريفى هذا، إذ يقول المعجم ببساطة إن الأدب المقارن هو "Study of literary works from different cultures (often in translation) "، كما تقول الموسوعة بنفس البساطة إنه "Critical scholarship dealing with the literatures of several different languages". ومع ذلك نرى معجم الــ"infoplease" المشباكى مثلا ما زال يعرف الأدب المقارن وفى ذهنه المفهوم الفرنسى له، إذ يقول إنه "The study of the literatures of two or more groups differing in cultural background and, usually, in language, concentrating on their relationships to and influences upon each other". فالأدب المقارن، حسب هذا التعريف، يركز على الصلات بين الآداب وعملية التأثر والتأثير اللذين تتبادلهما. وميادين الأدب المقارن متعددة: فقد يكون ميدانه المقارنة بين جنس أدبى كالقصة أو المسرحية أو المقال أو المقامة أو القصيدة أو الملحمة أو الأنقوشة (أى "الإبيجرامة") فى أدبين مختلفين أو أكثر، وقد يكون ميدانه المقارنة بين الأشكال الفنية داخل جنس أدبى من هذه الأجناس فى أدب ما ونظيراتها فى أدب آخر، كنظام العروض والقافية أو الموشحات مثلا، وقد يكون ميدانه الصور الخيالية كالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز، وقد يكون ميدانه النماذج البشرية والشخصيات التاريخية فى الأعمال الأدبية، وقد يكون ميدانه التأثير الذى يُحْدثه كتاب أو كاتب ما فى نظيره على الناحية الأخرى أو مجرد الموازنة بينهما لما يُلْحَظ من تشابههما مثلا، وقد يكون ميدانه المقارنة بين المذاهب الأدبية كالكلاسية والرومانسية والواقعية والرمزية والبرناسية هنا وهناك، وقد يكون ميدانه انعكاس صورة أمة ما فى أدب أمة أو أمم أخرى... وهكذا (انظر فى ذلك فهرس كل من كتاب فان تيجم: "الأدب المقارن"/ ترجمة سامى الدروبى/ دار الفكر العربى/ القاهرة، وكتاب م. ف. جويار: "الأدب المقارن"/ ترجمة د. محمود غلاب ومراجعة د. عبد الحليم محمود/ لجنة البيان العربى/ القاهرة/ 1956/ سلسلة الألف كتاب_ العدد 44، وكتاب د. محمد غنيمى هلال: "الأدب المقارن"/ دار نهضة مصر/ القاهرة/ 1977م، وكتاب كلود بيشوا وأندريه ميشيل روسو: "الأدب المقارن"/ ترجمة د. رجاء عبد المنعم جبر/ مكتبة دار العروبة/ الكويت/ 1980م، وكتاب د. الطاهر أحمد مكى: "الأدب المقارن- أصوله وتطوره ومناهجه"/ دار المعارف/ 1405هـ- 1985م، وكتاب د. بديع جمعة: "دراسات فى الأدب المقارن"/ ط3).
ويحتاج مصطلح "الأدب المقارَن" (وهو فى الواقع ترجمة حرفية للمصطلح الفرنسى المعروف: "La Littérature Comparée") بعضا من التحليل والتوضيح، وكذلك التسويغ أيضا، فالواقع (كما هو بيِّنٌ ظاهر) أننا هنا لسنا بصدد "أدب" بل فرع من فروع "العلم" يدرس الأدب، فكيف إذن حدث هذا؟ إنه الاختصار، أو إذا كان يحلو لك فقل إنه الخطأ الشائع الذى يقال فى مثل هذه الحالة إنه خير من الصواب. والصواب هو أن هذا العلم يقوم بمقارنة الآداب القومية المختلفة والموازنة بينها، ومعرفة ما فيها من عناصر مشتركة أو مختلفة والأسباب المسؤولة عن ذلك، والتعرف على الصلات التى تربطها بعضها ببعض فى حالة وجود مثل تلك الصلات، والمعابر التى انتقل من خلالها عنصر أو أكثر من هذا الأدب أو ذاك إلى غيره من الآداب القومية الأخرى... إذن فنحن لسنا بصدد "أدب" بل بصدد "علم"، اللهم إلا إذا فهمنا كلمة "أدب: Littérature, Literature" بمعناها الواسع، أى "الكتابة"، أو قلنا إن ثمة كلمة محذوفة على سبيل الاختصار، والتقدير: "دراسة الأدب المقارَن"، أو "تاريخ الأدب المقارَن"، أو كما فى الألمانية: "علم الأدب المقارَن: verglaichende literaturwissen schaft". وهناك تسميات أخرى لم يُكْتَب لها التوفيق والانتشار مثل: "التاريخ المقارِن للآداب" أو "تاريخ الآداب المقارَنة" أو "التاريخ الأدبى المقارِن"، أو "تاريخ الآداب المقارِن"، أو "الآداب الحديثة المقارَنة" أو "الأدب العالمى"، أو "الأدب بالمقارنة"، أو "الأدب بطريق المقارنة"، وذلك رغم ما تتمتع به بعض التسميات من اختصار ودقة كمصطلح "مقارنة الأدب" (وهى التسمية التى يستعملها الأندونيسيون)، أو "المقارنة الأدبية" الذى عنون به د. أحمد كمال زكى كتابا له فى هذا الموضوع، و"المقارنة بين الآداب" الذى اتخذه العقاد عنوانا لأحد مقالاته فى مجلة "الكتاب" المصرية فى 1948م، والذى أقترح أن يُخْتَصَر إلى "مقارنة الآداب" طلبا لمزيد من الخفة على الذهن واللسان كما تقتضى طبيعة المصطلح، ومن ثم يكون أسهل تداولا لمن يريد. وهناك "خطاب المقارنة"، الذى اقترحه عز الدين المناصرة فى مقاله: "الرائد التاريخى للأدب المقارن فى الوطن العربى" المنشور فى كتاب "الفلسطينيون والأدب المقارن: روحى الخالدى- إدوارد سعيد- عز الدين المناصرة- حسام الخطيب"/ فريال غزولى وآخرون/ الهيئة العامة لقصور الثقافة/ سلسلة "كتابات نقدية"- العدد 102/ 2000م/ 5- 52. ويجد القارئ اقتراح الكاتب باستبدال المصطلح ومسوغاته فى ص 13)، وكذلك مصطلح "النقد المقارن" للكاتب نفسه (انظر مقال خديجة بن شرفى المنشور فى الكتاب السابق/ 111- 137. ويجد القارئ الكلام عن اقتراح الكاتب باستبدال المصطلح فى ص 117، 120، 130). وقد اختصر الدكتور أحمد كمال زكى مصطح "الأدب المقارن" إلى كلمة واحدة فقط هى "المقارن"، مستعملا النعت وحده دون المنعوت. ومن يدرى؟ فقد تشيع مع الأيام هذه التسمية وتحلّ الكلمة الواحدة محل الكلمتين، على عادة الذهن واللسان البشرى اللذين يميلان فى أمور الواقع العملى إلى الاختصار عند كثرة التكرار، وبخاصة عن طريق الاستعاضة عن النعت والمنعوت معًا بالنعت قائمًا برأسه. أما المصطلح الإنجليزى فلا يستخدم اسم المفعول: "compared" (من الفعل "compare: يقارن" كما هو الحال فى المصطلح الفرنسى)، بل صفة النسب: "comparative"، وهو ما يمكن ترجمته بــ"الأدب المقارَنىّ" أو "الأدب التقارُنىّ" أو "أدب المقارنة" (انظر فى مشكلة المصطلح د. محمد غنيمى هلال/ الأدب المقارن/ دار نهضة مصر/ 1977م/ 15- 16، ود. الطاهر أحمد مكى/ الأدب المقارن- أصوله وتطوراته ومناهجه/ 194، ود. عطية عامر/ دراسات فى الأدب المقارن/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 1989م/ الفصل الأول كله بدءا من ص 12، ود. أحمد درويش/ الأدب المقارن- النظرية والتطبيق/ ط 2/ دار الثقافة العربية/ 1413هـ- 1992م/ 3- 4، ود. على شلش/ الأدب المقارن بين التجرتين الأمريكية والعربية/ دار الفيصل الثقافية/ الرياض/ 1415هـ- 1995م/ 113)، ود. إبراهيم عبد الرحمن محمد/ الأدب المقارن بين النظرية والتطبيق/ الشركة المصرية العالمية للنشر- لونجمان/ 2000م/ 5- 6). نخلص من هذا إلى القول بأن مصطلح "الأدب المقارن"، الذى استعمله خليل هنداوى وفخرى أبو السعود على التوالى فى مقالاتهما بمجلة "الرسالة" فى عام واحد (هو عام 1936م) بفارق ثلاثة أشهر تقريبا، كان هو المصطلح الذى قُدِّر له الشيوع بل الانتشار الكاسح على مدار هذه العقود السبعة، حتى الآن على الأقل. وقبل أن أغادر هذه النقطة أود أن أوجّه الالتفات إلى أن د. على شلش يرى أن صاحب هذا المصطلح فى الحالتين هو أحمد حسن الزيات لا هنداوى ولا أبو السعود، وإن لم يقدم دليلا قاطعا على ذلك، بل استنتجه مجرد استنتاج، قائلا إن الزيات قد أضاف إلى العنوان الأصلى لكل من الكاتبين مصطلح "الأدب المقارن" (انظر كتابه: "الأدب المقارن بين التجربتين الأمريكية والعربية"/114- 115)، أما د. حسام الخطيب فقد عزا إلى هنداوى استخدام المصطلح لأول مرة، على حين جرد أبو السعود من قصد استخدامه بعد هذا بقليل فى مقالاته فى نفس الموضوع، ناسبا إلى الزيات أنه هو واضع ذلك المصطلح فى عناوين المقالات المذكورة (انظر كتابه: "آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا/ 153- 158).
وتشترط المدرسة الفرنسية، كما ألمحنا، أن تكون هناك صلات تاريخية بين العملين أو الظاهرتين أو الأدبين المراد مقارنتهما، بيد أن هذا شرطٌ تحكمىٌّ، أو قل: إنه شرط غير مُلْزِم ولا لازم، والمهم أن تكون المقارنة بين أدبَىْ أمتين مختلفتين، سواء كُتِب هذان الأدبان بلغتين مختلفتين كما هو الغالب أو كانا يصطنعان ذات اللغة كما هو الحال مثلا بين الأدب الإنجليزى والأدب الهندى المكتوب بلغة جون بول، أو بين الأدب الفرنسى والأدب الجزائرى المصبوب فى قالب لسان الفرنسيس… إلخ. إن المراد هو تمتين العلاقات الأدبية بين الأمم والشعوب المختلفة واكتشاف أوجه التشابه والاختلاف لديها فى الذوق والإبداع وتتبع المسارات التى انتقلت عن طريقها التأثيرات الأدبية من أمة إلى أخرى فى حالة وجودها وإمكان تتبعها. وإذا كانت المدرسة الفرنسية فى الأدب المقارن تركز بوجه عام على الصلات التى ثبت وجودها فعلا بين الأمم والشعوب، فهل هناك ما يمنع أن نمد هذا الاهتمام إلى المستقبل فنستشرف وجود مثل هذه الصلات أو نعمل على خلقها خلقا؟ بل هل هناك ما يقطع بعدم وجود علاقة بين عملين أو ظاهرتين أو تيارين أدبيين لم يتضح لنا أنه كانت بينهما يوما هذه العلاقة؟ لا أظن. ذلك أن من الممكن جدا أن يكون موليير على سبيل المثال قد سمع بــ"بخلاء" الجاحظ بطريقة أو بأخرى حين ألّف مسرحيته الشهيرة: "البخيل"، وأن يكون لامارتين على علم بطريقة أو بأخرى بقصيدة المتنبى أو البحترى عن البحيرة، كأن يكون قد سمعها أو سمع أبياتا منها مترجَمةً إلى الفرنسية ولو شفويا، أو على الأقل سمع بموضوعها أو أسلوبها الفنى مجرد سماع من أحد المستشرقين أو العرب، وأن هذا أحد البواعث التى دفعته إلى نظم قصيدته فيها، وبخاصة أنه كان مفتونا بالشرق العربى وزار سوريا وفلسطين ولبنان وسجل هذه الرحلة فى كتاب من أربعة أجزاء هو "Voyage en Orient"، وتمنى لو بقى فى بلاد الأَرْز طول حياته، بل لقد قيل إنه ذو أصول عربية. وقد يكون تأثَّر فى نظمه تلك القصيدة بشاعر آخر فرنسى أو غير فرنسى كان قد تأثر بدوره بإحدى القصيدتين العربيتين أو بهما معا. وربما كان تأثير المتنبى أو البحترى سلبيا، بمعنى أن الشاعر الفرنسى لم يستحسن الطريقة التى تناول بها الشاعر العربى موضوعه أو بعض صوره الخيالية أو السياق الذى نظم فيه عمله أو الجو النفسى الذى سيطر عليه أو الغرض الذى نظم قصيدته من أجله… إلخ. ترى هل كان هناك قبل آسين بلاثيوس، بل إلى ما بعد وفاة ذلك المستشرق الإسبانى ببضعة أعوام، من كان يعرف أن "قصة المعراج" قد تُرْجِمَتْ إلى عدة لغات أوربية منها اللاتينية قبل أن يكتب دانتى "كوميدياه الإلهية"؟ لقد تعرض بلاثيوس لهجوم شديد ومعارضة عنيفة عندما طلع على الناس بأن دانتى قد تأثر بتلك القصة، إلى أن اكتشف أحد المستشرقين بعد رحيله بسنوات خمس لا غير أن تلك القصة قد تُرْجِمَت فعلا قبل وضع دانتى عمله المذكور، مما يؤكد أنه قد قرأها قبل إبداعه لذلك العمل؟ (انظر د. الطاهر أحمد مكى/ الأدب المقارن- أصوله وتطوره ومناهجه/ دار المعارف/ 1407 هـ- 1987م/ 218- 219). ولنفترض أننا كنا موقنين تمام الإيقان أنه لم تكن هناك قط مثل تلك العلاقة ولو على سبيل الاحتمال، أفلا تستحق المقارنة بين الذوقين والأسلوبين وتقويم العناصر الفنية فى الأثرين الأدبيين أن نقوم بمثل تلك المقارنة، على الأقل تنشيطًا لعملية الأخذ والرد بين الأدبين وتلقيحًا لكل منهما بعناصر القوة والجمال فى الآخر وإغناءً لعملية الإبداع والتذوق بهذه الطريقة، ومن ثم قيام صلات أدبية بينهما تُخْلَق خلقا من هذا السبيل، واستكشافًا للعوامل التى تقف خلف نقاط القوة أو الضعف، وهل هى راجعة إلى ظروف المبدع الشخصية أو هى بالأحرى ترجع إلى خصائص البيئة والأمة التى ينتسب إليها؟ أم ترى ينبغى أن ننتظر قيام مثل تلك الصلات أوّلاً، حتى إذا قامت وتيقَّنّا من قيامها ووقوع التأثير والتأثر بين الطرفين فعندئذ، وعندئذ فقط، يمكننا أن نتقدم ونقوم بعملية المقارنة؟ أما أنا فأحبّذ مبادرة الأمور والعمل على خلق مثل تلك الصلات عن طريق المقارنات الاستباقية هذه، ومن ثم لا أجد أية غضاضة فيما صنعه شفيق جبرى مثلا فى مقالاته فى مجلة "الثقافة" المصرية فى 1939م من المقارنة النقدية بين "بحيرة" كل من البحترى ولامرتين والأخرى، وبين "بخلاء" الجاحظ و"بخيل" موليير، ولا ما صنعه د. صفاء خلوصى من المقارنة بين البحيرتين العربية والفرنسية، ولا ما صنعه د. عبد الرزاق حميدة فى كتابه: "الأدب المقارن" حين وازن بين "رسالة الغفران" للمعرى و"الكوميديا الإنسانية" لدانتى مقارنة جمالية خالصة، فلا حديث عن تأثر أو تأثير بين العملين. ثم ألا يستحق البحث عن السر فى وجود تشابه بين عملين أدبيين دون أن يكون بينهما أية صلةٍ عناءَ المقارنة بينهما تأكيدًا بأن هناك ضروبا من التشابه بين البشر على اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأجناسهم؟
لقد كان المرحوم محمد غنيمى هلال وأنور لوقا مثلا من المتشيعين للمنهج الفرنسى فى الأدب المقارن، وما زال هناك من يأخذ بوجهة نظر هذه المدرسة لا يرى مما عداها شيئا، ومنهم د. محمد سعيد جمال الدين كما يتبدى ذلك فى كتابه: "الأدب المقارن- دراسة تطبيقية فى الأدبين العربى والفارسى" (ط2/ دار الاتحاد للطباعة/ القاهرة/ 1417هــ- 1996م/ 42- 43). وهناك، على العكس من هذا، من يتشيع للمنهج الأمريكى متمثلا فى ما كتبه رينيه ويليك، الذى وسّع دائرة ذلك الحقل كما تعكسها الفصول الخاصة بهذا الموضوع فى كتابه: "مفاهيم نقدية" (ترجمة د. محمد عصفور/ سلسلة عالم المعرفة- العدد 110/ جمادى الآخرة 1407هـ- فبراير 1987م/ 304- 375)، فلم يقصرها على مجالات التأثير والتأثر التى تقتضى وجود صلات تاريخية بين طرفى المقارنة. وغالبا ما يكون التشيع الذى من هذا القبيل مجرد تعصب للمدرسة التى سبقتْ معرفة الدارس لها أو دَرَس على يد أحد أعلامها مثلا. والأجدر بنا ألا تكون هِجِّيرانا التعصب لهذا أو لذاك لمجرد التعصب، بل أن نفكر بأنفسنا لأنفسنا مستعينين بما بلغه السابقون من أمتنا ومن خارج أمتنا، ومجتهدين أن يكون لنا رأينا وموقفنا المتميز لا لمجرد إثبات الذات، بل لعرض ما نحن مقتنعون به ومطمئنون إليه، مشاركةً منا فى النشاط الفكرى العالمى بحيث لا يكون كل ما نعمله هو ترديد ما يقوله الآخرون ونشره.
إن ما يقوله هذا أو ذاك من الباحثين الغربيين ليس قرآنا مقدسا ينبغى أن نخرّ عليه صُمًّا وعُمْيًا وبُكْمًا. بل إن القرآن الكريم نفسه لا يطالب البشر بأن يخرّوا عليه مؤمنين دون تفكير أو إعمال عقل، فما بالنا بنظريات فى الأدب والنقد هى من نتاج العقل البشرى غير المعصوم؟ وعلى هذا فإنى لا أَقْصِر مجال الأدب المقارن على الأدبين اللذين قد ثبت أن بينهما صلات تاريخية، بل أنادى بتمديده ليشمل دراسة أىّ أدبين بينهما وجهٌ أو أكثرُ من وجوه الشبه أو الاختلاف لمعرفة الأسباب التى تكمن وراء ذلك التشابه أو هذا الاختلاف أو على الأقل أوافق على مثل هذا التمديد. كما أَرى أيضا توسيع آفاقه ليشمل مثلا الموازنة الأدبية بين عملين من أعمالهما، وتحليل كل واحد منهما ومحاولة التعرف إلى سر ما بينهما من نواحى المشاكلة أو المباينة، والاجتهاد فى تذوق كل منهما لتوسيع مجال الاستمتاع الأدبى والنقدى عند الدارس والقارئ جميعا، ومحاولة تقويم كل منهما فنيا ومضمونيا والوصول إلى معرفة أى منهما أجمل وأقوى وأشد تأثيرا من الآخر، ولماذا، وذلك من أجل اكتساب نظرة أكثر رحابة وأوسع إنسانية وأعمق حكما وأحرى أن تكون أقوى انفتاحا على ما عند الآخرين من آثار الخير والجمال والجلال.
ولقد كان المنهج الإيطالى مثلا فى ميدان الأدب المقارن فى بداية أمره أواسط القرن التاسع عشر، كما يقول د. عطية عامر، قائما على الموازنات الأدبية والكشف عن عناصر الاتفاق والاختلاف بين ظواهر الأدب المشتركة، ثم انتهى به التطور إلى أن يكون "وسيلة بسيطة من وسائل تاريخ المصادر" (د. عطية عامر/ دراسات فى الأدب المقارن/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 1989م/ 34- 35). أما المدرسة الألمانية فكانت تقصر الأدب المقارن على آداب أوربا الغربية وحدها لبيان الاتفاق والاختلاف فى التقاليد الأدبية لأمم ذلك الشطر من العالم، وإن ضم هذا الاتجاه العام عدة أطياف مختلفة: فمن الدارسين من اهتم بدراسة التأثير والتأثر بين هذه الآداب، ومنهم من اعتنى ببيان النماذج الأدبية المشتركة بينها، ومنهم من قام بدراسة المحتوى الثقافى والعقائدى المتماثل فى هذه الآداب، ومنهم من أخذ على عاتقه الكشف عن تناسق الحركة الموسيقية والصوتية فى صورها الشعرية... إلخ (المرجع السابق/ 36- 37). ثم لدينا المدرسة الأمريكية، التى أخذت أولا بالاتجاه التاريخى كما هو معروف عند عموم المقارنين الفرنسيين، ثم انتهى بها الحال على يد رينيه ويليك إلى توسيع نظرتها لهذا التخصص والمناداة بأن يكون الهدف منه إبراز القيم الجمالية وعلاقاتها داخل أدب واحد أو أكثر، والاستعانة فى ذلك بالنقد الأدبى. أى أن التركيز هنا على الجانب التذوقى (السابق/ 37- 39).
وبغض البصر عَمَّنْ هو على صواب أو على خطإ بين أصحاب هذه المناهج فالمهم الالتفات إلى أنهم فى الغرب يجتهدون ويختلفون ويغيرون مواقفهم وآراءهم ولا يجدون حرجا أو غضاضة فى هذا، وهذا ما نريده لنا: أن نجتهد ولا نظن أن الصواب دائما حليف القوم، وأن كل ما ينبغى لنا أن نفعله، أو على الأقل: أن كل ما يمكننا عمله، هو متابعتهم دائما على ما يقولون، إذ هم لا يقولون (كما رأينا) شيئا واحدا وإلى الأبد. أنكون مَلَكِيّين إذن أشد من المَلِك نفسه؟ وأعترف هنا أننى كنت من المرددين لما يقوله جمهور المقارنين الفرنسيين، ولا أستطيع أن أتصور أن هناك صوابا آخر، لا لشىء إلا لأننى أنا وزملائى فى الدراسات العليا، حين بدأنا التعرف على الأدب المقارن فى السنة التمهيدية للماجستير فى آداب القاهرة عام 1970- 1971م مع د. شكرى عياد، قد اعتمدنا على كتب فان تِيجِمْ وجُويَار ومحمد غنيمى هلال، فبدا لنا أن هذا هو المنهج السليم، وما عداه مناهج متسيبة غير منضبطة. إلا أن هذا كان منذ خمسة وثلاثين عاما، وقد جرت مياه كثيرة منذ ذلك الحين فى النهر، ولم يعد ماء النهر هو ماءه القديم (انظر أيضا، فى الكلام عن المدرستين الفرنسية والأمريكية وما بينهما من فروق وما جَدّ على كل منهما من تطور، د. أحمد درويش/ الأدب المقارن- النظرية والتطبيق/ ط2/ دار الثقافة العربية/ 1413هــ- 1992م/ 19- 28. أما د. الطاهر أحمد مكى فيفصّل القول فى ذلك تفصيلا فى كتابه الضخم: "الأدب المقارن- أصوله وتطوره ومناهجه/ دار المعارف/ 1407 هـ- 1987م/ 62 فما بعدها لبضع عشرات من الصفحات، وإن لم يهتم بذكر مراجعه. وانظر كذلك د. حسام الخطيب/ آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا/ دار الفكر المعاصر ببيروت، ودار الفكر بدمشق/ 1413هـ- 1912م/ 222 وما بعدها حيث يعرض تشيع عدد من المقارنين العرب للمدرسة الفرنسية، وعدد آخر للمدرسة الأمريكية، وتشنج البعض فى تشيعهم للمدرسة التى يتبعها وكأنها عِرْضه وشرفه الذى ينبغى أن يراق على جوانبه الدم لو فكر أحد فى مَسّه بهمسة سوء!).
ولسوف نرى أن فخرى أبو السعود مثلا، فى مقالاته التى كتبها فى الأربعينات من القرن المنصرم عن الأدب المقارن، إنما ينطلق من رؤية أفسح وأرحب وأَجْدَى من الرؤية التى تنطلق منها المدرسة الفرنسية بوجه عام، وأنه (كما لاحظ د. عطية عامر، وسوف نأتى إلى هذه النقطة فيما بعد) قد سبق بصنيعه هذا رينيه ويليك، الأستاذ السابق للأدب المقارن بالجامعات الأمريكية، وإن لم يَعُدّ د. الطاهر مكى تلك المقالات من الأدب المقارن فى شىء أصلاً رغم إقراره بأنها تتفق مع المنهج الأمريكى على كل حال، إذ قال إنها لا تزيد عن أن تكون مجرد "ألوان من الموازنات بين موضوعات قد تتشابه أو تختلف عَرَضًا فى الأدبين العربى والإنجليزى... ولعلها جاءت صدًى لبعض أفكار المدرسة الأمريكية (التى) تجيز شيئا من هذه الموازنات" (الأدب المقارن- أصوله وتطوره ومناهجه/ 181)، جاعلا بهذا للمدرسة الأمريكية السبق على ما كتبه ناقدنا المصرى، على عكس ما يقول به الدكتور عطية عامر على ما سيأتى بيانه فى فصل لاحق. وبالمثل نرى أن العقاد، بما كتبه عن المَعَرِّىّ فى "رجعة أبى العلاء"، قد انطلق من ذات الرؤية، وإن لم يشر إلى أنه بصدد كتابة بحث فى الأدب المقارن على عكس ما هو مثبت فى رؤوس مقالات أبو السعود، إذ تخيل أن حكيم المَعَرّة عاد إلى الأرض فى زماننا هذا وأنه كان رفيقه فى جولته بالعالم الحديث وبما يضطرب فيه من فكر وفلسفات ومذاهب، فكان كلما رأى شيئا يظنه رفيقُه الأسوانى جديدا عليه سارع هو فقال إنه قد سلف أن تحدث عنه فى شعره حين قال كذا وكذا. وكأن العقاد يريد أن يقول إن أبا العلاء كان بعيد النظر واسع منادح الفكر والفن والخيال فسبق بذلك عصره، وإنّ بين الإنسانية الكثير من الموافقات رغم اختلاف أوطانها وعصورها وأوضاعها الثقافية والاجتماعية. كل هذا دون أن يحاول العقاد التدليل على أنه كانت هناك صلات بين فكر المَعَرِّىّ وأصحاب هذه الآراء والاتجاهات السياسية والفلسفية من الأوربيين، بل دون أن يفكر مجرد تفكير فى ذلك. وكان طه حسين فى الفصل الخاص بهوميروس من كتابه: "قادة الفكر"، الذى صدر فى منتصف عشرينات القرن الماضى، قد تحدث عن جاهلية اليونان والجاهلية العربية حديث المقارنة رغم أنه لم يَثْبُت أن ثمة علاقة تاريخية بين الجاهليتين، ورغم أنه لم يقل أيضا إنه إزاء دراسة فى الأدب المقارن، وهذا إن كان واعيا أصلا بوجود مثل ذلك التخصص فى تلك المرحلة المبكرة من حياته الفكرية والنقدية.
وعلى نفس هذا المنوال قارن الدكتور إبراهيم سلامة فى كتابه: "التيارات الأدبية فى الشرق والعرب- دراسة فى الأدب المقارن" (دار الجامعة للطباعة والنشر/ 1369هـ- 1950م) بين الأدبين العربى والإغريقى فى كل الفنون تقريبا حتى ما لم يكن بين الأدبين فيه صلة، أوفى أقل تقدير: لم يثبت أنه كانت هناك بينهما تلك الصلة كما فى فن الملحمة والشعر التعليمى الحِكْمىّ (ص 66- 96). وعلى نفس المنوال أيضا ضمّن الدكتور جمال الدين الرمادى كتابه: "فصول مقارنة بين أَدَبَىِ الشرق والغرب" (الدار القومية للطباعة والنشر/ سلسلة "من الشرق والغرب"- العدد 64) عددا من المقالات عن مقارنة هذا الموضوع أو ذاك بين الأدب العربى وبعض الآداب الأوربية، فتحدث مثلا عن فصول السنة الأربعة واحدا واحدا، وكذلك عن الليل والقمر والبحر والحرب والموت والزهور والرومانسية وفن القصة والمسرح فى أدبنا وفى أدب الإنجليز (وغيره من الآداب الأوربية أحيانا)، وإمارة الشعر بين شوقى ودرَيْدن (من شعراء القرن السابع)، كما قارن بين اللورد بيرون وشاعر الغزل الأموى عمر بن أبى ربيعة سواء فى حياتهما الأسرية والشخصية أو فى منحاهما الغزلى، وبين خليل مطران وألفرد دى موسيه. وهى فصول شائقة وكاشفة ومثيرة للخيال والعقل رغم إيجازها واكتفائها ببعض الخطوط العامة وعدم وجود صلات معروفة بين الأدبين المذكورين فى الموضوعات التى تناولها المؤلف، بل رغم عدم اهتمامه هو نفسه بتحرى هذه النقطة أصلا. ومن شأن هذه الفصول وأشباهها أن تدفع إلى مزيد من الدرس والتعمق والانطلاق إلى آفاق أرحب ودراسات أكثر تفصيلا وإحاطة، أما بالنسبة للقارئ العام فإنها ذات قيمة عظيمة، لأن مثل هذا القارئ لا يحتاج إلى التعمق والتفصيل. وقد أعدتُ قراءة بعضها وأنا أكتب هذا الفصل لأجدد عهدى بها ولأكتسب الحساسية المطلوبة للكتابة عنها إذ لا بد أن يعيش الناقد فى الجو الذى يريد أن يتناوله بالكتابة، فوجدتها رغم إيجازها ممتعة مفيدة، فضلا عما تخلقه فى نفس الباحث من الرغبة فى متابعة الدرس بغية المزيد من التفصيل والتدقيق والتعمق.ثم إنها فوق هذا كله، وقبل هذا كله، تساعد على خلق الوعى المقارنى بين الجمهور العريض غير المتخصص فى الأدب المقارن، وهو هدف جدير بالتنبه له والاجتهاد فى توفير العوامل التى تؤدى إلى بلوغه، إذ ليس بالقليل أن نفكر فى الارتفاع بالذوق الأدبى وتوسيع الأفق الثقافى بوجه عام والمقارنة بين ما عندنا وما عند الآخرين لفرز الغث من السمين والعمل على تنقية ما نملكه وما نفكر فى استعارته أو استلهامه من الأوضار والشوائب.
وها هو ذا الباحث الكورى سى وُنْ تشانج ( Se-Won Chang) يقوم بالمقارنة بين أدبه القومى وأدبنا العربى فيقرّ بأنهما، وإن تشابها فى بعض النقاط، لم تقم بينهما يومًا أية صلات نظرا للبعد الجغرافى واختلاف السياق الثقافى هنا وهناك. وعلى هذا فهو يقترح استعمال المنهج الأمريكى فى هذه المقارنة بين الأدبين نظرا لأنه هو المنهج الذى يصلح لتلك المهمة. يقول فى مقال له على المشباك عنوانه: "إمكانية الدراسة المقارنة في الأدبين العربي والكوري" إن "مجال الأدب المقارن أصلاً شاسع وواسع لأنّه يمكن أن يتناول أدبين أو أكثر. ولعلّ مجال الأدب المقارن يتّسع أكثر في حالة تناول أدبين ليس بينهما تأثير وتأثّر. لذلك فنحن مضطرون في هذا البحث إلى اختيار منهجٍ من مناهج الأدب المقارن نراه مناسبًا للدراسة التي سنقوم بها، ولذلك أيضًا تمّ اختيار نماذج محدّدة من الأدب العربيّ والأدب الكوريّ للتطبيق عليهما... إنّ موضوع هذا البحث بالتحديد: البحث المقارن في الأدبين العربيّ والكوريّ، وستجري المقارنة بين الأدبين بمقابلتهما ببعضهما واستخراج نقاط التشابه بينهما في الفترة الحديثة، ومحاولة إثبات أنّ هناك شبهًا بين الأدبين في بعض ما يتميّزان به من خصائص، مع أنّ هذا التشابه بين الأدبين قديم ولا يقتصر وجوده على الفترة الحديثة. وعليه يمكننا مبدئيًا القول: إنّ الأدبين العربيّ والكوريّ متشابهان على الرغم من أنّهما صورة للآداب غير الأوروبيّة أولاً، وعلى الرغم من بعد الشقة المكانيّة بينهما التي يكون من المستحيل معها في تلك الفترة تأثير أحد الأدبين في الآخر ثانيًا. وربّما يعود ذلك إلى تجربتهما المتشابهة تحت الاستعمار في العصر الحديث...
ومنهج البحث المقارن الذي تقوم عليه الدراسة (يقصد دراسته فى المقارنة بين الرواية فى الأدبين فى العصر الحديث) هو المنهج الأمريكيّ في المقارنة الأدبيّة لا المنهج الفرنسيّ. إنّ المنهج المقارن الفرنسيّ تجري فيه المقارنة بين الآداب التي يرتبط بعضها ببعضٍ على أساس من العلاقة أو العلاقة الإخضاعيّة. وبعبارة أخرى: يذهب مؤيّدو هذا المنهج إلى أنّه يجب أن يكون هناك مؤثّر ومتأثّر، وناقل ومنقول عنه، حتّى تجري عملية المقارنة بين أدبين. فإذا لم يكن مثل هذه العلاقة أو التأثير موجودًا فهذا يعني أنّه من غير الممكن أن تقام المقابلة بينها، بينما يدرس المنهج المقارن الامريكيّ أدبين على الأقلّ على أساس من التساوي بينهما بعيدًا عن علاقة التأثير والتأثّر، فيبيّن نقاط الالتقاء والابتعاد بين المؤلّفات. وهذا هو المنهج الذي سنتبعه في الرسالة لعدم وجود علاقات التأثير والتأثّر بين الأدبين العربيّ والكوريّ نتيجة عدم وجود اتصال بينهما في تلك الفترة لأسباب جغرافيّة واجتماعيّة، على الرغم من تشابههما. ذلك أنّ الأدب كان في بداية القرن العشرين مهيّأً لوقوع الأدب المحليّ الصادق فيه بوصفه أدبًا يحاول الهروب من الغرب وإثبات ذاته. وعلى العموم أصبحت هذه الوجهة هي وجهة التيارات الأدبية المختلفة، لذلك ليس من المستغرب أن تتشابه الآداب في العالم في تلك الفترة. ويمكن أن نقول أيضًا إنّنا اتّبعنا هذا المنهج في الرسالة لأنّ هذه الرسالة تهدف إلى دراسة أدب العالم المتساوي" (segero.hufs.ac.kr/middleeast/pdf 파일/22-1-8.doc).
بيد أننى أجد لزاما علىّ بعد ذلك كله التوضيح بأنى لست من أنصار توسيع نطاق الأدب المقارن بحيث يشمل أيضا المقارنة بين الأدب وغيره من ألوان الإبداع والمعارف طبقا لما ينادى به رينيه ويليك، وكذلك هـ. هـ. ريماك، الذى يعرّفه (حسبما ورد فى "Dictionnaire International des Termes Littéraires" فى مادة "LITTÉRATURE COMPARÉE/ Comparative literature ") على النحو التالى: "The study of literature beyond the confines of one particular country, and the study of the relationships between literature on the one hand and the other areas of knowledge and belief, such as the arts, philosophy, history, the social sciences, the sciences, religion, etc, on the other hand"، بل أرى فى هذا تمييعا للأمور، إذ من الواضح أنه لا يوجد فى الواقع تجانس بين هذا اللون من الدراسة والمقارنة بين أدبين مختلفين. إننا فى الأدب المقارن ندرس وجوه الاختلاف أو الاتفاق أو الصلة بين أدب وأدب، فلنبق داخل دائرة الأدب ولا نوسّع الخَرْق على الراقع، وإلا لم تعد هناك حدود تميز هذا الميدان عن غيره من الميادين. ونحن بطبيعة الحال لا ننكر على أحد أن يدرس ما يشاء، بل كل ما نقوله هو أننا لا نريد تمييع الحدود حتى يكون للأدب المقارن شخصيته مثلما لكل علم آخر من العلوم المتصلة بالأدب وغير الأدب شخصيته الواضحة المحددة ولا يتحول لمثل مرقَّعة الدرويش التى تتكون من قصاصاتِ قماشٍ متباينةِ الألوان والأشكال مَخِيطٍ بعضها إلى بعض. وعلى هذا فإن مقارنة العقاد والمازنى، فى شبابهما فى عشرينات القرن البائد مثلا، بين الشعر وبين الفلسفة والفنون الجميلة، على ما فيها من حساسية فنية وعمق فى التحليل وسعة فى الأفق، لا تُعَدّ فى رأيى من الأدب المقارن، على عكس ما حاول د. على شلش أن يصنفها (انظر كتابه: "الأدب المقارن بين التجربتين الأمريكية والعربية"/ 160- 161).
لقد كان الدكتور شلش، بإلماحته إلى العقاد والمازنى وغيرهما، يرد على د. كمال أبو ديب فى دعواه بأن "محاولات تجاوز تحديد الأدب المقارن بدراسة التأثر والتأثير فى الغرب غير موجودة فى العربية"، ومع هذا فقد انتقد د. حسام الخطيب (فى كتابه: "الأدب المقارن من العالمية إلى العولمة"، الذى رأى النور بعد صدور كتاب شلش بست سنوات كاملات) ضآلة الاهتمام بين النقاد العرب بالربط بين الأدب والفنون الأخرى، بما قد يرجح أنه لم يتنبه إليه وإلى ما رد به على بلديّه الدكتور أبو ديب (انظر د. حسام الخطيب/ الأدب المقارن من العالمية إلى العولمة/ المجلس الوطنى للثقافة والقنون والتراث/ الدوحة/ 2001م/ 46- 51). وقد جاء كلام الدكتور الخطيب فى سياق الدعوة إلى انفتاح المقارِنين على الفنون والمعارف الأخرى طبقا لما يدعو به ويليك وريماك فى أمريكا. وإذا كان الشىء بالشىء يُذْكَر فقد يكون من المفيد أن أسجل هنا أننى أصدرت منذ أكثر من سنتين كتابا بعنوان "التذوق الأدبى" خصصت فيه فصلا كاملا من بضع عشرات من الصفحات للمقابلة بين الأدب والفنون الأخرى من خِيَالة ونحت وتصوير وكاريكاتير وموسيقى وعمارة، سواء من ناحية الوسائل التى يتذرع بها كل من الطرفين فى التعبير عما يريد أو من ناحية قوة التأثير والإمكانات التعبيرية التى يوفرها. ومع هذا لم يخطر ببالى أن أَعُدّ ما فعلته من "الأدب المقارن" فى شىء، بل لست أجد فى نفسى مطاوعة لهذا التصنيف، وأرى من الأوفق وضعه فى خانة "التذوق الأدبى" كما عنونته، أو ربما يمكن إدخاله باب "نظرية الأدب" إن كان لا بد من البحث له عن ميدان آخر. وأرى أن د. حسام الخطيب وغيره من المقارنين على حق فى قلقهم على مستقبل الأدب المقارن من هذه الناحية، إذ ينادى فى مقال له بالمشباك عنوانه "الأدب المقارن في عصر العولمة- تساؤلات باتجاه المستقبل" بوجوب "حل مشكلة التسارع في توسع الأدب المقارن من ناحية المقارنة المعرفية مع مختلف الفنون والعلوم إلى درجة اهتزاز بؤرة الارتكاز فيه وصعوبة حصوله على الاعتراف الفكري والقوة المؤسسية في الإطار المعرفي العام. وينتج عن ذلك عادة تقزيم أقسام أو برامج الأدب المقارن مقابل ما تتمتع به الآداب القومية من قوة ومكانة"www.nizwa.com/volume35/p75_81.html)).
هذا، وقد وقف د. الطاهر مكى بشىء من الأناة عند مصطلح "القومية" الذى يدخل فى تعريف "الأدب المقارن" فى قولنا إن الأدب المقارن يقوم على المقابلة بين الآداب القومية المختلفة، محاولا أن يستكشف أبعاد هذا المصطلح وما يمكن أن يثيره من مشكلات، وأطال وأجاد، لكنه فى نهاية المطاف ترك الأمر دون حسم. لقد تساءل قائلا: "ماذا نفهم من مصطلح "أدب قومى"؟ ما الحدود التى إذا تعديناها جاز لنا أن نتحدث عن أدب أجنبى وعن تأثُّر به أو تأثير فيه؟ هل يقوم التحديد على أسس سياسية وتاريخية أو على أسس لغوية خالصة؟"، ليجيب بأنه "بعد تأمل جادّ يمكن القول إن الاحتمال الثانى أكثر قربا وأدق منهجية وأسهل تطبيقا لأن الحدود اللغوية كانت على امتداد التاريخ أكثر ثباتا وأقل تقلبا: مَدًّا وجَزْرًا من الحدود السياسية". ثم ضرب مثالا من ألمانيا التى كانت كيانا سياسيا واحدا إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم قُسِّمت إلى دولتين بعدها لكنهما ظلتا مع هذا تتكلمان لغة واحدة، ومن ثم لا يمكن أن نقارن بين أدبهما بمفهوم الأدب المقارن. إلا أنه برغم ذلك لم يتوقف عند هذه النتيجة، بل استمر يستعرض أوضاعا أخرى تختلف عن وضع الألمانتين: منها مثلا وضع الجزائريين الذين يكتبون أدبهم بالغة الفرنسية رغم أنهم ليسوا فرنسيين، ومنها وضع الهنود الذي يكتبون أدبهم باللغة الإنجليزية رغم أنهم ليسوا إنجليزا. ومنها وضع الأدباء الأمريكان، فهم يكتبون أدبهم بالإنجليزية رغم أنهم ليسوا إنجليزا، وكذلك معظم أدباء أمريكا اللاتينية، فهم يكتبون أدبهم باللغة الإسبانية رغم أنهم ليسوا إسبانا. ومنها أيضا وضع الأدباء الكنديين الذين يستخدمون اللغة الإنجليزية، وهى ليست اللغة الوحيدة التى يتحدثها أو يكتب بها الكَنَدِيّون، بل تَشْرَكُها فى ذلك اللغةُ الفرنسيةُ. ومثلُهم الأدباءُ السويسريون، الذين لا يكتبون أدبهم بلغة واحدة، بل بلغات ثلاث هى الفرنسية والألمانية والإيطالية... وهكذا. وهو يشير هنا إلى أن عددا من الباحثين الأمريكان يرى أن الأدب الأمريكى والأدب الإنجليزى ليسا أدبا واحدا بل أدبين مختلفين لأننا بصدد أمتين متباينتين ثقافيا، ومن ثم أدبيا (الأدب المقارن- أصوله وتطوره ومناهجه/ 237- 241).
والدكتور الطاهر مكى بهذا، وإن بدأ بجعل اللغة هى الفيصل فى تحديد الهوية القومية، وهو ما قاله قبلاً د. محمد غنيمى هلال، الذى يؤكد أن "الحدود الأصيلة بين الآداب القومية هى اللغات، فالكاتب أو الشاعر إذا كتب بالعربية عددنا أدبه عربيا مهما كان جنسه البشرى الذى انحدر منه" (الأدب المقارن/ دار نهضة مصر/ القاهرة/ 1977م/ 15)، وما زال يقول به كذلك المقارنون العرب عموما كالدكتور محمد السعيد جمال الدين مثلا، الذى يقرر ما قرره المرحوم هلال من أن "الحدود الأصلية بين الآداب القومية هى اللغات، فالكاتب أو الشاعر إذا كتب بالعربية عددنا أدبه عربيا مهما كان جنسه البشرى الذى انحدر منه، ولذلك يُعَدّ ما كتبه المؤلفون الفُرْس الذين دونوا مؤلفاتهم وآثارهم باللغة العربية داخلا فى دائرة الأدب العربى لا الفارسى" (الأدب المقارن- دراسات تطبيقية فى الأدبين العربى والفارسى/ ط 2/ دار الاتحاد للطباعة/ 1417هـ- 1996م/ 5. ومثل د. هلال ود. مكى ود. جمال الدين فى ذلك د. أحمد أبو زيد/ التمهيد الذى كتبه لعدد مجلة "عالم الفكر" الخاص بالأدب المقارن لشهور أكتوبر ونوفمبر وديسمبر 1980م/ 8)، أقول إن الدكتور الطاهر مكى بهذا قد عاد فتركنا فى حيرة من أمرنا، بل ربما فى عماية منه، حين أثار المشكلات السالفة الذكر دون أن يجيب على الأسئلة الشائكة التى طرحها.
إن الأدباء العرب على سبيل المثال الذين يصطنعون فى إبداعهم لغة القرآن لا يمثلون، فيما أتصور، أدنى مشكلة فى تطابق اللغة والقومية، فنحن كلنا ندين بدين واحد، ونصطنع لغة واحدة فى كتابتنا وفى حياتنا اليومية على السواء، بل إن الأقليات التى لها لغة أخرى إلى جانب العربية تتكلم هى أيضا لغة يعرب، فضلا عن أن التاريخ القريب والبعيد واحد أو متشابه على الأقل. وبالمثل فإن العادات والتقاليد هى أيضا واحدة، إن لم يكن من أجل شىء فمن أجل أنها فى معظمها مستمدة من الإسلام. كما أننا نعيش فى منطقة واحدة متلاصقين لا متقاربين فقط، إلى جانب أننا جميعا نتطلع إلى أن تقوم بيننا فى يوم من الأيام وحدة تجمعنا وتقوّينا وتكفل لنا الاحترام الدولى مثلما كان الحال من قبل حين كانت هناك دولة واحدة، أو عدة دول تخضع (ولو خضوعا اسميا) لخليفةٍ واحد. وفوق كل ذلك فإن الإسلام الذى ندين به يدعونا ويلحف فى الدعاء إلى أن نعتصم بالتعاون والتساند والتواصل والأخوّة الدينية، وأن نبتعد عن أى شىء يمكن أن يهدد هذه الوحدة أو يلحق بها الضرر، ونحن بحمد الله ما زلنا نستمسك بديننا رغم وجود أقلية دينية هنا أو جماعة تختلف فى اتجاهاتها الفكرية أو السياسية عن التيار العام الهادر هناك، مما لا يمكن أن يخلو منه أى بلد لأن النقاء مستحيل، وبخاصة فى هذا العصر الذى زاد فيه تجاور الاتجاهات الثقافية وتعايش الديانات داخل حدود الوطن الواحد.
هذا عن الأدباء العرب الذين يعيشون فى الوطن العربى ويبدعون أدبهم باللغة العربية، لكن ماذا عن العرب الذين يعيشون فى أمريكا مثلا ويكتبون أدبهم باللغة الإنجليزية، أو فى فرنسا ويكتبون أدبهم باللغة الفرنسية؟ وماذا عن الكُرْد الذين يعيشون فى العراق مثلا ويبدعون أدبهم باللغة الكردية، أو البربر الذين يعيشون فى بلاد المغرب العربى ويكتبون أدبهم بالأمازيغية؟ وماذا عن الفرس الذين يكتبون أدبهم باللغة العربية؟ إن المسألة فى كل حالة من هذه الحالات تحتاج إلى تأنٍّ فى التحليل ومرونةٍ فى التفكير، وربما لم نصل بعد ذلك كله إلى حلٍّ مُرْضٍ، إذ دائما ما توجد على الحدود الفاصلة بين المفاهيم والمبادئ حالاتٌ تشكّل علامة استفهام وقلق، ولا يصل الباحث بشأنها إلى شىء حاسم.
فأما فى حالة الكُرْد الذين يكتبون أدبهم باللغة الكردية فأرى أن يُطْلَق على ما يكتبون: "الأدب الكردى"، حيث تتطابق فى حالتهم اللغة والعرق. ومثلهم فى ذلك البربر الذين يكتبون أدبهم بالأمازيغية، فيسمَّى هذا الأدب بــ"الأدب الأمازيغى". لكن الأمر يختلف فى حالة العرب الذين يعيشون فى فرنسا ويصطنعون لأدبهم الفرنسية ولكنهم لا يكتبون إلا عن بلادهم الأولى ومشاكل المجتمعات التى وفدوا منها، ولا ينتمون إلى القومية الفرنسية ولا يشعرون من الناحية السياسية أنهم فرنسيون حتى لو تجنسوا بالفرنسية. والدليل على هذا أن أعمالهم إنما تتناول أوطانهم وأوضاع شعوبهم التى نزحوا منها سواء كان ذلك النزوح نزوحا أبديا أو مؤقتا. إن العبرة هنا بمضمون الأدب وروحه وطعمه وتوجهاته واهتماماته، وعلى هذا نقول عن ذلك اللون من الكتابة إنه "أدب عربى مكتوب بالفرنسية". وهذا الأدب يمكن أن يكون محل دراسةٍ مقارِنةٍ مع الأدب الفرنسى، ولكن من ناحية أخرى هدفها التعرف إلى مدى اختلاف أسلوب الكاتب عن الأسلوب الفرنسى الأصيل أو اتفاقه معه فى نكهته ومفرداته وتراكيبه وعباراته وصوره. ومثله ما يكتبه الأدباء الهنود أو أدباء جنوب افريقيا فى بلادهم بالإنجليزية، إذ إن أعمالهم فى هذه الحالة إنما ترتبط ببلادهم ومجتمعاتها وتاريخها وتطلعاتها ومشاكلها وعاداتها وتقاليدها وأديانها وحياتها اليومية لا ببلاد جون بول. ولكن إذا كان الأديب من هذا النوع يعيش فى فرنسا مثلا أو بريطانيا واندمج اندماجا تاما فى الوسط الجديد وأضحى يعتنق ما يعتنقه أصحاب ذلك الوسط ويردد آراءهم ويتخذ مواقفهم وينطلق من رؤيتهم الحضارية والقومية وينصبغ بصبغتهم الاجتماعية ونسى وطنه وقوميته القديمة ولم يعد يهتم بمشكلات الأمة التى كان ينتسب إليها من قبل... إلخ، فعندئذ فالمنطق يقتضى إلحاقه بالأدب الذى يصطنع لغته إذن.
أما أمريكا، التى يُدْرَس أدبها عادة على أنه جزء من الأدب الإنجليزى، فهناك من باحثيها، كما رأينا، من يناضل ضد الفكرة القائلة بأن ما يكتبه الأمريكان والإنجليز هو أدب واحد، "لأننا بصدد أمتين متباينتين سلكتا منذ القرن التاسع عشر طريقا ثقافيا، وبالتالى: أدبيا، متباعدا تماما، ويَرَوْنَ أن إنتاجهما الأدبى يدخل فى مجال الأدب المقارن على الرغم من أنهما مكتوبان فى اللغة نفسها" (د. الطاهر مكى/ الأدب المقارن- أصوله وتطوره ومناهجه/ 240). ولا شك أن أمامنا فى هذه الحالة قوميتين مختلفتين لا تتطلعان إلى قيام وحدة بينهما، إن لم يكن بسبب أى شىء آخر فبسبب المسافة الشاسعة التى تفصل بين الشعبين، كما أن بينهما تاريخا من الصراع والحروب، فضلا عن الاختلاف فى مضمون الأدبين وروحيهما واهتمامات كل منهما وطعمه مما عليه المعوَّل الأكبر فى مثل هذا التمييز كما قلنا من قبل. ومِثْلُ أمريكا فى ذلك الأمر القارّةُ الأسترالية. باختصار نخرج من هذا بأنه فى حالة تطابق اللغة والقومية أو الوطن لدى الأديب فحينئذ فلا مشكلة، أما إذا كان ثمة تعارض فالعبرة بالشعور القومى للكاتب واتجاهاته وهمومه وبمضمون العمل الإبداعى وروحه. لكن هل ترانى قلت الكلمة الفَصْل فى هذا السبيل؟ لا أظن، بل هى مجرد وجهة نظر ينبغى أن تُدْرَس وتحلَّل وتُبْدَى فيها الآراء، وهذا كل ما أستطيع أن أقوله، ولا أزيد.
كذلك أثار د. محمد السعيد جمال الدين نقطة جديرة بالتأمل والبحث، إذ يرى أن نشوء علم "الأدب المقارن" فى القرن التاسع عشر يُعَدّ مفارقة تستوقف النظر: "والحق أننا نعجب لنشأة هذا العلم فى أوربا فى وقت سادتها روح العصبية القومية ونشبت الحروب بين دولها، وكان التنازع والتكالب على اكتساب المغانم الاستعمارية على أشده بينها، مما عمّق فكرة الأثرة القومية والعصبية المقيتة فى نفوس الشعوب الأوربية، وأخذ كل واحد من هذه الشعوب ينظر إلى الآخر نظرة العداء والازدراء. ووجه العجب هنا أن طبيعة الأدب المقارن لا تتفق مطلقا مع روح التعصب والأثرة القومية، فهو يقف فى الوسط ليرصد التيارات الفكرية المتبادَلة بين الآداب المختلفة، ويرقب عوامل التأثير والتأثر فيما بينها، فكيف يتسنى لهذا العلم أن يقوم بمهمته هذه فى ظل جو مشبع بعوامل الاستعلاء والتميز القومى؟... كيف يمكن لهذا العلم أن يُعْنَى بدراسة نقاط الالتقاء بين الآداب والسمات المشتركة بينها فى وقت كان هَمّ كل أمة من هذه الأمم الأوربية منحصرًا فى بيان أوجه الاختلاف والتعارض بين أدبها وآداب غيرها، وفى أن أدبها هو الأكثر كمالا وفضلا؟ لقد كان المزاج الأوربى الذى ساد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مشبَّعا بأسباب التنافر والتباعد لا بمظاهرالتآزر والتقارب. حقا لقد كانت هناك نقط التقاء توحِّد بين الأدباء الأوربيين فى ذلك الوقت، إذ كانوا جميعا يَرَوْنَ فى شعراء اليونان واللاتين القدماء مَثَلهم الأعلى الذى يتعين عليهم أن يحتذوه، إلا أن روح القومية التى سادت فى ذلك الوقت كانت تعصف بكل رغبة فى التسليم بتبادل التأثير بين الآداب الأوربية بعضها وبعض.
لكن ظهرت فى ألمانيا فى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر حركة نادت بــ"الأدب المقارن" حيث تتجمع الآداب المختلفة كلها فى أدب عالمى واحد يبدو وكأنه نهر يرفده كل أدب من الآداب القومية بأسمى ما لديه من نتاج إبداعى وقيم إنسانية وفنية. وكان زعيم هذا الاتجاه الشاعر الألمانى جوته (1749- 1832م)، الذى عد نفسه نموذجا تتجمع فيه صفة العالمية، فلقد كان مطلعا على الآداب الأوربية متمثلا قيمها واتجاهاتها، ومدّ بصره إلى خارج الحدود الأوربية الضيقة المضطربة فوجد فى الآداب الشرقية الإسلامية عاملا رحبا لا نهائيا من الطهر والطمأنينة بدا له وكأنه قبس من نور النبوة، كما وجد منبعا صافيا من الإبداع والإلهام المتجدد عبّر عنه بوضوح فى ديوان سماه: "الديوان الشرقى للمؤلف الغربى" كتب فى مقدمته: "هذه باقة من القصائد يرسلها الغرب إلى الشرق، ويتبين من هذا الديوان أن الغرب قد ضاق بروحانيته الضعيفة الباردة فتطلع إلى الاقتباس من صدر الشرق". ولقد استطاع جوته بثقافته العميقة الواسعة ومكانته البارزة وقدرته الفذة على الإبداع أن يجعل فكرة التواصل بين الآداب الأوربية خاصة، والآداب كلها بعامة، تستقر فى الأذهان وتصبح من الأمور المسلَّمة التى لا تقبل الجدل على الرغم من طغيان العصبية القومية فى أوربا... وهكذا بدت دعوة "الأدب العالمى" وكأنها كانت بمثابة تمهيد طَبَعِىّ لنشوء فكرة "الأدب المقارن"..." (د. محمد السعيد جمال الدين/ الأدب المقارن- دراسات تطبيقية فى الأدبين العربى والفارسى/ ط 2/ دار الاتحاد للطباعة/ 1417هـ- 1996م/ 7- 11).
والواقع أنه لا ينبغى أن يكون ثمة عجب ولا يحزنون، إذ من قال إن "الأدب المقارن" قد نشأ، وهدفه التقريب بين الشعوب والأمم على أساس من روح الأخوة؟ إن هناك فرقا كبيرا بين رغبة بعض العلماء والمفكرين فى أن يؤدى الأدب المقارن إلى نشوء هذه الروح وبين استجابة النفوس البشرية التى تمارسه وتشتغل (أو على الأقل: تهتم) به لهذه الروح. ذلك أنه كان هناك دائما، وسيظل هناك دائما، فجوة بين المثال والواقع كبرت هذه الفجوة أم صغرت، فهذه هى طبيعة "الطبيعة البشرية". وعلى أية حال فهناك عوامل أخرى للأدب المقارن كانت وما زالت وراء الاهتمام بهذا الفرع من فروع البحث: منها إرضاء الفضول البشرى الذى يريد أن يعرف من أين جاء هذا العنصر أو ذاك إلى ذاك الأدب أو هذا، وإلى أين يمكن أن يذهب بعد ذلك. ومنها أيضا الرغبة الفطرية فى المقارنة بين المتشابهات والمتخالفات فى أى شيئين من جنس واحد، إن لم يكن من أجل شىء فمن أجل إرضاء النزعة العقلية المقارَنيّة التى لا تهدأ عند بعض الناس إلا إذا اشتغلت، ولا ترتاح إذا بقيت خاملة لا وظيفة لها. ثم هم، بعد هذا كله، لا يمكنهم أن يَنْسَوْا قوميتهم ولا حبهم لبلادهم وشعوبهم ولا إيثارهم لحضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم وأذواقهم وفنونهم وآدابهم، وبخاصة إذا كانوا ينتمون إلى أمم قوية تتطلع إلى جر الأمم الأخرى وراءها كأنها القاطرة وعرباتها، ولا تريد لأحد أن يخالف عن رأيها ولا أن يكون له ذوق يتميز عن ذوقها، بَلْهَ يمتاز عليه. أما الكلام والتشدق به فما أسهله، لكن الكلام وحده لا يجعل الأمنيّات حقيقةً واقعةً مُحْتَرَمةً من الجميع! وإذا كانت الطبيعة البشرية لم يستعص عليها أن تتلاعب بالدين ذاته وأن تحوّله إلى أداة للتكسب والخداع والقتل والتدمير فى كثير من الأحيان، أفنظن أن الأدب المقارن سوف يصمد أمامها ويكون عندها أقدس وأجلّ وأكثر تبجيلا؟
وفى كلام رينيه ويليك التالى ما يؤكد ما قلته، فقد ذكر أنه، وإن كان ظهور الأدب المقارن قد جاء رد فعل ضد القومية الضيقة التى ميزت الكثير من بحوث القرن التاسع عشر احتجاجا ضد الانعزالية لدى الكثير من مؤرخى الآداب الأوربية، فضلا عن تصدر التبحر فى هذا العلم من بعض العلماء الذين يقعون على مفترق الطرق بين الشعوب أو على الحدود بين شعبين على الأقل، أى ينتمون مثلا لأبوين من بلدين أوربيين مختلفين، فإن "هذه الرغبة الأصيلة فى أن يعمل دارس الأدب المقارن كوسيطٍ بين الشعوب وكمصلحٍ لذَاتِ بَيْنِها غالبا ما طمسته وشوهته المشاعر القومية الملتهبة التى سادت فى تلك الفترة وفى ذلك الموقع... (و)هذا الدافع، الوطنى فى أساسه، الذى يكمن خلف العديد من دراسات الأدب المقارن فى فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها أدى إلى نظام غريب من مسك الدفاتر الثقافية وإلى الرغبة فى تنمية مدَّخَرات أمة الباحث عن طريق إثبات أكبر عدد ممكن من التأثيرات التى أثّرتها أمته على الشعوب الأخرى، أو عن طريق إثبات أن أمة الكاتب قد هضمت أعمال أحد العظماء الغرباء وفهمته أكثر من أى أمة أخرى"... ثم مضى ويليك فأعطانا أمثلة على هذا التعصب القومى من واقع الدراسات الأدبية المقارنة فى فرنسا وأمريكا (رينيه ويليك/ مفاهيم نقدية/ ترجمة د. محمد عصفور/ 366- 269). خلاصة القول إن الشعارات واللافتات المرفوعة، أو حتى العوامل والبواعث التى تكمن وراء نشوء عملٍ ما شىء، والواقع الذى ينتهى إليه هذا العمل أو يُسَاق نحوه سَوْقًا شىء آخر. باختصار: الطبيعة البشرية هى هى الطبيعة البشرية، ولا أحسبها ستتغير فى المستقبل حتى لو دخلت تطورات جذرية على التكوين البيولوجى للإنسان كما يلمح بعض العلماء الآن اعتمادا على ما يظنونه أو يرجونه من إمكانات التناسخ البشرى.
وهل تغير الأوربيون فصاروا أكثر تواضعا ورحمة ورحابة أفق حضارى وثقافى، وهم الذين بلوروا "الأدب المقارن" ومارسوه حتى الآن على مدار عشرات السنين ورفعوا لواء العالمية والكوكبية وما أدراك من هذا الكلام الكبير الذى حين نأتى إلى الواقع فإننا لا نرى منه شيئا؟ إنهم لا يريدون أن يَرَوْا إلا ثقافتهم وأذواقهم ونظمهم، وبخاصة أمريكا، التى لا تعرف فى فرض رؤيتها على الآخرين إلا الدمار والقتل والسلاح النووى! فليقل الغربيون أو غيرهم ما شاؤوا، فليس على الكلام من حرج، لكن المهم هو التنفيذ على أرض الواقع والحقيقة. والأدب المقارن ما هو إلا علم من العلوم يمكن أن يُسْتَغَلّ استغلالا حسنا، ويمكن أيضا أن يُسْتَغَلّ استغلالا سيئا، والعبرة بالنية والإرادة عند ممارسيه، مع ملاحظة أننا مهما بذلنا من جهد فى سبيل التخلص من الأنانية القومية فلن ننجح تمام النجاح مثلما لن ننجح إذا ذهبنا نحاول التخلص تماما من أنايتنا الفردية الشخصية، وحسْبنا أن نخفف من غُلَوائها ونكفكف من شططها فلا يجىء التعصب ظالما لا يُحْتَمَل. وهذا هو محمد أركون نفسه، على رغم كل تحمسه لما عند الغربيين، يقرر أن "تدريس الأدب المقارن في الجامعات الأوروبية لا يتعرض لدراسة الأدب العربي والإيراني وغيرهما. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالفلسفة التي ازدهرت في السياق الإسلامي بين القرنين الثامن والثاني عشر الميلادي، فإن أحدا لا يهتم بها في الغرب. والعلوم الاجتماعية المختصة بدراسة الأديان لا تزال مستمرة في تجاهلها للإسلام أو تخصص له مكانة ضئيلة وهامشية" (انظر، فى موقع "المعرفة" على المشباك، عرض إبراهيم غرابية لكتاب محمد أركون: "الإسلام، أوروبا، الغرب- رهانات المعنى وإرادات الهيمنة")، وهو ما يرينا على نحو أو آخر أن الظن بـأن طبيعة الأدب المقارن من شأنها القضاء التلقائى على التعصب القومى أو الدينى هو ظن لا يقوم على أساس.
بالتأكيد سوف يساعدنا الأدب المقارن على مزيد من فهم بعضنا بعضا، لكنه لن ينجح فى قلع ما غُرِس فى أغوار نفوسنا العميقة منذ أول الخلق. إن الغربيين بوجه عام، بحسب الرطانة الجديدة، لا يريدون "مثاقفة" بينهم وبين الآخرين، بل يريدون فى أقل القليل غزوهم ثقافيا. ولعل من الخير الاستعانة بالفقرة التالية، وهى من مقال على المشباك للدكتور مسعود عشوش بعنوان "المثاقفة أبرز آليّات حوار الحضارات" فى موقعه: "يمنِتا: yemenitta"، لتوضيح ما أقصد قوله: "في الأصل المثاقفة هي عملية التغيير أو التطور الثقافي الذي يطرأ حين تدخل جماعات من الناس أو شعوب بأكملها تنتمي إلى ثقافتين مختلفتين في اتصال وتفاعل يترتب عليهما حدوث تغيرات في الأنماط الثقافية الأصلية السائدة في الجماعات كلها أو بعضها. والمثاقفة، بعكس الغزو الثقافي الذي يتضمن في طياته الرغبة في محو الآخر وإلحاقه وفرض التبعية عليه ومعاملته بنظرة فوقية عدوانية متغطرسة، تقوم على الندّية والاحترام والتسامح والاعتراف بخصوصية الآخر واختلافه، وفي إطارها تتفاعل الجماعات والشعوب وتتواصل بهدف الاغتناء المتبادل. لهذا فهي تفترض الثقة والرغبة في التواصل والتقدم والتطور واكتساب العلم والمعرفة. وإذا كانت الشعوب تسعى سعيا تجاه المثاقفة فهي ترفض أشكال الغزو الثقافي كافة. وقد عبر المهاتما غاندي عن ذلك قائلاً: "إنني أفتح نوافذي للشمس والريح، ولكنني أتحدى أية ريح أن تقتلعني من جذوري". لهذا فالمثاقفة في هذا المعنى تعد رافدًا مهمًّا تسعى كل أمةٍ من خلاله إلى معرفة الآخر واستثمار ما لديه من قيم ومعطيات إنسانية وحضارية، وإلى تنمية كيانها الثقافي بشكلٍ خلاق وغير مُضِرٍّ بمقومات الهوية القومية وثوابتها".
ولعل ما كتبه شاهو سعيد عن دور الأدب المقارن فى حوار الحضارات أن يكون أقرب إلى واقع الأمر سواء فيما يتعلق بالطبيعة البشرية أو بقدرات ذلك الفرع من فروع المعرفة. قال فى بحث له على المشباك بعنوان "الأدب المقارن ومساهمته فى حوار الثقافات" يمكن القارئ أن يجده على الرابط التالى: www.sardam.info/Sardam%20Al%20Arabi/8/10.htm: "كلما اتجهت الأنظار نحو عالمية الأدب والثقافة الانسانية أو ما يسمى بــ"حوار الحضارات والتفاعل بين الهويات الثقافية المختلفة"، كلما برزت أهمية الأدب المقارن باعتباره جسرا من جسور ذلك التفاعل. من هذا المنطلق نحاول في هذا البحث إلقاء الضوء على الدور الذي يمكن أن يضطلع به الأدب المقارن خصوصا في عصرنا الراهن الذي بدأت فيه المعرفة الانسانية تدخل مرحلة من الاندماج العالمي الأعمق بفضل الشبكات الكونية للاتصالات والإعلام والعلاقات الاقتصادية والتفاعلات الحضارية والاجتماعية بين الشعوب والثقافات، والتي تندرج في بعض الجوانب ضمن ظاهرة العولمة وآثارها على المستويات المختلفة. ولكنْ قبل التطرق إلى هذه القضية نحاول أن نقف بشكل سريع عند جوهر الرسالة الإنسانية التي وُلِد الأدب المقارن في الأصل من أجل ادائها، و الذي أدى إلى بروز تساؤلات حول الوجه العالمي للإبداعات الأدبية المنصبة في خدمة الإنسانية جمعاء، وتوثيق أواصر الحوار المشترك بين شعوبها وثقافاتها". الأمر إذن لا يخرج عن دائرة الاحتمال والإمكان، وهو ما يعنى أن الأدب المقارن قد ينجح فى الوصول إلى الغاية المبتغاة منه، وقد يفشل كما قلنا سابقا.
ومن هنا نجد الكاتب فى نهاية مقاله يعود لطرح القضية من خلال السؤال التالى: "ما هدف الدراسة في الأدب المقارن؟"، ثم يتابع قائلا: "للإجابة عن هذا السؤال نقترح جملة من المهام التي يمكن أن يضطلع بها الأدب المقارن في العصر الراهن، وذلك في مجالات عدة يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو الآتي: 1- الحوار: يمكن للأدب المقارن أن يمثل جسرا للحوار بين الثقافات المختلفة من خلال إيجاد مواطن التأثير والتأثر بين النصوص الإبداعية لتلك الثقافات وتشخيص نقاط الاختلاف والائتلاف بين الأنظمة الثقافية والأدبية المختلفة. 2- التركيز على البعد الإنساني للأدب: وذلك من خلال إبراز التقارب بين الغايات القصوى التي ترمى إليها الآداب القومية المختلفة، والتي قد تتباين من حيث وسائل التعبير واللغة، لكنها تتآلف من حيث الغاية. 3- الترجمة: إذ يرى العديد من الباحثين أن هناك ارتباطا وثيقا بين مستقبل الأدب المقارن وازدهار الترجمة في العديد من بقاع العالم، فدراسات الترجمة تنبع من الدراسات اللغوية والأدبية والتاريخية والأنثروبولوجية والنفسية والاجتماعية والعرقية وغيرها، ودراسات الترجمة تقوم على افتراض أساسي، وهو أن الترجمة ليست نشاطًا هامشيًّا، ولكنها كانت وما تزال قوة تغيير قادرة على تشكيل تاريخ الثقافة. لقد اعتبر الأدب المقارن الترجمة فرعا صغيرا من فروعه، ولكن هذا الافتراض يثير الآن تساؤلات كثيرة لأن ما قام به بعض العلماء يوضح... أن الترجمة تكون على درجة كبيرة من الأهمية في أوقات التحولات الثقافية العظيمة". كما أن الترجمة تُعَدّ عملية بحث دائم عن الجوانب اللغوية والدلالية بين لغتين أو أكثر لتحديد الارتباطات اللغوية بين النتاجات المختلفة، وبالتالي يمكن للترجمة أن تجد الأواصر المشتركة بين اللغات المختلفة التي قد تبدو متباينة من حيث النطق وقواعد اللغة، لكنها تشترك في تجسيد الحالات النفسية والاجتماعية التي تنبع من أحاسيس ومشاعر إنسانية مشتركة. 4- التكافؤ الثقافي: ويتحقق من خلال ردم الهوة بين الثقافات المتباينة ورفع الغبن التاريخي الذي لحق ببعض الثقافات، لأن التاريخ لم يشهد تساويًا وتكافؤًا كاملاً في مستوى تطور الحضارات، بل جعل ثقافات بعض الشعوب ثقافات مهيمنة ومسيطرة، فيما جعل بعض الثقافات ثقافات مقلِّدة او مهمَّشة. عليه فإن مهمة الأدب المقارن هي خلق حالة من التوازن و التكافؤ بين الآداب و الثقافات المختلفة".
وليس بيننا وبين الكاتب بشأن هذا الكلام اختلاف يُذْكَر ما دام الأمر، كما يرى القارئ، لا يخرج عن دائرة الممكن والمحتمل، وهو ما قلناه مبكرا. وهذه النقطة من الأهمية بمكان كيلا نعلّق على الأدب المقارن كثيرا من الآمال الجامحة التى ينتهى الإخفاق فى تحقيقها إلى الإحباط واليأس، ناهيك عن الجهود الكثيرة التى تكون قد ضاعت على الفاضى، ومن ثم فالحصافة تقتضى أن نكون واقعيين فلا نحلّق فى سماوات الخيال والأوهام. ولقد ظل الغرب يدرسنا ويدرس حضارتنا مئات السنين وأصبح يعرف عنا كل شىء، وبطريقة منهجية، فهل ساعد ذلك على أن تكون علاقته بنا طيبة واحترامه لخصوصيتنا كبيرا؟ بالعكس، فقد ظل أيضا طوال تلك الفترة يمارس علينا مؤامراته الخبيثة، ويعمل بكل السبل على تحقير ثقافتنا، ويدّعِى علينا وعلى كل ما يتصل بنا الادعاءات، ويحاول بجميع قواه إفقادنا ثقتنا بأنفسنا وبماضينا وحاضرنا كله. ولو كانت معرفة الآخر مُعِينة بالضرورة على التفاهم السليم واحترام تراثه وخصوصيته لكان حظنا مع الغرب أفضل من ذلك كثيرا. أمّا ونحن نحترق منذ قرون بناره وكيده اللئيم وعدوانه الوحشى الذى لا يعرف هوادة ولا خجلا، فلْنعرف جيدا أن الأدب المقارن ليس من شأنه أن يُصْلِح الأحوال ضربة لازب، بل يعتمد الأمر على النية والإرادة كما سبق أن وضحت. ولقد كانت نية الغرب من وراء هذه المعرفة سيئة منذ البداية، إذ دخل هذا الميدان وهدفه البغى والعدوان، وإن لم يمنع هذا من وجود شرفاء فيه ذوى ضمائر حية وإنسانية راقية، بَيْدَ أننا حين نتكلم هنا عن الغرب فالمقصود هو الاتجاه العام بين شعوبه وأفراده، وبخاصة بين الساسة والمثقفين الذين يعاونون أولئك الساسة ويجعلون علمهم فى خدمة مخططاتهم، وكذلك الجماهير التى تأتى بهم إلى سُدّة الحكم وتصوّت لهم وتضع يدها فى أيديهم لبلوغ تلك الغايات الأثيمة.
ولكى يكون القارئ على بينة مما نقول فإننا ننقل له هنا الفقرة التالية من مقال د. سامية عبد العزيز أستاذة الحضارة الفرنسية بآداب المنوفية، وهو موجود على المشباك، وعنوانه "الدينى و السياسى فى التعامل الغربى مع القرآن- رؤية شاملة". وهذه هى الفقرة المذكورة: "يقول الكاتب جان بودريار (J. Baudrillard) فى كتابه المعنون: "قوى الجحيم" الصادر فى أواخر أكتوبر 2002م: "إن ما يدور حاليا هو أكثر من عنف، إنه احتدام العنف ، إنه عنف يتزايد كالعدوى فى سلسلة من ردود الأفعال التى تهزم كل الحصانات وكل إمكانات المقاومة... لأن الإسلام هو النقيض الحيوى للقيم الغربية، و لذلك فهو يمثل العدو رقم واحد... وفيما يتعلق بالتعصّب الدينى المسيحى فإن كل الأشكال المخالفة له تُعَدّ هرطقة، وبذلك فيتعيّن عليها إما أن تدخل النظام العالمى الجديد طواعية أو قهرا أو عليها أن تختفى. إن مهمة الغرب الآن هى أن يتم إخضاع الثقافات المختلفة بشتى الوسائل إلى القانون الوحشى المسمى: التساوى... فالهدف هو التقليل من المناطق المنشقة واستبعاد كل المساحات المعترضة، سواء أكانت مساحات جغرافية أم مساحات فى المجال العقائدى". و يؤكد سيرج لاتوش (Serge Latouche) فى كتابه حول "تغريب العالم" قائلا: "إن سيطرة الغرب لم تتمثل فقط فى فرض الاستعمار، و إنما فى التبشير والسيطرة على السوق والاستيلاء على المواد الخام والبحث عن أراض جديدة و الحصول على أيادٍ عاملة رخيصة، و اقتلاع الهوية التراثية الدينية، والقيام بالغرس الثقافى الخاص بالغزاة، مستعينين بشتى وسائل الإعلام وغيره... إن عملية تغريب العالم هى أولا وأخيرا عبارة عن حرب صليبية، والحروب الصليبية هى أكثر العمليات جنونا فى كل ما قام به البشر. إن عملية تغريب العالم كانت ولا تزال عملية تنصير، ومعظم عمليات التنمية فى العالم الثالث تتم مباشرة أو بصورة غير مباشرة تحت علامة الصليب".




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى