نادية شنوف - موعد مع الفراق- قصة قصيرة-

شمس تموز تفترش قلب السماء ، الطائرة القادمة من بعيد تطأ أرض العاصمة، ما هي إلّا دقائق معدودات حتّى بزغ ظلُّها من بين الجموع، هاهي تجرُّ حقيبتها الصّغيرة على عجل وتتفقّدُ عقارب معصمها بين الفينة والأُخرى، وكأنّها تستعطفُ الزّمن أن يرأفَ بحالها و يَكُفَّ عن التَّدفُّق!
لم يعدْ يفصلها عن موعدها الذّي انتظرته طيلة سنوات سوى ساعة ونصف من الزّمن، هو نفس الوقت الذي بات يفصلها عن عيد فراقهما العاشر. كانتا متشابهتين إلى حدّ غريب يستدعي الدّهشة، تتكلّمان، تفكّران وتقرّران بنفس الطّريقة ، تريان أُمور الحياة من نفس المنظور حتّى يكاد يجزم كلّ من يراهما أنهما شقيقتان لا صديقتان، لولا شهادتا ميلاديْهما اللّتان تحولان دون ذلك.
في اليوم الذي كتب عليهما الفراق، قرّرتا أن تتحدّيا القدر وتخطوا خطوةً نحو لقاء آخر يبعد بعشر سنوات من الزّمن فتواعدتا في الثاني عشر من تمُّوز الساعة الثالثة زوالًا بمقهى "ميلك بار" بالجزائر الوُسطى.قبل أن تفترقا، أقسمت كل واحدة منهما ألّا تغيب عن الموعد مهما كلّف الأمر.
فور خُرُوجها من المطار استقلّت أوّل تاكسي تصادفها في طريقها و ما إن ركبت على متنها حتى طلبت من السائق أن يسلك أقصر طريق ليأخذها إلى "شارع العربي بن مهيدي" في قلب العاصمة. زاد قلقلها عندما أخبرها السائق أنَّه قد قدم لتوّه من هناك وأنّ الطريق تشهد اكتظاظًا كعادتها، وأنّ حادثًا مروّعًا قد حصل منذ قليل ممّا زاد الطينة بلّة ، امتنعت عن الكلام ولم تنطقْ ببنت شفة ولم ترضخ لإلحاحات السائق الذي حاول أن يتجاذب أطراف الحديث معها، لكنه اصطدم بأبواب قلبها الموصدة .
راحت تفتح حقيبتها وتُخرج المرآة وبعضًا من مستحضرات التجميل محاولةً أن تشغل نفسها و تمحوَ علامات الخوف والحيرة البادية على وجهها و ما إن انعكست صورتها على المرآة حتى راحت تخاطب نفسها: تُرى ماذا ستقولين لها؟ كيف ستخبرينها أنّك نفس المرأة التي أخذت منها زوجها؟ أبعدت المرآة عن وجهها وراحت تتساءل من جديد: هل ستصدّقني إن قلت لها أنني لم أكن أعلم أن المرأة التي قاسمتها زوجها هي نفسها صديقة عمري ورفيقة دربي؟ هل ستسامحني إن أخبرتها أنني سمَّيت ابنتي باسمها؟ وأنّني قرّرت الهروب خوفًا من مواجهتها؟ سأخبرها بكل ما حصل و ستغفر لي خطيئتي، سأخبرها أنّنا التقينا صدفة، وأنه أحبّني لأنني أشبهها وأحببته لأننا نملك نفس الذّوق بالرجال وأنها كانت الأثيرة عنده، نعم، سأخبرها أيضا أننا اكتشفنا هذا بعد أيام من زفافنا حين سألني عن ندبة الجزء الخلفي من بطني، فأخبرته أن صديقتي منحتني فرصة أخرى للحياة.
شوارع العاصمة لا تزال كما تركتْها ولم تتغيّر البتّة! ازدحامٌ خانقٌ يحبس الأنفاس و نرفزة السائقين تزيد الوضع سوءًا.
لقد كلّفها الوصول إلى ذلك المقهى ساعتين من الزمن قضتهما في حيرة وشرود. حين ولجتْ باب "ميلك بار" أصابتها الدّهشة، فلطالما كلّف الظفر بإحدى الطاولات هناك ساعات من الإنتظار، أمّا الآن فالمكان يكاد يخلو من النّاس جالت ببصرها بين الأوجه القليلة المبعثرة هنا وهناك، لكنها لم تجد من كانت تبحث عنه.
توجّهت مباشرة إلى النّادل وسألته إذا ما كانت هنالك امرأة في الثلاثينيات من العمر تنتظرأحدًا منذ نصف ساعة فأجابها باهتمام: لا لم تأت بعد، وراح يراقبها عن كثب.استغربتْ بعدما أحسّتْ من كلامه أنّه كان على علم بموعدهما ، تجاهلت الأمر و اختارت طاولة في زاوية المكان يسمح لها برؤية كل من يدخل إلى المقهى بوضوح، وبدأت تنظر يمينًا وشمالًا تتفقَّد المكان حتّى وقع ناظرها في الجهة المقابلة للمقهى على"مكتبة العالم الثّالث" ، أحبّ الأماكن إليها وإلى صديقتها أيضًا وراحت تجتُّر ذكرياتها بحسرة حتى اغرورقت عيناها.
مرّت ساعة أخرى وهي تنتظر دون جدوى حتّى تسلّل اليأس إلى قلبها وانتابها الحزن والكمد.
في هذه الأثناء، قدم النّادل نحوها وخاطبها:
- سيّدتي، المرأة التي تنتظرينها كانت هنا منذ ستة أشهر..
تقلّصت أسارير وجهها و أصابها الذهول لما سمعت فأدلف النّادل قائلًا:
نعم لقد طلبت مني وكان باد عليها التّعب الشّديد أن أسلّمَ هذه الرسالة إلى امرأة ستأتي إلى هنا في نفس هذا التوقيت، إن هي لم تتمكّن من المجيء..
مدّت يدها وأخذتْ منه الرسالة، فتحتها بيدين مرتجفتين :
صديقتي، لقد كنت الشخص الوحيد الذي افتقدته طيلة هذه السنوات، أستطيع أن أتخيّل ما تفكرين به وتلومين نفسك عليه، لكن لا..، لا تحزني بل كوني سعيدة. لقد أَبَت الحياة إلّا أن تجمع شملنا في قلب رجل واحد..
إن وقعت هاته الرسالة بين يديك فاعلمي أن جرعات الكيماوي قد نكّلت بي حتّى نالت مني.
  • Like
التفاعلات: طلحة محمد

تعليقات

غمرتني السّعادة وتسلّل إلى داخلي أمل وفير حين اعتلى نصّك هذه الصّفحة مرفقا بصورتك المفعمة بالحياة
 
أعلى