خالد بوزهر- ابراهيم أحنصال - توظيف الدين لصالح رأس المال والتبعية: من الإيمان البسيط إلى الدين السياسي.. ( الجزء الأول)

مـقــدمــة :

يشكل ظهور وانتشار جماعات الدين السياسي واحدة من الأسلحة الفتاكة بيد الامبريالية، التي طوَّعت المؤسسة الدينية لخدمة الرأسمالية وتكريس علاقات إنتاجها، واستخدامها في إجهاض تطلعات الشعوب واحتجاز تطورها وتفتيت وحدتها بإذكاء النعرات الدينية أو المذهبية أو الطائفية بحسب شروط البلد المستهدف، وتفكيك الأوطان أو تخريبها من الداخل وفق طروحات “الفوضى الخلاقة” التي صاغتها وطبقتها الامبريالية الأمريكية؛ وبالموازاة مع ذلك لا تألوا جهدا في تخدير وعي الجماهير بفتاوى نكوصية تنشر جراثيم وأوبئة من قبيل: “جهاد النكاح”…!(1) إن الأدوار الخطيرة التي تضطلع بها هذه الجماعات لا سيما في العقد الأخير، تفرض علينا ضرورة دراستها لأهميتها ولفهمها ومواجهتها، وهذا لن يتأتى إلا بربطها بالواقع المادي الاجتماعي والتاريخي الذي هو الشرط المحدد لحركة انبنائها وسيرورتها، فما هو المحتوى الرجعي لهذه الجماعات؟ وما هي ارتباطاتها السياسية والتنظيمية وغطاؤها الاديولوجي؟

تـمـهـيــد :

ليس هناك من توصيف أو تعريف وحيد لجماعات الدين السياسي التي تتخذ من الإسلام شعارا لها، فهي وإن كانت في مجملها تُسبغ على نفسها بصيغة الجمع صفة “الإسلاميين” أو “الصحوة الإسلامية”… فإنها ما أن يقع افتراق أو اصطراع بينها حتى يزعم كل منها لنفسه أنه يمثل “الإسلام الحقيقي”؛ وهنا نجد العديد من الدارسين لهذه الظاهرة ينسفون بالتحليل الخلط والتضليل الذي تتضمنه هذه التسميات. فـ”الصحوة الإسلامية” تستوجب التساؤل:» هل هي صحوة كمية، أم كيفية؟ (…) هل ازدياد العدد وحده صحوة، أم أن الصحوة الحقيقية هي ارتفاع مستوى الفكر وقدرته على إثبات مرونته ومواجهته للمشاكل المتجددة في عالم سريع التعثر؟ وإذا كان المضمون الحقيقي لفكر معظم الجماعات الإسلامية المعاصرة أشد تخلفا بكثير مما كانت عليه أفكار الجماعات المناظرة لها منذ نصف قرن، أيكون من حقنا أن نسمي هذا صحوة لمجرد أن أعداداً متزايدة تنضم إلى الموكب مطأطئة الرأس، لا يدفعها سوى الإذعان والطاعة فحسب؟».(2) فتسمية إسلامي تشبه رسم تجاري في ملكية وكيل حصري يُخضِع الدين والعقيدة بما يخدم أهدافه السياسية، ويجعل منها أنجع وسيلة لتعبئة واستقطاب وتهييج الأتباع. غير أن »ما يقدم لنا بصفته “فكرا إسلاميا” لا يستحق التسمية، فليس له طابع فكر ديني صحيح على نمط لاهوت التحرير المسيحي. و”الهوية الإسلامية” التي تكوِّن جوهر هذا الفكر المزعوم لا تعدو كونها احترام الشريعة والممارسات الطقوسية لا غير. لذلك أعتقد أن الوصف الصحيح لهذه التيارات هو اعتبارها “إسلاما سياسيا”، بمعنى توظيف سياسي للانتماء الإسلامي الشكلي، وليس فكرا إسلاميا».(3)

إن التدقيق في التسمية والصفة المطابقة للحقيقة الفعلية لهذه الجماعات هو ضرورة منهجية، من شأنها أن تساعد على فهم طبيعتها وارتباطاتها ومنطلقاتها وأهدافها وأسلوب عملها. فـ»الإسلامي صفة، والصفة تعني تمييز الشيء عما عداه، وإذا أضفت إليها أل فهذا يعني [أنها] تستغرق الشيء كله، فإذا قلت الفلسطينيين فهذا يعني أن غيرهم ليسوا كذلك. (…) لهذا أنا أقول التأسلم لأن التاء إذا أضيفت إلى الفعل وكانت في آخره صارت متميزا وإذا كانت في أوله صارت علامة، كأن تقول: تأقلما، تأرجح، تأمرك، أي تظاهر كأنه أمريكي ولكنه ليس كذلك. فهؤلاء يتظاهرون بأنهم صحيح الإسلام فليس أمامنا إلا أن نكون معهم أو نكون كفرة».(4) نحن هنا بصدد جماعات سياسية تُخضع الإسلام للتمويه على توجهاتها الرجعية ولفرض سطوتها ومصادرتها لأي معارضة ضدها، لذا »من الظلم أن ننعت مثل هذا الفكر بأنه إسلامي. فدرءاً لكل التباس، وحتى لا نلحق بالفكر الإسلامي ظلماً يرفضه، ونرفضه، وحرصاً منا على دقيق الكلام، رأينا من الأفضل تمييز ذلك الفكر الذي ننقد بأنه متأسلم، لا إسلامي».(5) لأن هذا الفكر الظلامي »يظلم، بتأسلمه، الإسلام والفكر معاً».(6) وجذير بالذكر أن التوظيف والاستخدام السياسي الرجعي للدين لصالح سلطة رأس المال ليس حصراً في الدين الإسلامي، بل له غرار في المسيحية كما يتجلى بشكل أكبر مع المحافظية الجديدة في فترة حكم جورج بوش الصغير وحاليا في فترة حكم دونالد ترامب، وحتى إن الحركة الصهيونية هي «الأكثر استخداماً للدين في العصر الحديث. فالكيان هو أول دولة في العصر الحديث تسمي نفسها باسم الدين وتحصر سكانها في اليهود كدين وتحاول توليد أمة من الدين رغم أن مستوطنيها مستجلبون من عشرات القوميات. (…) ناهيك عن الزعم المعروف بأن “اليهود شعب الله المختار”.»(7) إن قوى الدين السياسي وهي تتشارك في توظيف الدين لأهداف سياسية، إنما تخدم في نهاية التحليل مصالح طبقية. وهذه الظاهرة «الدين السياسي أو تسييس الدين متلازمة مع الأزمات الاقتصادية على صعيد عالمي».(8)

1) في الملابسات الاجتماعية والارتباطات السياسية:

ارتبط ظهور ونشوء جماعات الدين السياسي الإسلامي المعاصرة بمرحلة دخل فيها نمط الانتاج الرأسمالي طور أزمته وانحطاطه، فكانت إفرازا لهذا الانحطاط وأحد تجلياته في البنيات الاجتماعية التبعية؛ ومع احتدام التناقضات الاقتصادية والسياسية للرأسمالية الامبريالية وتفاقم أزمتها واستفحال حروبها الاستعمارية، وجدت في هذه الحركات أفضل خادم ومنفذ لمشاريعها التوسعية في إخضاع الشعوب لسيطرتها ونهب ثرواتها. فكان »الإسلام السياسي من فعل الامبريالية الكامل مدعوما بالطبع من قوى الرجعية الظلامية ومن الطبقات الكومبرادورية التابعة له».(9) ولقد جرت أولى محاولات »اختراع الإسلام السياسي الحديث في الهند على يد المستشرقين لخدمة السلطة البريطانية، ثم تبناه وبشر به المودودي الباكستاني بكامله. وكان الهدف هو (إثبات) أن المؤمن بالإسلام لا يستطيع العيش في دولة غير إسلامية -وبذلك يمهدون لتقسيم البلاد- لأن الإسلام لا يعترف بالفصل بين الدين والدولة حسب زعمهم…»(10)

وعلى ذات المنوال تأسست جماعة (الإخوان المسلمون) بمصر في 1928 بإيعاز ودعم من الاحتلال البريطاني، لمواجهة المد الوطني الاستقلالي الذي عبرت عنه انتفاضات 1919 بقيادة حزب الوفد. ولم يشذ عن هذه القاعدة في الارتباط العضوي بالامبريالية أيٌّ من قوى الدين السياسي الإسلامي سواء كتنظيمات أو حيثما وصلت إلى السلطة كأنظمة حاكمة. فبدءا من حرب الإبادة التي ارتكبوها ضد مئات الآلاف من أعضاء الحزب الشيوعي الإندونيسي بين سنوات 1965 و1967، مرورا بـ”المجاهدين” الذين جندتهم المخابرات الأمريكية CIA لإسقاط دولة أفغانستان ونظام حكمها الوطني بقيادة نجيب الله، ثم نظام ضياء الحق العميل بباكستان، وصولا إلى السودان مع (الجبهة الإسلامية القومية)، دون إغفال الصومال الذي تقاسمه “المجاهدون”، وكذلك تنصيب (أحزاب إسلامية) ضمن تركيبة “مجلس الحكم” الذي عينه (بريمر) في ظل الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق في 2003…؛ ففي هذه التجارب وغيرها قدمت جماعات الدين السياسي خدمات هائلة للامريالية في تسهيل احتلالها للأوطان وتمزيق مجتمعاتها والنكوص بها وتكريس التبعية، لينتهي بهم المطاف إلى عملاء بشكل مباشر وسافر في خدمة العدو الصهيوني.

ففي مصر قام (محمد مرسي) الإخواني بصفته رئيسا للجمهورية المصرية قبل الإطاحة به بتعيين سفير يمثل الدولة لدى الكيان الصهيوني، حيث خاطب السفاح (شيمون بيريز) في رسالة تحمل تاريخ 19 يوليو 2012 استهلها بـ: »عزيزي وصديقي العظيم.. لما لي من شديد الرغبة في أن أطور علاقات المحبة التي تربط لحسن الحظ بلدينا…»، ليختمها بالقول: »كان لي الشرف بأن أعرب لفخامتكم عما أتمناه لشخصكم من السعادة، ولبلادكم من الرغد. صديقكم الوفي محمد مرسي«. وجدير بالإشارة أنه كان لـ(حركة النور) في مصر فتوى أعلنها لسان حالهم أنهم لا يرون مانعا في الجلوس مع “إسرائيل”، وهم والإخوان لم يتورعوا حين كانوا في سدة الحكم عن تأكيد التزامهم باتفاقية العار والخيانة “كامب ديفيد”. حتى أن مرجعا إخوانيا (يوسف القرضاوي) نادى ما بين قاعدتي (السيلية) و(العيديد) في مستعمرة قطر، إلى “الجهاد” في ليبيا وسوريا تحت راية وقيادة حلف الناتو، ووجه نداء متضرعاً إلى الامبريالية الأمريكية “أن تقف وقفة لله في سوريا”!

وفي تركيا التي يقودها نظام إخواني (حزب العدالة والتنمية) الفاشي تعززت علاقتها مع العدو الصهيوني على جميع المستويات اقتصاديا، سياسيا، عسكريا واستخباراتيا، ناهيك عن دورها في الحلف الاستعماري (الناتو) سيما في غزو وتدمير واحتلال كل من: ليبيا وسوريا وقبلهما أفغانستان… أما في القطر المغربي فحزب (العدالة والتنمية) المتأسلم استقبل في مؤتمره “الوطني” السابع المنعقد في 2012، الصهيوني “عوفير برانشتاين” الذي كان مستشارا للمجرم “إسحاق رابين”، وهذا الحزب الظلامي لم يكتف بهذا الحد، إنما إمعانا في الخيانة والعمالة قام بتوشيح هذا الصهيوني بدرع الحزب. كما أن أحد أقطابه وعمدته على مدينة مكناس ويدعى (أبو بكر بلكورة)، اعترف بااقترافه زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة قبل عقود بذريعة «من أجل الصلاة في القدس»، والأخطر في اعترافه بالتطبيع قوله أنه «زار القدس (…) ولم يقم بزيارة إسرائيل».(11) كما لو أن الأراضي الفلسطينية التي اغتصبها الكيان اللقيط من غير القدس ويقيم عليها دولته لا تعد احتلالا، ودون أن يوضح إن كان دخل “للصلاة في القدس” من بوابة مطار “بنغوريون” وأي خاتم وُضع على جواز سفره، وما إن كانت أسلحة جنود العدو التي وفرت له الحماية لحظتها كانت تقطر بالدم العربي الفلسطيني المراق! لقد أصدر قيادي من نفس الحزب (أحمد الريسوني) الرئيس الحالي خلفا لـ(يوسف القرضاوي) لما يسمى “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، وهو من مؤسسي حركة “التوحيد والإصلاح” وحزب “العدالة والتنمية” الفرع المحلي لـ”الإخوان المسلمين”، أصدر فتوى دعا فيها يوم السبت 10 غشت 2019 إلى زيارة القدس المحتلة واعتبرها: “جائزة ومطلوبة إذا كانت بنية دعم المقدسيين المرابطين وعمارتها بأفواج المسلمين”، وذلك بأن “يرابطوا ولو لساعات في المسجد الأقصى إلى جانب الفلسطينيين لدعمهم”. كما لم يفته حث الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 للمشاركة في مؤسسات العدو: “الكنيسيت” لأن “مبدأ المشاركة والحضور والتأثير هو الأصل إلا إذا تبين أنه لا يحقق شيئا”، مستشهدا بأن “الفلسطينيين بما فيهم الحركة الإسلامية يشاركون في الانتخابات”!

أما الجماعات “الجهادية” كـ(جبهة النصرة، داعش، أنصار بيت المقدس، بوكو حرام…) فهي “تجاهد” في كل مكان وفي أي اتجاه ترسمه لها الامبريالية في تمزيق الأوطان وتعميم القتل الجماعي ضد الشعوب المفقرة ونشر الخراب دون أن تطلق رصاصة واحدة ضد الكيان الصهيوني. كيف لا يكون هذا دِين ودَيْدَن هذه جماعات الدين السياسي وأحد أبرز أقطابها (محمد متولي شعراوي) سبق أن أعلن: أنه سجد حمدا لله وشكرا على هزيمة جمال عبد الناصر في حزيران 1967 أمام الكيان الصهيوني، لأنه »إذا ما انتصرنا لكنا قد فُتنَّا في ديننا من الشيوعية».(12) وآلية القياس عنده أن مصر كان على رأسها شيوعي والشيوعية هي الالحاد، أما “إسرائيل” فهي من أهل الكتاب، فانتصر الإيمان على الالحاد!

الارتباط بالامبريالية ثم العمالة للكيان الصهيوني، ينسجم تمام الإنسجام مع ماضي هذه الجماعات الظلامية في انفصالها التام عن الكفاحات التحريرية التي خاضتها الشعوب ضد الاستعمار القديم والجديد، إذ »لا نجد في تاريخ السلفية السنية المعاصرة قصة نضال وطني كالذي خاضته الجماهير في معظم البلدان العربية بقيادة العلمانيين».(13) ومفيد في هذا السياق استحضار تصريح لـ(عبد السلام ياسين) مرشد جماعة “العدل والإحسان” يكشف من خلاله كيف أنه: »في 1965 عِشتُ ما قد نطلق عليه إسم “أزمة روحية”، صحوة عفوية، (…) عندما كان عمري 38 سنة، مررت فجأة بهذه الأزمة. (…) لكي أنطلق في البحث عن الله».(14) هكذا نجد عبد السلام ياسين، كغيره من متأسلمي المغرب، الذي هو من مواليد 1928 لم ينخرط البتة في نضالات الحركة الوطنية ضد الاستعمار ولم يشارك لا في المقاومة المسلحة ولا في جيش التحرير، والأكثر من ذلك أنه في الوقت الذي كانت فيه الجماهير الكادحة تسطر بالدم القاني ومئات الشهداء واحدة من أعظم ملاحم الصمود في وجه قمع النظام الملكي الفاشي في انتفاضة 23 مارس 1965، كان عبد السلام ياسين منشغلا بأزمته الروحية ومأخوذا بالبحث عن خلاصه الفردي!

2) الجماعات الظلامية بالمغرب في خدمة النظام الاستبدادي:

أ‌- ظهرت الجماعات الظلامية المتأسلمة في المغرب بشكل متأخر زمنيا عن شقيقاتها في المشرق العربي، إذ تعتبر (الشبيبة الإسلامية) التي تأسست في 1969 وحصلت على الاعتراف القانوني في نونبر 1972 بمثابة الجماعة الأصل التي سيتفرع عنها أغلب الجماعات. وبات مؤكدا أن هذه الجماعة عجنتها وصاغتها مخابرات النظام الحاكم لمواجهة تصاعد ومد اليسار الثوري من جهة، ولأجل احتواء تناقضات النظام لا سيما تداعيات أزمته التي تفجرت مع الانقلابين العسكريين في (1971 و1972)؛ بالاضافة إلى عوامل ومؤثرات خارجية لعل أبرزها الطفرة النفطية التي جعلت أنظمة عميلة كالنظام السعودي يوظف عائدات النفط الهائلة في نشر ما بات يصطلح عليه بإسلام البترو-CIA، كوصفة سياسية وإديولوجية لضرب وإجهاض كل توجه تحرري ديمقراطي وتقدمي، واستئصال كل فكر علمي عقلاني أو فن وإبداع متنور. كما استخدمت الدول النفطية ما تحصلت عليه من ريع في تغطية عجز الميزان التجاري للدول غير النفطية في ما أُسمي “دول الفائض ودول العجز” لكن تلك الأموال لم تُستخدم للتنمية بل لتثبيت الأنظمة التابعة. في هذا السياق ظهرت (الشبيبة الإسلامية) التي ركزت تعبئتها ضد المعارضين السياسيين للنظام الرجعي تحت ستار: »محاربة الالحاد الذي يبثه اليسار الماركسي».(15) فنفذت عدة عمليات دموية ضد يساريين كالاعتداء على عبد الرحيم المنياوي الأستاذ بثانوية مولاي عبد الله بالدار البيضاء سنة 1974، لتتوج إجرامها باغتيال المناضل الشهيد عمر بنجلون في 18 دجنبر 1975. لقد وفرت السلطات الحاكمة لأذنابها من شيوخ الجماعة الإجرامية (عبد الكريم مطيع، عبد العزيز النعماني…) الغطاء الأمني والسياسي حيث تم إيواء بعضهم في مزرعة لـ(عبد الكريم الخطيب) قبل أن يتم تسفيرهم إلى السعودية، وكان ذلك أولى حلقات توظيف نظام الحكم لصنيعته من الجماعات الظلامية في الاغتيالات السياسية لمعارضيه؛ ومعلوم أن الشهيد عمر بنجلون تعرض للاعتقال والتعذيب عدة مرات وصدر في حقه حكم بالإعدام في مارس 1964 ونجا منه، لتكون فيما بعد الجماعة الظلامية الأداة المنفذة له.

بيد أن (الشبيبة الإسلامية) مع غياب مرشدها عبد الكريم مطيع وانفضاح مراميها أخذت في التصدع والتشظي مع بداية الثمانينات، فأسس مجموعة من المنشقين (جمعية الجماعة الإسلامية) في 1983 يرأسها (عبد الإله بنكيران) الذي أصبح رئيسا للحكومة فيما بعد -مكافأة له على إجرامه- والذي وضح أهداف جماعته: »أنه آن الأوان لنظهر للناس على حقيقتنا ونمر لمرحلة الهجوم بعد مرحلة الدفاع، فنكشف الشيوعيين الملاحدة المتسترين بالدفاع عن مصالح الجماهير الكادحة، والليبراليين الفجار المتسترين بحقوق الإنسان ومعاني الحرية…».(16) وفي رسالة يتملق فيها وزير الداخلية آنذاك (ادريس البصري) مؤرخة بتاريخ 17 مارس 1986 من بين ما جاء فيها: »…وجدت هذه الدعوة في تلك الأيام [يقصد فترة تأسيس جماعته] إقبالا كبيرا من الشباب، وخصوصا بعد أن تصدى الشباب المسلم الملتزم للشباب اليساري في الثانويات والجامعات«، ثم يتوسل وزير الداخلية فيقول: »وإننا نأمل أن تتداركنا عناية الله على يدكم (…)، ومن الواجب في رأينا أن يقوم بين المسؤولين والدعاة تعاون قوي لما فيه خير بلدنا».(17) نفس الجماعة ستغير اسمها في 1992 ليصبح (حركة الاصلاح والتجديد) ثم اسم (التوحيد والاصلاح) ابتداء من 1996 بعد اندماج (رابطة المستقبل الإسلامي) فيها، لتتخذ في نفس السنة من حزب (الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية) واجهتها السياسية؛ والذي ينحدر من الحزب اليميني الفاشي (الحركة الشعبية) الذي أسسه في 1958 المحجوبي أحرضان الذي كان ضابطا في جيش الاحتلال الفرنسي، وعبد الكريم الخطيب الذي سبق الإشارة أعلاه إلى ضلوعه في عملية اغتيال الشهيد عمر بنجلون، كما أنهما معاً كانا من أبرز مؤسسي (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) المعروفة اختصارا بـ”فديك”Front de défense des institutions constitutionnelles في مارس 1963 -وهي جبهة يمينية رجعية للدفاع عن النظام الديكتاتوري- وبعد انشقاق (الخطيب) أسس حزب (الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية) في 1967 الذي سيحمل فيما بعد إسم حزب (العدالة والتنمية) ابتداء من 1998.

ب‌- لقد سبقت الإشارة أعلاه إلى أن عبد السلام ياسين شيخ جماعة (العدل والاحسان) لم يستقطبه النضال الوطني لمقاومة الاحتلال الفرنسي والاسباني، كما لم تحركه انتفاضة 23 مارس 1965 التي استشهد فيها مئات الأطفال والشباب والعمال بمدينة الدار البيضاء كي ينخرط في النضال الجماهيري من أجل تحقيق مطالب الشعب في الحرية وتقرير المصير؛ إنما كان منذوراً للبحث عن خلاصه الروحي الفردي، فولى وجهه شطر (الزاوية البوتشيشية) وملازمة شيخها (حمزة بن العباس) لمدة ست سنوات، إلا أن وفاة الشيخ ستجعل المريد في موقع الاختلاف مع الابن (حمزة بن العباس) حول زعامة الزاوية التي حسمت لصالح الابن. فانفصل عبد السلام ياسين ليشق مسارا خاصا به، فخط رسالة إلى الملك بعنوان “الإسلام أو الطوفان” في 1974 وفيها يقدم نصائح للملك (الحسن الثاني) أودع بسببها السجن لثلاث سنوات وستة أشهر. والجدير بالإشارة أن الرسالة تضمنت من بين نصائحه: »… إنك يا حبيبي يا حفيد رسول الله(*) تؤمن بالله واليوم الآخر فدعني أَصدُقك وأنصحك لكي لا تهوى في النار.. تبايع مجلسا منتخبا انتخابا إسلاميا تستشير في أمره رجال الدعوة بعد أن تمنع كل الأحزاب السياسية (كذا)، وتفسح المجال لرجال الدعوة يُفهمون للأمة فتنتها وسبيل خلاصها».(18) إحلال ديكتاتورية مغلفة بالدين “تمنع كل الأحزاب السياسية” ويكون فيها الأمر والنهي لـ”رجال الدعوة” باعتبارهم “أهل الحل والعقد”، هي الدولة الثيوقراطية التي تنشدها كل الجماعات المتأسلمة بشكل سافر أو مضمر لدواعي تاكتيكية، ولها نماذج مطبقة في السودان مع جعفر النميري ثم عمر حسن البشير وحسن الترابي وكذلك سلطة طالبان في أفغانستان… ولعل النموذج الأنصع يتجلى في “الدولة الإسلامية بالعراق والشام” تحت حكم (أمير المؤمنين) أبو بكر البغدادي.

في فبراير 1979 أصدر عبد السلام ياسين مجلة “الجماعة” التي ستكون النواة الأولى لتنظيم سيحمل اسم (أسرة الجماعة) ابتداء من شتنبر 1981، والتي غيرت من اسمها عدة مرات قصد الحصول على الصفة القانونية دون نتيجة، حيث تحولت إلى اسم (جمعية الجماعة) في شتنبر 1982 ثم (جمعية الجماعة الخيرية) ذات الصبغة السياسية في أبريل 1983، لتستقر على (جماعة العدل والاحسان) منذ شتنبر 1987. وقد انخرطت جماعة (العدل والاحسان) على غرار باقي الجماعات الظلامية المتأسلمة والأنظمة الرجعية في تأييد حملة “الجهاد” الذي أوجدته وحركته ووجهته الامبريالية الأمريكية في أفغانستان، إذ أسبغت عليه صبغة دينية مقدسة للتمويه على حقيقته وأهدافه الاقتصادية والسياسية والاديولوجية التي حققتها أمريكا من خلال أدواتها العميلة، تقول: »إن أفغانستان وقضيتها تحتلان من أنفسنا أبرز مكان، فهي حرب العقيدة الإسلامية ضد العقيدة والفكر الشيوعيين، وموقف الحكومات المتخاذلة، يثير في النفس العجب العجاب».(19) وتحت نفس الستار -محاربة الماركسيين والشيوعيين!- شنت ميليشيا (العدل والإحسان) غزوات مدججة بمختلف الأسلحة البيضاء على المواقع الجامعية للفتك بالنقابة الطلابية المكافحة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ولاستئصال كل فعل نضالي لها، وكان من نتائج هذه الفاشية المتأسلمة إزهاق روحي المناضلين: الشهيد المعطي بوملي في 1991 بالموقع الجامعي بوجدة، والشهيد بنعيسى آيت الجيد في 1993 في موقع فاس ناهيك عن مئات الجرحى؛ وهو الشيء الذي يعكس ويعبر عن حقيقة هذه الجماعات في خدمة وتنفيذ مخططات النظام الحاكم. وجدير بالإشارة أن جماعة (العدل والإحسان) لعبت دور اللغم المزروع في جسم انتفاضة حركة 20 فبراير في 2011، ليتم تفجير صاعقها على يد السفارة الأمريكية بالرباط عندما كانت الجماعة تعقد لقاءات “سرية” ترتب عنها الانسحاب من حركة 20 فبراير في دجنبر 2011.

“محاربة الشيوعية” و”محاربة الماركسيين”! هذا هو الهدف المركزي ومبرر الوجود للجماعات الظلامية بمختلف تشكيلاتها كما وقفنا أعلاه عند العينة: (أ ثم ب)، وغير خاف أن هذا الشعار/ الهدف صاغته الامبريالية واعتمدته وطبقته جميع الأنظمة والحركات والتوجهات الفاشية والنازية والصهيونية والمتأسلمة… منذ عقود خلت.

3) “إمارة المؤمنين” الواجهة الدينية لشرعنة الاستبداد :

ليس صدفة أو اعتباطا الالتقاء والتطابق الحاصل بين الجماعات الظلامية والنظام الديكتاتوري في المغرب، من حيث إضفائها للطابع الديني على مواقفهم وممارستهم السياسية الرجعية، بحيث يجمعون على الخلط وعدم الفصل بين السياسة والدين، ويتنافسون على ترويض الأخير وتكييفه لما يخدم المصالح والأهداف السياسية لكل طرف منهم. يقول الملك (الحسن الثاني): »الفرق بين الدين والدنيا غير موجود فالحكومة علماء والعلماء حكومة، لأن الدين والدنيا مختلطان، واليوم الذي تفرق فيه دولة إسلامية بين دينها ودنياها، فلنصل عليها صلاة الجنازة مسبقا».(20) ونفس التلفيق تعتمده جماعة (العدل والاحسان) بتأكيدها أنه: »لا تمييز عندنا ولا فرق بين الدين والسياسة».(21) ومن باب الافادة والاحاطة نستحضر المواقف التنويرية التي عبر عنها علي عبد الرازق في 1925 وهو شيخ أزهري مصري، في مواجهة محاولات تنصيب الملك أحمد فؤاد تحت إشراف الاحتلال البريطاني “خليفة للمسلمين”، بعد أن ألغيت الخلافة في تركيا عام 1924 مع إجراءات كمال أتاتورك؛ نقرأ له في هذا الصدد: »التمس بين دفتي المصحف الكريم أثرا ظاهرا أو خفيا لما يريدون أن يعتقدوا من صفة سياسية للدين الإسلامي، ثم التمس ذلك الأثر مبلغ جهدك بين أحاديث النبي (…)، فإنك لن تجد عليها برهانا، إلا ظنا، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا».(22)

لجوء نظام الحكم والحماعات الظلامية إلى التنافس في استغلال الدين كمظهر من مظاهر الاديولوجية هو للتمويه ولطمس حقيقة الصراع الطبقي، وفي خضم هذا التنافس الذي يسعى فيه كل طرف احتكار ما يطلقون عليه “الإسلام الحقيقي” لصالحه تنشأ بينهم تناقضات ثانوية، غير أنها لا تنفي كونهم جميعا يتموضعون في خدمة مشاريع الامبريالية ومصالح الطبقة البرجوازية التبعية، ويقفون إطلاقا ضد كفاح الشعب من عمال وفلاحين صغار في التحرر والاشتراكية. وكعينة لإحدى أوجه هذا التنافس في احتكار استغلال الدين واعتماد فهم معين له، نظمت الدولة تحت إشراف ورعاية “أمير المؤمنين” باعتباره “حامي الحمى والدين”، جامعة صيفية “للصحوة الإسلامية” التي عقدت دورتها الأولى بالدار البيضاء من 28 غشت إلى 3 شتنبر 1990، وكان موضوعها هو: “الصحوة الإسلامية: واقع وآفاق”، كما عقدت دورتها الثانية كذلك بالدار البيضاء من 18 شتنبر إلى 20 شتنبر 1991…؛ وأيضا ما يطلق عليه “الدروس الحسنية الرمضانية” التي ترعاها الدولة طيلة كل شهر رمضان، حيث يشكل منبرا يقدم رموز التأسلم من أنحاء مختلفة من العالم للترويج لنفس الاديولوجية الرجعية، وقس على ذلك خطب الجُمَعِ والأعياد…

بيد أن نظام الحكم ينفرد باحتياط ديني وخزان بشري هائل، يتجلى في إخضاع الكثير من الزوايا له والتي يصل نفوذ بعضها خارج أنحاء البلاد، سيما وأن بعض هذه الزوايا لها تراث في الارتباط بالسلطة الحاكمة كما هو تحالفها مع السلطان المولى يوسف في العداء والحرب المشتركة التي خاضها وقادها الاحتلال الفرنسي والاسباني لاجهاض مشروع وجمهورية محمد بن عبد الكريم الخطابي (1921 -1925). وإحدى خاصيات هذه الزوايا -على سبيل المثال: الكتانية والبوتشيشية…- راهنا هو إظهر ابتعادها عن الانشغال بالسياسة وانقطاعها إلى الأوراد والأذكار، لكن هذا ليس إلا للتغطية على ارتباطها وتبعيتها وخدمتها للنظام الحاكم في جميع الاجراءات والمواقف والمخططات السياسية وغيرها التي يتخذها، ولعل هذا ما يفسر الهبات المالية والعينية الباهضة التي تمنح لشيوخ هذه الزوايا.

أما صفة “أمير المؤمنين” التي يضفيها النظام الحاكم على رأس هرمه وجعله مركزا للافتاء الديني، فهو يصور نفسه أنه فوق الطبقات ومنزه عن صراعاتها، ويتخذ موقع الحَكَم بين “رعيته” فيما شَجَر بينها. و”أمير المؤمنين” له طابع “مقدس” يستمده من أسطورة نسبه الشريف على عكس “الرعية” التي لا حسب ولا نسب لها، ولا يجمع بين الموقعين إلا ثنائية ضدية: فـ”أمير المؤمنين” مشمول بالجلالة/ المطلق/ المقدس/ النسب الشريف… فيما الشعب يلغى ويصبح مجرد رعية مقرونة بالنسبي/ مدنسة النسب…؛ ألم يتعرض العديد من المناضلين للاعتقال والمحاكمة بتهمة “المس بالمقدسات”؟! و”الرعية” ينوب عنها قسرا “أهل الحل والعقد” أي خدام النظام في تقديم البيعة. »…والأمير الذي ينجح في تشغيل هذا الاجراء يصبح إمام الأمة الإسلامية. وبهذا يتولى السلطة بصفته خليفة الله وظله في الأرض».(23)

4) تعدد الأسماء لا ينفي الالتقاء في المنطلقات والاشتراك في الأهداف:

إن تنامي وصعود الجماعات الظلامية المتأسلمة ووصولها إلى الحكم في أكثر من بلد بدعم من الإمبريالية، ليست في الحقيقة إلا التجلي الواضح للأزمة البنيوية التي تعيشها البورجوازيات الهجينة في البنيات الاجتماعية الكولونيالية، التي تتوسل كل ما يؤجل موتها المحتوم، وتناقض شعاراتها الزائفة والمزعومة حول الليبرالية والحداثة ونهج العصرنة. مما يفضح انتهازيتها ويؤكد رجعيتها التي هي منها أحد أوجه موقعها المتخلف في قسمة العمل الدولية، وذيليتها للإمبريالية. وتجد تفسيرها كذلك في الأساس المادي للبنية الاجتماعية الكولونيالية، حيث تتعايش أنماط إنتاج ما قبل رأسمالية مع نمط الإنتاج الرأسمالي المشوه والمفروض قسرا، والذي يسمح بإعادة إنتاجها عبر مجموعة من الميكانيزمات الخاصة والآليات المعقدة تعقد التكوين الاجتماعي نفسه، في تمفصلها معه -الأسلوب الرأسمالي- وتحت سيطرته وتدخله ومراقبته هو بالذات، بالشكل، أو بالأحرى، الأشكال التي يحددها لها، وما الجماعات الدينية سوى أحد إفرازاتها الأكثر تعفنا. فالإرهاب الذي يتخذ لبوس الدين من هذه الزاوية ينمو في بيئات متخلفة، تشكل له الامبريالية عامل تخصيب له، إنه “الاستشراق الإرهابي” إذا استعرنا تعبيرا لعادل سمارة. أما قراءاتها وتفسيراتها المتزمتة فليست سوى تعبيرها الإيديولوجي كما ينعكس ويتبدى لوعيها الزائف، فالواقع المقلوب لا ينتج إلا وعيا مقلوبا «فبالإضافة إلى شرور العصر الحالي تبهضنا سلسلة من الشرور الموروثة الناجمة عن بقاء أنماط إنتاج بالية عفا عليها الزمن، مع ما يرافقها بالضرورة من علاقات سياسية واجتماعية تنتمي إلى عصر غابر. إننا لا نعاني من الأحياء بل من الأموات أيضا، فالميت يمسك بتلابيب الحي».(24)

تختلف الأسماء والمسميات، ولكن تبقى الأهداف مشتركة وآليات اشتغالها متشابكة:

1- مواجهة أي مد ثوري ومحاصرته، وهذا ما صرح به (زيبوكنو برجنسكي) مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد جيمي كارتر، بإعلانه «السلفية الإسلامية أصبحت هي الأداة الإيديولوجية الرئيسية ضد الشيوعية»، مثلما كانت ولازالت الوهابية هي الدرع الإيديولوجي للرجعيات العربية في مواجهة حركة التحرر الوطني.

2- إقامة إمارات دينية شديدة التخلف ممركزة الاستبداد (أمير الجماعة) على أساس طائفي ومذهبي منغلق، تحت يافطة استعادة الخلافة الإسلامية/ النموذج، وأمجادها الغابرة -بمقاييس عصرها- حيث لا تتوانى تحت ذريعة الدفاع عن الدين الإسلامي، وتطبيق شريعته وتنزيل بنود عقيدته (خصوصا عقيدة الولاء والبراء السيئة الذكر) على أرض الواقع، تطبيقا وممارسة لمحاربة الكفر والقضاء على الردة الافتراضيين، وتصفية المخالفين في الرأي، ولا تتورع عن ارتكاب أعمال لا إنسانية وتبرير جرائم بشعة ووحشية. «فالمطلب بالتخلي عن الأوهام، هو المطلب بالتخلي عن الحالة التي تتطلب الأوهام»(25) حسب تعبير ماركس، الذي شخص حالة مشابهة للحالة التي نحن بصدد نقدها في نص رائع من كتابه يقول فيه: «تراهم يلجئون في وجل وسحر، إلى استحضار معطيات الماضي لتخدم مقاصدهم ويستعيرون منها الأسماء والأزياء والشعارات القتالية، كي يمثلوا على مسرح التاريخ مسرحية جديدة في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال القدم وبلغة قديمة مستعارة».(26) كما ونزولا عند رغباتها الذاتية التي تنشطها مجموعة من الاستيهامات المرضية، تتشح بوشاحات “سنية”، ويلبس بعضها مسوحا عثمانية أو مملوكية- ممالكية حتى …إلخ تضيق حينا وتتسع أحيانا، حسب حاجة المنعطف/ النفق المظلم الذي تسير وتتخبط فيه؛ ووفقا للمقاس المفصل من لدن رعاتها الذين يمسكون بخيوط اللعبة جيدا، ويحركونها من وراء الستار. بما ينسجم مع الدور المطلوب منها القيام به، وتماشيا مع المهمة المنوطة بها على بلاط المذبح الإنساني، عبر استعادة سمجة وأكثر دموية لمختلف التجارب التي حكمت سابقا باسم دولة الخلافة الإسلامية. التي خالوها مثالية وذهبية -وهي في حقيقتها لم تكن يوما كذلك- لدرجة بلغت من الإسفاف مبلغا سخيفا وصلت حد إسقاط صفة الاستبداد ودمغة الأوتوقراطية عنها، في قراءة تلفيقية للتاريخ لا يقبلها عقل النظر إلى التاريخ عينه، منزهة إياها من وظيفتها الأساسية كدولة طبقية ذات طبيعة استبدادية تأسست لخدمة الأرستقراطية الحاكمة، وذلك بتجريدها من موضوعيتها التاريخية، وشروطها المادية التي بانتفائها استنفذت مبرر وجودها واستمراريتها. وبالتالي استحالة استعادتها ضمن ظروف وشروط أخرى مغايرة لها تماما في جوهرها وطبيعتها؛ إلا من بعض الاستثناءات والعوارض الهامشية العالقة، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن تكون عاملا حاسما في تحقق تلك الاستعادة المستحيلة. التي يرفضها الواقع لعناده الصلب، وتأبى قوانينه الصارمة الانصياع لمثل هذه الرغبات الذاتية والإسقاطات النفسية المتداعية. «فالتاريخ مشطوب من ذهينيتها» كما أعلن الراحل هادي العلوي. وهو ما سبق أن رسخه ابن خلدون بقوله: «ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام». لا تماثل، إذن، بين بنيتين اجتماعيتين مختلفتين كليا في أشكال وجودهما ومنحى تطورهما، فلكل واحدة منهما آلياتها الداخلية الخاصة بها وشروطها التاريخية التي تؤمن لها تشكلها، وتحدد بالتالي شكل هيكلها ومحتوى مضمونها ونوعية مسارها، حسب قوانين التاريخ الموضوعية. لا تماثل إلا بعملية ذهنية وقفزات سحرية يتوهمها عقل مثالي غيبي يحاول القفز على الواقع بتجاهل حقيقته المادية، وإرجاع كل شيء إلى جوهر كلي -ميتافيزيقي، لا يطاله التغير والتبدل وإن تبدلت الظروف والأحوال، له القدرة والكمال بالمطلق، لأنه الحقيقة المطلقة، والخير كله، وما دونه الباطل والشر كله (بمعناه الماورائي). به تتعرف الذات المغتربة، بعد جوهرتها وأسطرتها، اعتمادا على منطق التماثل ذاته، على ذاتها، إذ تتماثل بذاتها، وينتهي الأمر بها بعد طول اغتراب، للرجوع إلى أصلها ودينها الذي هي منه الفرع والامتداد؛ به تحيا وتستمد سر البقاء، لتكتمل الدائرة وتنغلق على نفسها في نهاية المطاف انغلاقا محكما، لا يتسرب إليه إلا صدى الماضي المؤسطر، حتى لا تغترب من جديد في بيئة غير بيئتها، بانسلاخها عن دينها وأصالتها وماضيها المجيد كما يسوقه فهمها المغلوط، وقراءتها المشوهة للتاريخ بشكل حدثي مناهض للعقل.

أما الاختلاف فحقيقة مادية موضوعية قائم وموجود بالفعل في صلب الواقع الفيزيقي بأشكال تاريخية متنوعة، لأنه أحد قوانينه الطبيعية والاجتماعية، ولا يمكن إلغاؤه لمجرد الرغبة في ذلك، حتى ولو كانت تحمل في طياتها أهدافا ومرامي نبيلة، وتصدر عن نزوع إنساني صادق «فمادية التاريخ أقوى من تغيبه».(27) كما قال الشهيد المأسوف عليه مهدي عامل. كما أن الشعار الفضفاض والغامض الملامح “الإسلام هو الحل”! يبقى استجداءا بئيسا للماضي الغابر ووسيلة شوهاء للاسترزاق السياسي من منطلق انتهازي محض، لأن الواقع شيء والرغبة الذاتية شيء آخر، وقد عارض قطب التصوف الاجتماعي عبد القادر الجيلي/ الجيلاني هذا التوجه وأوصى بالابتعاد عنه قائلا: «لا تبع الدين بالتين، لا تبع دينك تبين السلاطين والملوك والأغنياء وأكلة الحرام، إذا أكلت بدينك اسود قلبك وكيف لا يسود وأنت تعبد الخلق؟ يا مخذول لو كان في قلبك نور لفرقت بين الحرام والشبهة والمباح، وبين ما يسود قلبك وينوره»؛ ونادى بضرورة مواجهة سلطة الدولة، سلطة الدين، وسلطة المال، مقدما صفات الجمال على صفات الجلال. فالإسلام يمكن أن يكون حلا لحاجيات المؤمنين الروحية ومتطلباتهم النفسية، بعد أن كان في بداياته الأولى عامل بناء مجتمع الدولة على أنقاض مجتمع القبيلة، ولا يمكن أن يكون الآن كغيره من الأديان، حلا، أو مفتاحا سحريا للتناقضات الاقتصادية، السياسية، والاجتماعية، لأن ذلك من اختصاص العلم.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى