سامح قاسم - بالغ الرقة والكياسة كمختل

الدنيا زامتة، وأنفاس الخلق تكبس على صدري الضيق، وبخر المرأة الجالسة إلى جواري أعماني. تمنيت أن تكف عن لعن الأسعار، والمواصلات ورئيسها بالعمل، وزوجها الذي لا يعرف كيف ينفق عليها وهي معززة مكرمة في الخرابة التي يسكناها مع بناتهم الثلاث وولدهما القعيد منذ سنوات بعد حقنه بوصفة طبية خاطئة. المشهد بأكمله غاية في القذارة، والضوضاء التي يحدثها قبض مكابح عجلات المترو عندما يقف عند كل محطة فيصعد الناس وكأنهم يساقون إلى حتفهم. في هذه اللحظة التي تتكرر كل دقيقتين لا أعدم صراخ بنت هرست صدرها يد هائج، أو صياح صاحب أصبع يشوهه "كالو" بعدما خطفت روحه كبسة فردة حذاء رخيص، أو شيخ مذعور لا يسمح له بالفوت من بين أكوام اللحم والوجوه الشرسة فيخشى أن تفوته المحطة. بات المشهد لوحة للجحيم الكل فيها مذعور، مصهور، ونفير المترو عند وقوفه أو مواصلة سيره كمن يعلن معاودة الحساب.
استسلمت لهذا الوضع فلا خلاص، أخذت نفسًا حارًا طويلًا وقبل أن أذفره راعني وجهه الجاد، وشعره الأجعد الأشيب، وياقة قميصه البيضاء، ورابطة عنقه فبدا لي موظفًا كبيرًا وسألت نفسي كيف يرمي نفسه في هذا الجحيم قلت قد يكون بخيلا أو يريد أن يرى كيف يعاني هؤلاء المساكين ومؤكد أنه يرأس العشرات منهم فأراد أن يعرف معاناتهم فيتخفف في مجازاتهم إذا ما أخطأوا أو وصلوا متأخرين في الصباح أو بكروا في الانصراف دون إذن للتنعم بالإياب إلى بيوتهم في سلام، راعني نظافة بذته الرمادية رغم أنني لم أر غير كتفيه لكنها كانت تلمع تحت ضوء المصباح الذي أضاء فجأة عقب هبوط المترو إلى نفق مظلم لا تنعدم منه رائحة المجاري، وخيال الجرزان التي تسير على جدرانه السوداء بالاتساخ. لم أحول عيني عن هذا المحترم إلا عندما صرخت البنت التي عرفت فيما بعد أنها طالبة وبالمناسبة كانت تقف قبالة المحترم وعرفت أن صراخها كان موجها باللوم إلى شاب لكزها دون قصد كما ادعى فأسقط من يدها حقيبة أوراقها وبعد اعتذارات منه وتهدئة بعض الواقفين إلى جوارهما. طلبت البنت منهم أن يفسحوا لها قليلا لتلتقط حقيبتها. غطست البنت ليرتفع صوتها بالصراخ والعويل ونهضت فجأة وهي توجه اللكمات والكفوف للمحترم وهو ينظر لها نظرات ثابتة وحادة وسط ذهول الجميع وتساؤلاتهم بصوت مرتفع "ماذا جرى؟" وقبل أن تجيب بدأ المحترم نوبة ضحك وهو يشير بأصبعه للجميع وكأنه يسخر منهم. صمت الجميع إلا البنت التي لم تتوقف عن صفعه وسبه فسألتها امرأة تقف على مبعدة منها "ماذا فعل لك يا بنت؟" فأجابتها وهي تصرخ "الأستاذ بدون بنطال !" بهت الجميع وأنا معهم وحاول الواقفون حوله الابتعاد عنه وهم يتخبطون ببعضهم. توقف المترو عندما انتصبت عرباته بمحاذاة الرصيف حتى هرول الجميع ليفسحوا للمحترم فنظر إليهم باستعلاء وعاود الضحك بصوت مرتفع وعندما ترك العربة تهافت من لم يروه إلى النظر إليه من النوافذ فوجدناه يخطو وسط ذعر ولعنات وضحكات الوقوف على الرصيف وهو يصفر لحنا شجيا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى