الرقيق القيرواني - قطب السرور في اوصاف الخمور

بسم الله الرحمن الرحيم، ربِّ يَسِّر قال العتابيّ: بعث إليَّ طاهر بنُ الحُسين في يوم دَجنٍ فدخلت عليه وبين يديه خادم يسقيه فقال: يا عتابي، أما ترى يومنا ما أرقه وساقينا ما أظرفه فإن قلت ما نحن فيه شعراً يقع بموافقتي وهبتُ لك الخادم، فقلت:
أَيُها الساقي الذي أصبح يسقينا الرَّحيقا
سَقِّ نَدماني عُقاراً = واسقني من فيكَ ريقا
فَمُنى نفسي هذا = نِ صبوحاً وغبوقاً
طاهرٌ بَرٌّ جوادٌ = فاتخذناه طريقا
وكذا كان [حسينٌ] فحكى الغُصنُ العُروقا فقال: أحسنتَ، خذ الغلام، فلما صرت إلى الدهليز تبعني وكيله فقال: تبيع الخادم، فقلت: نعم. قال: بكم، قلتُ: بألف دينار وظننت أني لم أبقِ غايةً، فقال: هي لك، ودفعها إليّ، فلحقني رسول طاهر فردني فقال: ما صنعت بالخادم، قلت: بعتُهُ، قال: بكم؟ قلت: بألف دينار، قال: والله لو أبيت إلا مائة ألفٍ لأعطيتُها.
قال ابن قتيبة: وخرج أبو عيسى ابن الرشيد متنزهاً إلى القفص ومعه أبو نواس، فأقام في نزهته شعبان كله، فلما كان أول يوم من رمضان، عزم أبو عيسى على الصوم، فقال له أبو نواس: هذا يوم شك وليس للشك حُجة على اليقين ومن يُفطره أكثر ممن يصومه، وأنشده:
لو شئت لم نبرح من القفص = نشربها صفراء كالجص
نسرقُ هذا اليوم من شهرنا = فالله قد يعفو عن اللص
وخرج أبو عيسى مرة إلى القفص ومعه أبو نواس فأقاما في نزهتهما أُسبوعاً، ثم قال له: بحياتي صف مجلسنا، وأيامنا هذه، فقال:
يا طيبَنا وقصورُ القفص مشرقةٌ = فيها الدساكِرُ والأنهارُ تَطرِدُ
لما اصطحبنا بها صهباء صافيةً = كأنها لَهَبٌ في الكأس يَتَّقِدُ
فقام كالبدر مشدوداً قراطُقُه =ظبيٌ يَكادُ من التهييفِ يَنعقدُ
فاستَلَّها من فمِ الإبريق فانبعثت = مثل اللسان جرى واستمسك الجَسد
فلم نزل في صباح السبت نأخذُها = والليل يأخذنا حتى بدا الأَحدُ
وفي الثلاثاءِ أعملنا المطيَّ بها = صهباءَ ما قرعتها بالمزاج يَدُ
والأربعاءِ كسرنا حدَّ شِرتِهِ = والكأس يضحك في حافاتها الزبدُ
ثم الخميس وصلناه بليلته = قصفاً وتم لنا بالجمعة العددُ
في مجلس حولَهُ الأشجارُ مُحدقةً = وفي جوانبه الأطيار تغتردُ
لا نستخفُّ بساقينا لِعزته = ولا يَرُدُّ عليه حكمه أحدُ
عند الهُام أبي عيسى الذي كملت أخلاقهُ فهي كالعِيقان تُنتقدُ وبالجزيرة دير يقال له دير حنظلة، قال أبو الفرج الأصبهاني: نُسبَ إلى رجلٍ من طيءٍ يقال له حنظلة ابن أبي عفراء أحد بني حية رهط أبي زبيد الطائي، وكان حنظلة من شعراء الجاهلية فتنصَّرَ وفارق بلاد قومه، وباع كل ما كان له وبنى هذا الدير وأقام به مترهباً حتى مات، وهذا الدير في أحسن مكانٍ من الجزيرة وأكثره مياهاً وشجراً ورياضاً وزهراً، وهو موصوف بالحسن والطيب، وقد قالت فيه الشعرراءُ فأكثرت، وغُنِّي في أشعارهم؛فممن نزله عبد الله بن الأمين محمد بن زبيدة.
حكى قدامة بن جعفر عن حمَّاد بن إسحق قال: حدثني أبو نجاح قال: كنت مع عبد الله بن الأمين وقد خرج إلى نواحي الجزيرة. وكانت له هناك ضياعٌ كثيرة حسنة فاجتزنا بدير حنظلة هذا، وكانت أيام الربيع، وكانت حوله من الرياض ما ينسي حُلل الوشي، وبُسط خضرة وزهر، فنزلنا فيه وبعث إلى خمار بالقرب من الفرات، فشربنا وكان عبد الله حسن الصوت، حاذقاً بالغناء والضرب، ظريفاً كاملاً فقال:
أَلا يا دير حنظلة المفدى = لقد أَودعتني تعباً وكدّا
أَزُفُّ من العقار إليك زقَّاً = وأجعل فوقه الورق المندى
أَلا يا دير جادتك الغوادي = سحائب جُليت برقاً ورعدا
تزيد نباتك النامي نمواً = وتكسو الأرض حسناً مستجدا
فاصطحبنا فيه عشرة أيام، وعبد الله ومن معنا من المغنين يغنوننا.
ولعبد الله في هذا الشعر لحنٌ من خفيف الرَّمل مليح، وفي هذا الدير يقول الشاعر:
قال محمد بن الحارث بن بُسْخُنَّر عرضت لي حاجة إلى إبراهيم بن المهدي فبكرتُ إليه في يوم غيم ورذاذ فصادفتهُ قد لبس ثيابه وأُسرجت دوابه، فلما وصلت إليه خلعَ ثيابه وأَمَرَ بحطِّ السروج ثم قال لي: أردتُ الركوب إلى الخليفة، فلما رأيتك آثرت نفسي بك، وهذا يوم حسن لا يضيعه إلا من غُبن حظه، فأقم حتى أُطعمك اللحم طرياً وأسقيك الشراب صرفاً وأُسمعك الغناء، قلت: ما شيء أطيب إليَّ مما عرضه الأمير عليَّ، فدعا بضربٍ من لحوم الجدا والحملان والطير المسمن، فاتخذت له منه ضروب شواءٍ وكباب وقلايا، فأكلنا منها حاجتنا ثم أتينا بألوان من الشراب المطبوخ والمشمس، فاختار منه وسقاني، ثم دعا بجوارٍ فضربن عليه وغُنى أصواتاً من صنعته، فمرَّ لنا ألذُّ يومٍ وأطربه.
وكانت لأم جعفر زبيدة جارية تسمى جُلنار أحسن الناس وجهاً وأطيبهم غناءً، وكانت عُليَّة بنت المهدي تمازحها وتكنيها بأبي الورد، فغلبت هذه الكنية على اسمها حتى صارت لا تُعرف إلا بها، فقالت أبو الورد: كنت ذات يومٍ واقفةً على رأس أم جعفر والسماءُ متغيمة، إذ هطل المطر، فقالت لي أم جعفر: اذهبي إلى أختي عُلية فأقرئيها مني السلام، وقولي لها ألا ترين إلى هذا اليوم وطيبه، فعلى أي شيء عزمت فيه. فخرجت عنها، حتى دخلتُ على عُلية فإذا هي جالسة في طارمة في وسط بستان لها والمطر يقع على الطارمة فيجيئُ له صوتٌ شديدٌ وفي يدها عود وهي تغني وعلى رأسها جاريةٌ كأنها خوط بانٍ، حسنة الوجه، فإذا غنت عليه صوتاً قالت لها اسقيني فتسقيها، فلما رأتني فرحت بي وقالت: الحمد لله الذي منَّ علي بك، فأكببت على البساط فقبلته، فقالت: لا والله إلا معانقة، فعانقتها، وقبلت فاها ورأسها ويديها وأديتُ إليها رسالة أم جعفر، فقالت: خبري أني منذ السحر أشرب فوق هذه الطارمة على صوت المطر، والذي عزمتُ عليه، إتمامُ السرور والشرب، فلستُ مفارقتك اليوم. فقلتُ لها: يا سيدتي أم جعفر تنتظرني، فأُدي إليها الرسالة وأرغب إليها في المسامحة بالعودة إليك فقالت: أنا أجعل الرسول غيرك. وبعثت إليها جارية تعرفها بحالها، وتسألها في أن تؤنسني في المقام عندها، فأقمتُ ودعت لي بالطعام فأكلتُ، وجعلت تسقيني وتشرب وتغنيني وأُغنيها، فبينا نحن كذلك إذ دخل الخادمُ فقال: إبراهيم أخوك، فدعت بطبق عليه مأكولٌ، وقالت: هاتوا عوداً حناناً فضعوه ناحيةً، فأتيت بذلك وإبراهيم واقفٌ بالباب، ثم أذنت له فدخل فأكب على رأسها، فقالت: لا تكلمني أو تأكل، ففعل، ثم دعت بقدحٍ فيه رطلان فشربه، ثم قالت: خذ عودك وآخذ عودي، ففعل، فما زالت تغني صوتاً ويغني صوتاً وأُغني ونشرب، إذ دخل الخادم فقال: أخوك يعقوب بالباب، فأمرت بإحضار طبقٍ عليه طعان، ثم قالت أحضروا ناياً جيداً، فأُحضر ثم أذنت له فدخل، وأكب على رأسها فقبله، فقالت: اجلس وكُل، فأكل، ثم دعت برطلين في قدح فشربه وتناول الناي فزمر وكان أحسن الناس زمراً وضرباً جميعاً، فسمعتُ والله شيئاً ما سمعتُ أحسن منه قط، فسكرتُ من الشراب والطرب فلم أعقل ورحت أتمايل سكراً حتى دخلت على أم جعفر فحدثتها بما جرى، فجعلت تضحك وأمرت لي بخلعةٍ من ثيابها.
وكان يقال: لا يُعرف في بنات الخلفاء مثل عُلية بنت المهدي جودة شعر وحسن صنعة، وكانت أكمل النساء عقلاً وديناً وصيانةً ونزاهة، وكان الرشيد يعظمها ويجلسها معه على سريره، وكانت تحبُّ خادماً للرشيد يقال له ظلٌّ فتكنّي عنه، من ذلك قولها فيه:
أيا سروة البستان طال تشوقي = فهل لي إلى (ظلٍّ) لديكِ سبيل
من نلتقي من ليس يُرجى خروجُهُ = وليس لمن يهوى إليه دخول
ومن قولها فيه:
قُل لذي الأصداغ والطُّرة والوجه المليحِ
ولمن أشعل نارَ الحبالحبِّ في قلبٍ قريح
ما صحيح أَثَّرت عيناك فيه بصحيح
ومما قالت وغنته في طريقة الرمل:
سلِّم على طرفِ الغزال الأغيد الحلو الدلالِ
سلِم عليه وقلْ له = يا غُلَّ ألباب الرجال
خليت جسمي ساجياً = وسكنت في ظلِّ الحجالِ
وبلغت مني غاية = لم أدرِ فيها ما احتيالي
ومن قولها وغنائها:
جاءني عاذلي بوجهٍ قبيحِ = لائماً في وصالِ وجهٍ مليحِ
ظبيةٌ تسكن القِبابَ وترعى = ثمر القلب لا أراكٍ وشيحِ
ومن غنائها وشعرها: قُم يا نديمي إلى الشمولِ قد نمتَ عن ليليَ الطويلِ
أما ترى النجم قد تولى = وهم بهرامُ بالأُفولِ
من عاقر الراحَ أخرسته = فلم يجب منطقَ السؤولِ
قال لي الهيثم بن عدي: قال: قال الشعبي: لما وَلِيَ بشرُ ابن مروان العراق، ولأني مظالمه. وبلغ حُنين بن بلوع المغنيّ وكان يسكن الحيرة: أن بشراً يشرب الشراب، ويسمع الغناء، فأتى الكوفة، فذُكر له أن ابن مُحرز قَدِمَها، فتلطف له جتى دعاه فغناه ابن محرِز، فسمع شيئاً هاله وحيره - وَعَلِم أن بشراً إن سمعه لم يُخل هو منه بطائل - فقال له: كم منَّتك نفسك من العراق، قال: ألف دينار، فقال: هذه خمسمائة دينار حاصلة، ونفقة سفرك عادياً وبادياً ودع العراق لي وامضِ مصاحباً حيث شئت، وكان ابن محرز صغير الهِمة لا يحب عِشرة الملوك فأخذها وانصرف، وقصد حنين بشراً فلطفت منزلته عنده وخصَّ به وأجزل عطيته.
قال الشعبي: فاستأذنت على بشرٍ ذات عشيةٍ، فقال لي حاجبه، يا أبا عمرو، الأمير على حالٍ ما أظنك تصل إليه معها، فقلت: أعلمه وخلاك ذمٌ، فقد حدث أمرٌ لا بدَّ من إنهائه إليه، فاستأذنهفقال: يدخل، فدخلت، فإذا بشرٌ عليه غلالةٌ صفراءُ رقيقة، ومُلاءةٌ تقوم قياماً من شدة الصقال، وعلى رأسه إكليل من ريحان قد فصِّل بوردٍ ونرجس، وعن يمينه عكرمة بن ربعي وعن يساره خالد بن عتاب بن ورقاء، وبين يديه حنينٌ بن بلوع وعوده في حجره، فسلمتُ، فرد السلام، ورحب وقرَّب، ثم قال: يا أبا عمرو، لو كان غيرك لم آذن له على هذه الحال. فقلت: أصلح الله الأمير، لك الستر لكلِّ ما رأيت، والشكرُ على ما أوليت، فقال: كذلك الظنُّ بك، ثم غنى حنين، فقلت له: شُدَّ الزيرِ وأَرخِ البَمَّ، ففعل وضرب فأجاد، فقال بشر لأصحاب: أُلامُ على أن آذن لهذا على كلّ حالٍ كنتُ فيها؟ ثم التفتَ إليَّ وقال: من أين لك علمُ هذا. قلتُ: كنا نسمعه في أعراسنا. فظننت أن الأمر كذلك أصلح. فقال: إنه كما ظننت، ولما أردتُ القيام، أمر لي بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب، فقمتُ مع الخادم حتى قبضتُ ذلك.
وكان آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز من الخلعاء المجَّان. روى مُصعب الزُّبيري قال: كان آدم بن عبد العزيز يدمِن شرب الخمر ويفرط في المجون، وكان أديباً شاعراً فأخذه المهدي وجلده ثلاثمائة سوط على أن يقر بالزندقة، فقال: والله ما أشركت بالهه طرفة عين قال: فأين قولك:
اسقني واسق خليلي = في دجى الليل الطويل
قهوةً صهباء صرفاً = سُبئت من نهر بيل
من ينل منها ثلاثاً = ينس منهاج السبيل
ومتى ما نال خمساً تركته كالقتيل
في لسان المرءِ منها = مثل طعم الزنجبيل
عتقت حُولاً وحولاً = بين كرمٍ ونخيلِ
ريحُها ينفح منها ساطِعاً من رأسِ ميلِ قل لمن يلحاك فيها من فقيه ونبيل
أنت دعها وارجُ أُخرى = من رحيق السلسبيل
نعطش اليوم ونُسقى = في غدٍ نعتَ الطلول
قال: وإن قلت ذلك فإني موحِّد، ولست بزنديقٍ أقول بلساني ما لا يعتقده جناني، فقال له: إذا عنَّ لك شيءٌ من هذا فاذكر سلَفَك، وخلي سبيله.
قال مُصعب: وقال بعضهم لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إن بنيك يشربون الخمر، قال: صِفوهم لي، قال: فلانٌ إذا شرب خرَّق ثيابه وثياب نديمه، فقال: سوف يدع هذا شربها، قالوا: وفلان إذا شرب تقيأ في ثيابه وأفسدها، قال: وهذا سوف يدعها، قالوا: وأما آدم فإنه إذا شرب أسكر ما يكون، لا ينال أحداً بسوء، قال: هذا لا يدعها أبداً، فكان كما قال.
وقال محمد بن الحارث بن بُسْخُنَّر: جزت يوماً إلى إبراهيم بن المهدي فرأيته كئيباً مهموماً فقلتُ له: ما لي أراك بهذه الحالة، فقال: ويحك دعني، فقلت: والله لا أدعك حتى أعرف خبرك، قال: لم يكن أحد سمع غنائي غير الرشيد، فقال لي ليلة: جعفر بن يحيى صديقُك ولا تحتشم منه، وأنا أحب أن تغني له صوتاً، فبحياتي إلا فعلت، ودعا لي بألف درهم، فغنيته وحُمل المال إلى منزلي، وكنا البارحة عند المعتصم فقال لي سيما الشارباني: أشتهي أن تغني لي ذلك الصوت، قلت أيّما، قال: لا أدري، ولكن تغني كلَّ ما تدري فإذا مر عرَّفتُك، فورد عليَّ ما تمنيت معه الموت، فأيُّ غمٍّ يكون أشد من هذا.
ودخل أحمد بن الحسين المتنبي على عليّ بن إبراهيم التنوخي، فعرض عليه كأساً فيها نبيذ دوشاب أسود فقال:
أغار على الزجاجة وهي تجري = على شفة الأمير أبي الحُسين
كأن بياضها والراحُ فيها = بياض مُحدق بسواد عينِ
شربها فقال له:
مَرَتكَ ابن إبراهيم صافية الخمر = وهُنئتها من شارب مسكر السُّكر
رأيت الحميا في الزجاج بكفه = فشبهتها بالشمس في البدر في البحر
وكان بدر بن عمار قد تاب من الشراب مرة بعد أُخرى فرآه يشرب فقال:
يا أيها الملك الذي ندماؤه = شركاؤه في مِلكِهِ لا مُلكهِ
في كل يوم بيننا دمُ كرمةٍ = لك توبةٌ من توبةٍ من سفكه
والصدق من شيم الكريم فقل لنا = أمن الشراب تتوب أم من تركه
وشرب عنده ليلة فلما كان من غدٍ عُرض عليه الصبوح فقال:
رأيت المُدامةَ غلاَّبةً = تهيج للمرءِ أَشواقهُ
تُسيئ من المرءِ تأديبه = ولكن تحسِّن أخلاقهُ
وقد مُتُّ أمسِ بها موتةً = وهل يشتهي الموت من ذاقه
وقال يحيى خالد: كنت أهوى جاريتي دنانير وهي لمولاتها دهراً، فلما وضع المهدي الرشيد في حجرياشتريتها فلم أُسر بشيءٍ من الدنيا سروري بها، فما لبثت يسيراً حتى وجَّه المهدي الرشيد غازياً إلى بلاد الروم، فخرجت معه، فعظم علي فراقها، وأَقبلتُ لا يُهنئني طعامٌ ولا شرابٌ، صبابةً بها وذكراً لها، فتوغلنا في بلاد الروم وأصابنا برد شديد، وثلجٌ كثير، فإني ليلة في مضربي، أتقلبُ في فراشي تذكراً لدنانير، إذ سمعت عناءً خفياً وضرب عودٍ بالقرب مني فأنكرت ذلك، وجلست في فراشي وتسمعت صوتاً شجاني من غير أن أفهمه، فقمتُ وقد غلب النومُ أهل العسكر فتخللت المضارب حتى انتهيت إلى خيمةٍ من خِيم الجند فإذا فيها سراجٌ فدنوت منه، فإذا فتى جالسٌ وبين يديه زكرة فيها شراب وفي حجره عودٌ وهو يشرب ويتغنى:
ألا يا لقومي أطلِقوا غُلَّ مرتَهَنْ = ومُنُّوا على مستشعر الهمِّ والحَزنْ
أَلم ترَها بيضاء ورداً شبابُها =لطيفة طيِّ البطنِ كالشادن الأغَنْ
تذكر سَلْمَى وهي نازحةٌ فَحَنْ = وهل تنفع الذكرى إذا اغترب الوطن
وكلما غنى بيتاً بكى وتناول قدحاً فصبَّ فيه من ذلك الشراب، فيشربُ ثم يعود فيفعل مثل ذلك وأنا اراه فأبكي لبكائه، ثم سلمتُ عليه فرد السلام، واستأذنت في الدخول فأذن، فلما دخلت أجلني وأوسع لي، فقلت: يا فتى، أخبرني بخبرك وما سبب هذا البكاء فقال: أنا فتى من الأبناء ولي بُنيَّةُ عمٍّ نشأنا حبيبين فعَلِقْتُها وعلقتني، ثم بلغنا فحُجبت عني، فسألت عميّ فزوجنيها، ومكثت حيناً أحتال لمهرها، حتى تهيأَ فأديته وأَعْرستُ بها، فلما كان يوم سابعها ضُرب علي البعث فخرجتُ وبي من الصبابة بها والشوق لها ما الله به عليم، فإذا أصبتُ شراباً أخذت منه الشيء ثم أفعل ما ترى تذكاراً لها، فقلت: هل تعرفني، قال: قلت أنا يحيى بن خالد، فنهض قائماً، فقلت له: اِجلس، اِلقني غداً أولَ حركة الناس، فإني صائرٌ من أمرك إلى ما تحب، ووافق ذلك رسولاً يُنفذ إلى المهدي، فلما كان من غدٍ وتهيأ الناس للرحيل، فأول من لقيني ألفني، فقلتُ ما اسمك، وفي قيادة من أنت فخبَّرني، فدخلت على الرشيد فخبرته خبره، فأمر له بعشرة آلاف درهم وأصحبته الرسول.
قال أبو هفان: دعاني أمير من أمراء الأتراك، وكانت له ستارة لم يكن ببغداد أطيبُ منها، فلما شربنا أقداحاً قال غنوا لنا: خِمار مليحٍ، فلم يدر أحد ممن حضر ما أراد حتى غُنى:
قل للمليحة في الخِمار الأسود = ماذا صنعت براهبٍ متزهِّدِ
فشرب عليه أرطالاً وشربنا ثم أمسك ساعةً وقال: غنوا: (إني خَريت وجيت أنتقله) فضحكن وقلن: هذا يشبهك، ويصلح لك، فما عرفنا ما أراد حتى غنَّينَ: إن الخليط أجدَّ منتقلَه.
وقال مصعب الزبيري: شربنا يوماً عند عبد الصمد بن علي عمِّ المنصور، وكان يغنينا الدارمي المَكي وكان حلواً ظريفاً فنعس عبد الصمد، وعطس الدارمي عطسةً هائلة، فوثب عبد الصمد مرعوباً وغضب غضباً شديداً وقال: يا عاض بظر أمه، إنما أردت أن تفزعني، قال لا والله، ولكن هكذا عُطاسي، قال: والله لأسفكن دَمَكَ أو تأتيني ببينة على ذلك، ووكل به غلمانه، وخرج لا يدري أين يذهب فلقيه رجل يعرفه من أهل مكة، فسأله عن أمره، فأخبره، فقال: أشهد لك أنا، ومضى معه حتى دخل على عبد الصمد فقال له: بما تشهد لهذا؟ قال: رأيته عطس عطسةً سقط منها ضرسُه وتطاير نصف لحيته، فقال عبد الصمد: خلوا سبيله.
وقال عمر بن شَبَّة: حدثني إسحق بن إبراهيم عن أبيه قال: قال حكمُ الوادي: دخلتُ يوماً على يحيى بن خالد، وقد اصطبح فأمر لي بطعام، فأكلت وسُقيت ثلاثة أرطال وغنيته:
بنفسي من قلبي له الدهر ذاكرُ = ومن هو عني معرض القلب صابرُ
ومن حبه يزداد عندي تجدداً = وحبي لديه مُخلَقُ العهد داثرُ
فاستعادني فيه مراراً وشرب عليه أرطالاً وقال لي: يا أبا يحيى، ألقه على دنانير، فإن أخذته فلك خمسمائة دينار، ودعا بها فجلست خلف الستارة، فقلت لها يا سيدتي، أشغلي نفسك بهذا، وأنت تهبين لي خمسمائة دينار، فقال يحيى: ولها إن أحكمته ألف دينار، وقام يحيى لبعض أشغاله فطرحت عليها الصوت حتى أخذته، وجاء يحيى فعرفته، فقال لي: غنه يا أبا يحيى، فقلت: يسمعه مني، وليس هو ممن يخفى عليه، ثم يسمعه منها فلا يرضاه فلا أحصل على شيء، فغنيته، ثم قال: غنيه أنت الآن، فغنته فزاد في طيبه ندى صوتها وحسنُهُ، فقال: والله ما أرى إلا خيراً، فقلت جُعلت فداك، أنا أمضُغُ هذا أكثر من خمسين سنة كما أمضغ الخبز، وهذه أخذته الساعة وهو يذل لها بعدي وتجترئ عليه ويزدادُ حسناً في صوتها، فقال: صدقت، يا غلام هات له خمسماية دينار ولها ألف دينار، ففعل، فقالت له وحياتك يا سيدي لأُشاطرن أُستاذي الألف، قال: ذلك إليكِ، ففعلت فانصرفت وقد أخذت بهذا الصوت ألف دينار.
قال إسحق بن إبراهيم الموصلي: دعاني يحيى بن خالد يوماً فوجدت الفضل وجعفر جالسين بين يديه، فقال لي: يا إسحق، أصبحت مهموماً فأردت الصبوح لأتسلى فغنني صوتاً لعلي أتفرجُ وأرتاح فغنيته:
إذا نزلوا بطحاءَ مكةَ أَشرقت = بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فما خُلقت إلا لجودٍ أكفهم = وأقدامهم، إلا لأعوادِ منبرِ
فطرب وارتاح وأمر لي بمائة ألف درهم وأمر لكل واحدٍ منهما بمائة ألفٍ تنقص ألفاً فحمل المال بين يديَّ وانصرفت.
وكان إبراهيم بن المهدي لما طلبه المأمون قد استخفى عند امرأة فوكلت لخدمته جارية وقالت لها: وقد وهبتك له فإن أرادك لشيءٍ فأعلميه ذلك وطاوعيه، وكانت توفيه حقَّهُ في الخدمة والإعظام ولا تُعلِمُهُ بما قالت سيدتها فجلَّ مقدارها في عينه إلى أن قربت له يوماً طعاماً فأكل وقامت على رأسه فسقته فلما ناولته الكأس قبَّل يدها وقال:
يا غزالاً لي إليه = شافعٌ من مقلتيه
والذي أجللتُ خديهِ = فقبلت يديه
بأبي وجهك ما أكثر = حسادي عليه
أنا ضيفٌ وجزاءُ الضيف = إحسانٌ إليه
فقبلت الأرض بين يديه وأعلمته بما قالت مولاتها وعمل فيه لحناً في طريقة الهزج.
وكان إبراهيم قد ترك الغناء في آخر أيامه وذلك أنه قال:
كنتُ عند الرشيد في مجلس خلوة لم يحضره إلا جعفر بن يحيى، إذ بكى، فقلتُ يا أمير المؤمنين: ما يبكيك، لا أبكى الله عينيك، قال: أنت أبكيتني يا إبراهيم، لأنك مع كمالك وأدبك ومعرفتك قد اشتهرت بالغناء، فاخترته ولزمته حتى عطَّلك عما يسمو إليك مثلك، وكأني بك غداً، وقد مَلَكَ بعض ولدِ أخيك فأمرك ونهاك وامتهنك في الغناء، وإنما امتهن المهدي بك، قال: فلما كان في أيام المعتصم حضر في يومٍ منها مجلسه وكان الأفشين حاضراً فلما أرادوا الانصراف قال الأفشين: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، تطول على عبدك بالتقدم إلى الندماء أن يكونوا غداً عندي، فأمرهم المعتصم بالمصير إليه، فقال: وليُجبني سيدي إبراهيم، قال: يا عم أجبه، فصار إليه إبراهيم في غدٍ، وبكر الندماء إليه جميعاً، فسُرَّ وسرِب حتى سكر، وكانى طاغياً، شديد العربدة لجوجاً، فلما عَمِلَ فيه السكر قال: يا إبراهيم غنِّ صةتك الذي فيه [مومو] قال لا أعرفه، قال: تغني والله أبداً كلَّ شيء تحسِنه حتى يمر هذا الصوت، قال فغني إبراهيم أصواتاً كثيرة والأفشين ساكتٌ ضاربٌ بذقنه على صدره، ثم خطر ببال إبراهيم قول الرشيد، وبكاؤه له وإشفاقه عليه فغنى متفجعاً لذكره:
لم أَلقَ بعدَهُمُ قوماً فأُخبرهم = ألا يزيد حُبا إليَّ هُمُ
فرفع الأفشين رأسه وقال: هو هذا، فقال إبراهيم: أما إنك لا تدري ما استخرجته، وانصرف فقطع الغناء وأهله فلم يغنِّ بقية أيامه حتى اعتل العلة التي توفي فيها. فيقال: لما ثقل دعا المعتصم بصالح بن الرشيد فقال: صِر إلى عمي فقد بلغني أنه عليل فاحضره وانصرف إليَّ بخبره، قال: فسرتُ إليه فإذا هو شديد العلة، فسلمت عليه وسألته عن حاله فقال: سر إلى الحجرة فاخلع سيفك وسوادك، وعد إلي آنس بك ساعةً، ففعلت، ودعا خادماً من خدمه فأمره أن يحضر لي طعاماً فأحضره وأكلت منه وهو ينظر إلي وأتبينُ الأسف في عينيه، ثم دعا لي بأرطال مطبوخ عجيب فشربت ثم قال: يا غلام ادعُ لي بنعمة وخيزرانة، وكانت نعمة تضرب وخيزرانة تغني فجاءتا، فأمر هذه فضربت وهذه فغنت، ثم قال: أسندوني، فأسندوه وأمر خيزُرانة فحطت من طبقتها ثم اندفع يغني:
رُبَّ ركبٍ قد أناخوا حولنا = يشربون الخمر بالماءِ الزُّلالِ
ثم أَضحوا، لعب الدهر بهم = وكذاك الدهرُ حالاً بعد حال
من رآنا فليوطِّن نفسه = إنه منها عى قرني رئال
قال: فاستوفاه، فما سمعتُ شيئاً قط كان أحسن من غنائه فيه، فقال: بأبي أنت وأزيدك، فقلت ما أريد أن أشقَّ عليك مع ما اراه من حالك، فليتني كنتُ فداك، فقال: دعني أُودِّع نفسي، وتغني:
يا منزلاً لم تبلَ أطلالُه = حاشى لأطلالك أن تبلى
لم أَبكِ أطلالك لكنني = بكيت نفسي فيك إذ ولى
والعيش أَولى ما بكاه الفتى = لا بدَّ للمحزون أن يسلى
فبكيت لطيب غِنائِه، وشربت أرطالاً، ومال على جنبه فنهضت ولبست سوادي، فما خرجتُ من الحجرة حتى سمعت الصُّراخ عليه، وصِرت إلى المعتصم فأخبرته الخبر على وجهه، فاسترجع وبكى وتوجع.
وكان عبد الله بن الفضل بن الربيع موصوفاً بالبراعة في الشعر والغناء، فأخذ منه إسحق الموصلي صوتاً من شعره وغنائه وهو:
وصف الصدَّ لمن يهوى فَصَدّْ = وبدا يمزح بالهجرِفَجَدّْ
ما له يصرف عني وجهه = وهو لا يعدله عندي أحد
وغُني به الرشيدُ فقال: من يقول هذا يا إسحق، قال: بعض مواليك يا أمير المؤمنين، فقال: من من موالي يُحسن مثل هذا ولا أعرفه، قال: عبد الله بن الفضل، فقال للفضل: أحضرني ابنك عبد الله فقد بلغني أنه يجيد الغناء، فقال: وولائك يا أمير المؤمنين ما عرفتُ بشيءٍ من هذا إلا في ساعتي هذه، ومضى فدعا بابنه عبد الله وقال: قد بلغ من قدرك أن تجترئ عليَّ حتى تضع الغناء ويغنيه المغنون الخليفة، وأنا لا أعلم بشيءٍ من أمرك، وأمره أن يغنيه بشيءٍ من صنعته، فغناه صوتاً استحسنه وصار به إلى الرشيد فغناه، فأمر له بعشرة آلاف دينار. فقبضها الفضل، وقال له الرشيد: اشتر له بها ضيعة، ولم يزل من ندماءِ الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم.
وكان حلف بأيمانٍ مؤكدة أنه لا يغني إلا خليفةً أو ولي عهدٍ، وكان عهد الواثق قد التبس عليه حتى تحدث الناس به، وخاضوا فيه، فأحب الواثق أن يقف على صحة أمره، فقال له عبد الله بن الفضل: أنا أستخرج لك علم ذلك فأعزم على الفصد، ففصد الواثق وعلم المعتصم فأمر له بهدايا وتحف، وقال له عبد الله: سله أن يبعث لك المغنين ويجعلني فيهم، فسأل الواثقُ المعتصم فبعث بهم إليه، وأمر عبد الله بالمسير إليه معهم، فقال: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك، قد عرفت يميني، قال: قد عرفتها، فسر إليه وغنه، فإنك لا تحنث، فسار إلى الواثق فأعلمه أن عهده صحيحٌ، فسُرَّ الواثق بذلك، وأمر لعبد الله بمائة ألف درهم ولكل واحد من المغنين بعشرة آلاف درهم.
وحكى معبد الذي يقال له اليقطيني، مولى علي بن يقطين، قال: كنت منقطعاً إلى البرامكة، آخذ منه وأَلزَمُهم، فبينا أنا ذات يوم في منزلي، إذا بياني يُدق، فخرج غلامي ثم رجع، فقال: على الباب فتى ظاهر المروءة جميل الوجه يستأذن عليك، فأذنتُ له، فدخل شابٌ ما رأيت أجمل منه وجهاً، وألطف ثوباً، وأحسن زياً، دنفٌ عليه أثر السقم ظاهرٌ، فقال لي: إني أُحاول لقاءَك منذ مدة، ولي إليك حاجة، قلت: ما هي؟ فأخرج لي ثلاثماية دينار فوضعها بين يديَّ، وقال: أُحبُّ أن تقبلها مني، وتضع لي لحناً في بيتين قلتهما، قلت: نعم وكرامة، هاتِ البيتين، فأنشدني:
والله يا طرفي الجاني على كبدي = لتطفئن بدمعي لوعة الحَزنِ
أو لأبوحنَّ حتى يحجبوا سكني = فلا تراه ولو أُدرجت في الكفن
فصنعت فيهما لحناً شجياً يشبه النوح، ثم غنيته إياه فأُغمي عليه حتى ظننت أنه قد مات، ثم أفاق وكأَنَّه أُنشر من قبرٍ، ثم قال: أَعِد فديتك، فنشدتُهُ بالله في نفسه، وقلت: أخشى والله أن تموت، فأبى وقال: ليت ذاك كان، وهيهات، نفسي المشئومة أشقى من أن أموت فأستريح، وما زال يخضع ويتضرع ويبكي حتى رحمته، فأعدتُ الصوت، فصعق صعقة أشدَّ من الأُولى فلم أك أن نفسه خرجت، وبقي ملقىً لا يتنفس إلا نفساً خفياً فما زلت أنضح ماءَ الورد على وجهه وأُبَّخر بين يديه وأُّشمه أصناف الطِّيب حتى فتح عينيه وأَفاق وبقي ساعةً ملقى ثم تحامل فجلس، فحمدتُ الله تعالى على سلامته ووضعت دنانيره بين يديه وقلت: خذ مالك وانصرف عني، قد قضيت حاجتك، وبلغت وطراً مما أردته ولست أُحب أن أشرك في دمك فقال لي: يا هذا لا حاجة لي في الدنانير ولك عندي مثلها وأعد عليَّ هذا الصوت مرة أُخرى فقط، وأنا أنصرف عنك وخلاك ذمٌّ، فشرهتُ إلى الدنانير، فقلت: لا والله ولا أضعافها إلاَّ على ثلاث شرائط، فقال: وما هن، فقلت: أما أولُهن فتقيم عندي، وتأكل من الطعام ما تقوي به نفسك، والثانية أن تشرب أقداحاً تمسك قلبك وتحفظ نفسك ويثبت في حافظتك ما تسمعه،والثالثة أن تحدثني بحديثك فلعل ذلك ينفعك، قال: أفعل، فدعوت بالطعام فأصاب منه إصابة مُعذر، ثم دعوت بالشراب فشرب أقداحاً وأنا أُغنيه من عرض الأغاني ما يحضرني وهو يشرب ويبكي، ثم قال: الشرط أعزك الله، فلما رأيته قد خف ما به، ورأيت النبيذ قد شدَّ قلبه، كررت عليه مراراً ثم قلت: حدثني، قال: أجل، قال: أنا رجل من أهل المدينة خرجت متنزهاً وقد سال العقيق في فتيةٍ من أقراني وأخداني فبصرنا بفتيات قد خرجن لمثل ما خرجنا له فجلسن وبصرت بفتاة منهن كأنها غُصنٌ قد طلله الندى تنظر بعينين ما ارتد طرفهما إلا بنفس ملاحظهما، لإاطلنا وأطلن حتى تقَرَّض النهار " ثم تفرقنا وقد أبقت بقلبي جرحاً بطيئاً اندماله، فعدت إلى العقيق، أتنسم خبرها وأطنع في لقائها، فإذا هو خالٍ ليس فيه أحد، ولا أرى لها ولا لصواحبها أثراً، ثم جعلت أتتبعها في أسواق المدينة وطرقاتها فكأن الأرض أضمرتها، فمرضت أسفاً عليها، وصبابة بها وضنيت حتى يئس أهلي مني فخلت بي ظئر لي استعلمتني حالي وضمنت لي كتمانها، والسعي فيما أحبه منها، فأخبرتها الخبر فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع ما انقضت بعد وهي سنة خصبٍ وليس يبعد عليك المطر وهذا العقيق، فتخرج حينئذ وأخرج معك فإذا جاء النسوة ورأيت من تريد فعرِّفني حتى أتبعها فلا أفارقها أو أقفعلى موضعها، وأصل بينك وبينها، وأسعى لك في تزويجها، فكأن نفسي اطمأنت إلى ذلك، ووثقت به وسكنت إليه، وأصبت شيئاً من الطعام، وتراجعت نفسي، ولم نلبث أن جاء المطر وسال العقيق فخرج الناس ينظرون إليه وخرجت فيهم مع إخواني أولئك وظئري فجلسنا مجلسنا الأول بعينه، فما كنا والنسوة (إلا) كفرسي رهان، وأومأت إلى ظئري إيماءً، عرفتها به فجلسن قريباً منا، فقلتُ لظئري: قولي لهذه الجارية، يقول لك هذا، والله لقد أحسن الذي يقول:
رمتني بسهمٍ أقصد القلب وانثنت = وقد غادرت جرحاً به وندوبا
فمضت فقالت ذاك لها، فقالت: ارجعي فقولي له: لقد أحسن القائل وأحسن من أجابه حيث يقول:
بنا مثل ما تشكو، فصبراً لعلنا = نرى فرجاً يشفي السقام قريبا
فأمسكتُ عن الجواب خوفاً من أن يظهر ما يفضحنا جميعاً، وعرفت ما أرادت، فقمت منصرفاً، وقامت لقيامي، وتبعتها ظئري، حتى عرفت منزلها، وسارت إلي فأخذت بيدي، وسرنا إليها وما زلنا نتلطف حتى اجتمعنا معها على سبيل المجالسة والمؤانسة، واتصل ذلك حتى شاع حديثنا وظهر ما بيننا فحجبها أبوها عني وتشدد عليَّ، فلم أزل مجتهداً في لقائها، فلم أقدر عليه، فشكوت حالي إلى أبي، وسألته أن يخطبها إلي، فجمع مشيخة أهلنا، مضى إلى أبيها راغباً إليه في المصاهرة، فقال: لو كان بدأ بذلك قبل أن يفضحها لأسعفته بما التمس، لكنه قد شهرها وعيَّرها فما كنت لأُحقق قولَ الناس فيها بتزويجه إياها، فانصرفتُ على يأس منها ومن نفسي، فسألته عن منزله فعرفني فزرته وكثرت عنده، وكانت بيننا عشرة، ثم جلس جعفر بن يحيى وحضرت على رسمي فغنيتُ جعفراً في شعر الفتى أولَ ما غنيت، فطرب طرباً شديداً، وشرب عليه أقداحاً، وقال: ويلك ما هذا الصوت، ومن أين هو لك؟ فقلت: صنعته منذ أيام، وحديثه أظرف منه، فقال: ما هو؛ فحدثته بحديث الفتى، فأمرني بالركوب إليه وأن أجعله على ثقة من بلوغه ما يحب، فمضيت إليه، وأحضرته، فاستعادة جعفر الحديث، فأعاده عليه، فقال: هي في ذمتي حتى أزوجك إياها، فطابت نفسه، وأقام معنا، فلما أصبح جعفر، ركب إلى الرشيد فحدثه بالحديث، فاستطرفه، وأمر بإحضارنا جميعاً فحضرنا واستعاد الصوت فأعدته وشرب عليه، وسأل الفتى عن حديثه فأعاده عليه فأمر بالكتاب إلى عامل الحجاز بإشخاص الرجل وأهله وولده مبجلاً مكرماً إلى حضرته، والإنفاق عليهم نفقة واسعة سنية فلم يمض إلا مدة يسيرة حتى حضروا، فأمر الرشيد بإيصال الرجل إليه فأُحضر وأمره بتزويج الجارية من الفتى وأعطاه ألف دينار، فزوج الفتى الجارية بحضرته وانصرنا، وأمر جعفر لكلِّ واحد منا بألف دينار، نُقلت إليه أهله ولم يزل بعد ذلك من ندماء جعفر حتى حدث عليه ما حدث فعاد بأهله إلى المدينة.
وممن أدركته وعاشرته، عبد الوهاب بن حسين بن جعفر الحاجب، وذكرته هاهنا لأنه يلحق الأُمراء المتقدمين غير خارج منهم ولا مقصر عنهم، بل كان واحد عصره في الغناء الرائع، والأدب البارع والشعر الرقيقي، واللفظ الأنيق، ورقة الطبع، وإصابة النادر والتشبيه المصيب والبديهة التي لا يُلحق فيها، مع شرف النفس وعلوِّ الهمة، وكان قد قطع عمره وأفنى دهره، في اللهو واللعب والفكاهة والطرب، وأعلم الناس بضرب العود واختلاف طرائقه، وصنعة اللحون [و] كثيراً ما يقول الأبيات الحسنة في المعاني اللطيفة، ويصوغ الألحان المطربة البديعة المعجبة، اختراعاً منه وحذقاً، وكانت له في ذلك قريحة، وطبع، وكان إذا لم يزره أحدٌ من إخوانه حضر مائدته وشرابه عشرة من أهل بيته، منهم حُبيش، ولده، وعبد الله ابن أخيه، وعلي، وإبراهيم وإسمعيل، بنو قيس، وعامر الشطرنجي، وبعض غلمانه، كل هؤلاء يغنون ويجيدون، فلا يزالون يغنون بين يديه، حتى يطرب فيدعو بالعود ويغني لنفسه ولهم. وكان بشارةُ الزامر الذي يزمر عليه، من حذاق زمرة المشرق، وكان بعيد الهمة سمحاً بما يمجد، تغلُّ عليه ضياعُهُ في كل عام أموالاً فلا تحول السنة حتى ينفذ جميع ذلك ويستسلف غيره، فكان لا يطرأ من المشرق مُغن إلا سأل من يقصد لهذا الشأن فيدل عليه، فمن وصل إليه منهم استقبله بصنوف البر والإكرام، وكساه وخلطه بنفسه ولم يدعه إلى أحد من الناس، فلا يزال معه في صبوح وغبوق، وهو يجدد له في كل يوم كرامةٍ حتى يأخذ ما عنده من صوتٍ مطربٍ أو حكاية نادرة. وجلس يوماً وقد زاره رجلان من إخوانه وحضر أقرباؤه فطعموا وشربوا وأخذوا في الغناء فارتج المجلس، إذ دخل عليه بعض غلمانه فقال: بالباب رل غريب، عليه ثياب سفر، ذكر أنه ضيفٌ،فأمر بإدخاله فإذا رجل سياط، رث الهيئة فسلم عليه، فقال: أين بلد الرجل، قال: البصرة، فرحب به، وأمره بالجلوس، فجلس مع الغلمان حتى انتهى إلى آخرهم، فلما سكتوا اندفع يغني بصوت ندٍ وطبعٍ حسنٍ:
ألا يا دار ما الهجرُ = لسكانك من شاني
سُقيت الغيث من دارٍ = وإن هيجت أشجاني
ولو شئتِ لما استسقيت عيناً غير أجفاني
بنفسي حل أهلوكِ = وإن بانوا بسلوان
وما الدهر بمأمونٍ = على تشتيت خلان
فطرب عبد الوهاب وصاح وتبين الحذق في إشارته، والطيب في طبعه، وقال: يا غلام، خذ بيده إلى الحمام وعجِّل عليَّ به، فأُدخل الحمام ونظِّف، ثم دعا عبد الوهاب بخلعةٍ من ثيابه فألقيت عليه، ورفعه وأجلسه عن يساره وأقبل عليه وبسطه فغنى له:
قومي امزُجي التِّبر باللجين = واحتملي الرِّطل باليدين
واغتنمي نومة الليالي = فربَّما أوقظت لِحيني
فقد لعمري أَقرَّ منّا = هلالُ شوال كلَّ عينِ
ذات الخلاخيل أبصرته = كنصف خلخالها اللُّجين
فطرب وشرب واستزاده فغناه:
من لي على رغم الحسود بقهوةٍ = بكر ربيبة حانةٍ عذراء
موج من الذهب المذاب يضمه = كأس كقشر الدُّرة البيضاءِ
والنجم في أُفق السماء كأنه = عين تخالس أعيُن الرُّقباء
فشرب عبد الوهاب ثم قال زدني، فغناه:
وأنت التي أشرقت عيني بمائها = وعلمتها بالهجر أن تهجر الغمضا
وأغريتها بالدمع حتى جفونُها = لتذكر، من فقد الكرى، بعضُها بعضا
فمرَّ يوم من أحسن الأيام وأطيبها، ووصله وأحسن إليه، ولم يزل عنده مقرباً مكرماً، وكان خليعاً ماجناً مشتهراً بالنبيذ ولزوم المواخير، ثم وصفت له الأندلس وطيبها وكثرة خمورها، فمضى إليها ومات بها.
وعلى نحو هذا الحال كان يفعل بكل طارئ يطرأ من المشرق، ولو ذكرتهم لطال بهم الكتاب.
وحضرنا عنده يوماً وقد أتى بنرجس نوري في غاية الحسن والرُّواء، ونهاية الطيب واذكاء، وقد تثاقل عن، الغناءِ ولم ير له نشاطااً فلما وضع النرجس بين يديه، أمر بمجامر فأُحرق فيها ندٌ وعنبر، لإاراد عليٌّ بن الطيِّب تحريكه، وكان من جملة الكتاب الرؤساء والشعراء والأُدباء، فقال: أتعرفون في وصف النرجس أحسن من قول عليّ بن العباس الرومي، وأنشد له:
للنرجس الفضل المبين وإن أبي = آبٍ وحاد عن الطريقة حائد
فصل القضية، أن هذا قائدٌ = زهر الرياض، وأن هذا طاردُ
وإذا احتفظت به فأمنَعُ صاحبٍ = بحياته لو أن حيًّا خالدُ
ينهى النديم عن القبيح بلحظه = وعلى المُدامة والسَّماع مساعِدُ
هذي النجوم هي التي ربتهما = بحيا السحابِ كما يُربي الوالدُ
3ف - انظر إلى الأخوين من أدناهما شبهاً بوالده فذاك الماجدُ
أين الخدودُ من العيون نفاسةً = ورياسةً لولا القياسُ الفاسِدُ
فاستحسنها وتناول باقةً ودعا برطلٍ ليشربه فقلتُ له: مهلاً حتى أُنشدك ما جمع فيه من تشبيه ما في يمينك ويسارك، وأنشده:
أدرك ثقاتك إنهم وقعوا = في نرجس معه ابنة العِنبِ
فهم بحالٍ لو بصرت بها = سبَّحت من عجبٍ ومن عَجَبِ
ريحانهم ذهبٌ على دُررٍ = وشرابهم درٌّ على ذهبِ
يا نرجس الدنيا، أقِم أبداً = للاقتراح ودائم النُّخبِ
وله في هذه الأبيات لحن طيب وإنما أردت تذكيره وتحريكه فلم يزل يُسر بذلك وارتاح له، وشب، وأمر بالعود، وكان يُصلح له قبل أن يؤتى به، فجسَّه وغنّى في نحو ما أنشد، وما علمنا في ذلك الوقت أن الشعر له أو لغيره، وهو:
نبِّه نديمك يا غلا = مُ فإنَّ ذا يومٌ أَغرُّ
بادر إِليَّ بسكرةٍ = فإذا فعلت فأنت حُرُّ
واجمع لنرجسكَ المدا = مَ فإِن جمعَها يَسُرُّ
واشرب عليه شبيههُ = وكلاهما ذهبٌ ودُرُّ
ثم غنَّى بعده نشيداً:
ما خابَ من جعل الجزيرة موطناً = لا الزابُ يشبهها والخابورُ
تحيا النفوس بطيبها فكأنها = نيلُ الرضا يحيى به المهجورُ
وكأن نرجِسها عيونٌ كُحلتْ = بالزعفران جفونها كافورُ
وبسيطهُ:
على بغداد من قلبي السلامُ = تحية من أَضرَّ به السَّقامُ
لئن أُخرجت من بغداد كرهاً = فإن القلب فيها مستهامُ
أذوب صبابةً وأموت عشقاً = وأَحسدُ من له فيها مقامُ
ثم لم يغن في مجلسه بقية يومه إلا في النرجس، ومنع من حفظه غلَبَةُ السُّكر، وكان قد صفا ذهنه، وخلصت قريحته في ذها الشأن، فحدثنا أنه نام ليلةً حتى رأى فيما يرى النائم كأن شخصاً نظيف الثياب، طيب الرائحة دخل عليه فسلم وجلس إلى جانبه، قال: فقلت: من تكون أصلحك الله، قال: إسحق بن إبراهيم الموصلي، قلتُ: ما أشوقني إلى لقائِك، وأشدَّ حرصي على استماع صوتٍ من أغانيك التي لحنتها ولم يسبقك أحدٌ إليها، فدعا بعودٍ فأصلحه وضرب وغنَّى:
تلاعبت بي لا أنت بالهجر مِتلفٌ = حياتي ولا بالوصل جددت لي عُمرا
تؤاهلني طوراً، وتهجر تارةً = دلالاً، فلا وصلاً تُديم ولا هجرا
فلو دمت في هجري، لسببت مِيتتي = ومن مات من جور الهوى عُرِّض الأجرا
فكم عبرةً للعين أجريتها دماً = وكم حرقةً في الصدِّ أذكيتها جمرا
لعل الذي أضحى له الأمر كُلُّه = على طولِ ما ألقاه يُحدث لي أمرا
فقبلت يده فرحاً وأخذت عوداً وغنيته معه وانتبهت فكتبته وغنيته كما سمعته، فكان كثيراً ما يغنيه ويقترحه إعجاباً بحسن صنعته فيه. وتنزهنا معه في بعض أسفاره إلى المهدية، فبكرنا يوماً ومعنا طيور وكلابُ صيدٍ وتوجهنا إلى نحو سلطته فأخذت الأطيار حجلاً وأرانب ونزلنا بكرمٍ ظليل وأتينا بما أصطيد لنا من السمك فأمر غلمانه فحفروا حفيرة وأوقدوا ناراً وجعلوا يشوون من صيدنا ويلقونه إلينا ويديرون الكئوس علينا ونحن في ألذ عيش وأطيبه إلى أن غيَّمت السماء وأتت بطلٍّ ورذاذٍ وكان فصل الربيع فقال: الآن أكمل يومنا، ودعا بالدواة فكتب:
يا طيب غنمنا طيبَ لذته = حتىوصلنا به الآصال بالبكرِ
ونحن نشربها صهباء صافيةً = ونشتوي صيدنا في مُحكم الحُفر
فالجو يخضب وجه النار من بردٍ = والنار تخضب وجه الجو بالشررِ
ضدَّانِ خوتُهما سِلمٌ لأنفسنا = تراجما بحصى الياقوت والدرر
فانعم به واحبُهُ باللهو تحلِيَة = واعدًدْهُ في الدهر من أيامك الغُررِ
وقام جيش ولده وبيده زورق فضة، فجعل يلتقط به ما استقرَّ من قطر المطر ويمزج به كأسه فنظر إليه أبوه فقال:
وكأسٍ شربناها بماء قرارة = تلقطها السَّاقي بزورق فضةِ
فما زال يسقيني ويَمزُج كأسُه = بزورقه حتى حظيتُ بسكرةِ
فيا غيث خَيّم في ملاعب جنة = فلم أنسَ فيها طيب يوم وليلةِ
ثم انصرفنا فصاغ للشعرين لحناً وغنّى فيهما حتى الصباح.
ونظر إلى بشارة غلامه وكان مليحاً ظريفاً يتولى السقي فأعجبه فقال، وغُنِّيَ فيه:
أَحامِلها من لؤلؤ وعقيق = وما زجها من سلسلٍ ورحيق
أدرها علينا يا لك الخيرُ، إننا = سلكنا إلى اللذات كلَّ طريق
ومن شعره وغنائه:
حيَّاك ظبيٌ وصلُهُ = أبداً يُشاب بصده
حيَّا بوردٍ أحمرٍ وبنفسجٍ في نضده فحكت تحيته سواد عذاره في خدهِ ومن شعره وغنائه، وكان قد عرف الأيام حقَّ معرفتها فقطعها اغتناماً:
كُن عن العذلِ ذا صَممْ = وانفِ عن نفسكَ النَّدَمْ
واقطع الدهر بالسرور = على رغم من رغم
فالذي تبتغي وترجوه = قد خطَّه القلم


.../...

1/13


??áÇð æ ÓåáÇð Ýí ãæÞÚ ÇáæÑÇÞ
www.alwarraq.com


Aucune description de photo disponible.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى