محمد السرغيني - المقبرة والعقم

ـ هذا خط « عين القدس »؟
وأجاب الجابي بغير اكتراث : « نعم » واستمر يوزع التذاكر ويجبي الفرنكات من غير أن تنفرج عن أسنانه آهة حسرة على المساكين الذين يدفعون ثمن التذاكر بتلكو، وانغرز إدريس وسط الزحام في مؤخر الحافلة يتناكب مع الركاب الأنانيين الذين يفسحون المجال لضخامة أجسامهم لتتمدد بحركة توسعية، ولاحظ الركاب ساخطا : « توسعيون » عينيه كانتا تتجهان نحو ساحة « بوجلود » الفائرة بمختلف العفونات : كانت هذه الساحة بمقاهيها ونتوناتها وفضلات الدواب التي تذرعها مرتعا غير آهل إلا بالإنسان الادون، وحتى سيارات المسافرين والحافلات التي ترسو فيها، لم تكن لتنبئ على أنها أعدت لغير الغوغاء.
وحين شبعت عيناه من هذه اللقطة العفنة، اتجه بهما إلى داخل الحافلة، فارتطمتا بوابل من الصرخات اللامجدية، تنصب على رؤوس أطفال يقفزون من بين ذراعي أمهاتهم، ليظهروا جذلهم بركوب الحافلة، كان الركاب من النوع الذي يتناسل كالذباب، فهو يبصق بالأحياء في غير ملل.
واستدار إدريس بحركة يأس إلى الجهة الموازية له، فزكمت أنفه زوبعة مكتومة من الغبار تنفر من كيس من « الخيش » احتل مساحة مقعدين، ولعن واضعا أصابع يسراه على ثقبتي أنفه، ليمنعها من استنشاق هذا الغبار الرائج : « قذارة، لم أعد أحسبني غير بضاعة » وأومأ إلى الجابي قائلا بغضب : «تستطيعون أن تخملوا القار إذا شئتم لكن ليكن ذلك وحده، إما أن تجمعوا بين الإنسان وهذه القذارة، فـ ... « وقفزت من بين شفتيه شتائم نابية، كبتها بكتمان، حيث وضع راحته على فمه، وتنفس ثم تنهد، وأخيرا وجد الرغبة في الكلام : « تكفينا هذه القذارة التي نمسخ بها الأشياء » وسكت، كانت سحنته الغاربة تدل على أن تحت رماده بركانه حاقدا.
وتحركت الحافلة حركة سلحفائية : كانت عضلاتها تئن كما لو كان الصدا قد نخرها منذ عهود سحيقة، وسمع إدريس صوتا متحشرجا ينبعث من كل الحديد الذي تتكون الحافلة من مجموعة، وأحس بآلام الإنسان الادون، وردد : « حتى الحافلات، حتى الحافلات يجب أن نتحرر من نير الطبقية». كانت الحافلة تقطع الطريق الذي يشق المقبرة العتيقة خارج سور البلد، وكان إدريس يزرع عينيه في الحسك اليابس والنباتات الفضولية التي تكسو البقع الخالية من القبور، والقبور المبعثرة في غير نظام : بعضا ناتيء على الأديم، وبعضها متآكل ذهبت الأيام بزخرفاته الرخيصة، وتمنى : « ألا يموت أبدا، من أجل ألا يدفن بطريقة لا إنسانية كهذه ». وأحسس بسؤال ينقر برفق طلبة أذنيه، فالتفت إلى جهة الصوت بحركة مجردة عن كل معنى:
ـ هذه القبور بثور جرب في شريان مدينتنا أليس كذلك؟. ورد إدريس :
ـ ذاك دليل على أن الموت كريه
ـ عندنا فقط، الآخرون، المتحضرون، يموتون بنفس الروعة التي يعيشون بها.
ـ صحيح، ولهذا يحصل منهم على باقة شذية وقبر مريح مزخرف، كل من عجز عن الحصول على ذلك حيا، كثير من الناس عندهم يشتهون أن يموتوا.
كان هذا الصوت صادرا عن رجل يقف إزاء إدريس، ورغم أنهما لم يكونا قد تعارفا قبل هذا، إلا أن هذا التناقض الفاضح أطلق لسانيهما.
ومرت الحافلة بقبر صوفي يعيش في صفحات قليل من الكتب التاريخية، ثم بقبر سياسي دخل التاريخ من الخلف، فأحرق بسعاية آثمة، وجدد قبره اعترافا بانحرافاته، وأخيرا، مرت بجماعة من السواعد والفؤوس تنهش البقعة المنزوية وراء مرج جاف من الأعشاب التي لوحتها حرارة شمس الصيف، ورأى إدريس وجاره أشلاء دقيقة من العظام تتناثر مع ذرات التراب وهو يقفز أثر ضربات المعول الصائبة، وصاح جار إدريس :
ـ حتى العظام لم تستطع أن تجد الراحة والاحترام. فأجاب إدريس بإعجاب :
ـ يقولون، أن المصلحة العامة تزيل القداسة من كل الأشياء.
ـ كان من اللازم أن تأخذ هذه العظام الزمن الكافي من أجل أن تتحول إلى سماد، وهكذا يفيد الإنسان حيا وميتا.
ـ هذه العظام؟ لا أعتقد، أنها ملوثة بالحقد، فلا يمكن إلا أن تكون عقيمة.
ـ هي عظام قبل أن تكون شيئا أخر.
ـ هذا الصوفي، لم يكن أمامه ليحصل على الخبز إلا أن يكون صوفيا، وهذا السياسي، اشتغل مع ملوك اليمين واليسار، وعلى العموم، فسكان جميع هذه القبور قد دجلوا، فهم الذين صنعوا التاريخ ولونوه بالأحمر.
ولم يبد على جار إدريس أنه فهم هذه التأملات ولهذا اعتبرها تجريحا للماضي، وأراد أن يغير مجرى الحديث :
ـ ما هي المصلحة العامة في هدم القبور؟. فرد إدريس بتمعن:
ـ يريدون أن يختطوا طريقا مبلطا واسعا.
ـ إهانة للعظام فظيعة.
ـ أية إهانة أكثر من إظهار الموت بشكل مزر مثل هذا، ومع ذلك ففتح طريق مرصف، يخدم الناحية الجمالية، لتتمتع عيون الأحياء.
وسكت الجار محدقا في الأفق الأغبر، ووقفت الحافلة، ونزل الجار بعد أن نظر بود إلى إدريس علامة على الوداع.
كان إدريس ساهما في المدى الذي تختفي عنده القمم الصغيرة لهضاب تقف حائلا دون أن تسير العين ما وراءها، ومع أن اليبوسة قد مسحت كل بنوعة من الأعشاب التي تتسلق هذه القمم، فإن إدريس قد رأى في كل ذلك ظلاما مأساويا يشوه الأموات ويزري بالأحياء، وهتف في أعماقه : « كل شيء هنا يابس، ولعل قطرات المطر هي الأخرى صادئة : أنها تنزل ولهانة من السحب الراكضة في الأعالي ولكنها لا تبلل، لا تنعش، فهي سموم. والعظام؟ إلى أين تذهب بعد هذا الجفاف؟ » وارتعد فزعا من هذا السؤال وطارده كما يطارد الإنسان حشرة مسمومة، وتقهقر كمن يجهد في تفادي صخرة تصغر وهي تتزحلق من قمة جبل، وذعر، ولكنه لم يلبث أن ركز نظراته داخل الحافلة، وثبت رجليه فوق أرضها المتأرجحة، وشد بجماع راحة يمناه على قضيب حديدي منتصب في شرايينهم: الجابي نظراته قاسية، وكلماته حادة حين يصبها على الذين يحتالون من أجل عدم الدفع عن الصغار، والسائق بقفاه العريضة الكثيرة الخطوط والأسارير، وبطنه الثخن الذي يعترض أحيانا دوران عجلة القيادة، هذا السائق يطيع صفارة الجابي بتخاذل، فينطلق بكسل، وينظر للمرئيات أمامه من وراء الزجاج السميك بكثير من البلاهة، والركاب الذين يكونون المادة الخام لشعب سيء التغذية يعيش الآن ما عاشه الآخرون قبل هذا الوقت، يهتزون مع اهتزازات الحافلة، إذا هي اصطدمت بحفرة في هذه الطريق المنسية.
ولم يعد في استطاعة إدريس أن يتحمل هذه اللقطات المريضة، لم يكن يريد أن يفتح أمام عواطفه اللينة ثغرة للألم باكية، وغادر الحافلة قبل أن يصل إلى المدينة الجديدة، وحين استوى واقفا على الحصى الدقيق قال في نفسه : « هذه رحلة نحو الألم، ولكن هل يرى الآخرون الأشياء كما أراها؟ وهل من جدوى في إن أراها على الشكل، من أجل أن أطرد الجذل من شغاف قلبي؟ »
وبدد برجله كومة صغيرة من الحصباء، وسمع لها خشخشة حزينة، وأخذ يقنع نفسه بأن كل شيء متناقض مع الحقيقة، يجب أن يقابل بكامل الاستهتار، وفعلا، اغتصب ضحكة مفتعلة، وخطا بضع خطوات، وقف بعدها أمام المقبرة الواسعة التي توازي الأسوار التاريخية لمدينة فاس، وأحس بملل: « لم يكن مفروضا أن أمر من هنا، ومع ذلك، فها أنذا جزء من هذه القبور » وشاهد جماعة من الناس ملتحين يغوصون في جلابيب فضفاضة، ينحبون في نغم جنائزي رتيب : « لا إله إلا الله، الله أكبر ... وحين اقتربوا منه، كان النعش الذي يحملونه مسربلا بهيبة الموت، وتخيل أن كل الذين يسيرون وراء هذا النعش يستجدون أتعابهم : بعضهم يؤجلها لليوم الأخير، وبعضهم يتقاضاها نقدا، وتخلى إدريس عن كل ما يربطه بهذه الجماعة التي أفلت فيما وراء الهضبة الصغيرة، وسط هذه المقبرة، وقال : « أروع شيء يفجره فينا الموت هو الحزن، لماذا لا يحزن هؤلاء ؟ » وأشار إلى المشيعين، وأضاف : « هذه هي فرصتهم، إذا لم يحزنوا فلأنهم غير قادرين على استغلال الحزن »
قال إدريس هذا في تكتم، مروحا عن نفسه ببعض الخطوات اللاهية، كان يقصد من ورائها النسيان، ولكنه عندما التحمت يداه وراء ظهره، فتح المجال لنفسه ليتأمل من جديد، ولكنه أخيرا عزف عن كل تأمل ما دام ذلك يدفعه حتما إلى اكتشاف التفاهة والزيف والتناقض والعبث.
كان في هذه الأثناء ينظر بدون معنى إلى امرأة جاثية تترحم على قبر منتفخ كأنه بطن حامل، وحين ابتعد عنها صادا عن فكره كل تدبر، بدت له تلك المرأة مع القبر بثورا تمتلئ صديدا وتعمق جرح الأرض أمام السماء.



* دعوة الجق - ع/ 54

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى