محمد مزيد - الحاجز الوهمي..

صعدنا الباص ، أنا وهي ، باتجاه البصرة ، في واجب صحفي . أنا المحرّر وهي المصورة ، هدفُنا ، نقل ما خلفتّه حرب السنوات الثمان على هذه المدينة ، التي شبعت قصفاً وعطشاً وحرقاً لنخيلها وأشجارها وتجفيفاً لاهوارها المتآخمة لضواحيها . أقتنع مدير التحرير بإرسالها معي ، في هذا الواجب ، بعد أن أخبرتُه إننا شبه مخطوبين ، وعما قريب سنعلن عقد قراننا ، وقد تأكد هو من ذلك حين أرسل عليها ليستفهم حقيقة خبر خطوبتنا " المزعوم " . أحب جنونها ، حين نكون أنا وهي في بغداد ، ولكنني غير متأكد من قدرتي على الأستمرار بالإسترخاء نفسه ، حين نكون خارج العاصمة . ولا أعرف كيف يمكن لهدوئي وصبري أن يصمدا في مواجهة فضول العيون لها ، لاسيما ونحن ذاهبان الى الجنوب ، والناس هناك طيبون محافظون ، لكنهم ينظرون الى المرأة السافرة التي ترتدي البنطلون فيها ما فيها من الكلام.
أنطلقت الباص من كراج النهضة ، فأخذت بذراعي اليمنى إليها وأحتضنتها ثم تمددت خافضة رأسها واضعة ركبتيها لصق كرسي أمامها لتأرجح قدميها ، بعد خلع حذائها ، ثم أغمضت عينيها.
وبعد سبع ساعات وصلنا كراج البصرة ، كنت أخبرت صديقا يعمل في أعلام المحافظة بقدومنا ، فاقسم علي بأن نبيت في بيته .. وعندما دخلنا الى البيت كان قد أخبر زوجته وابنه ( 11 سنة ) بأن المرأة التي ترافقني هي زوجتي ، هيأت زوجته لنا غرفة لوحدنا . وبعد تناول طعام العشاء والأحاديث المبتورة عن الصحافة والصحفيين ذهبنا الى غرفتنا المشتركة . كانت بسرير واحد لشخصين ، نظرت أليّ تلك النظرة التي أحبها حين رأت السرير المشترك ، وقالت " مو تصير وكح حباب " ثم وضعتُ بطانية حاجزًا وهمياً بين منامي ومكان منامها على الفراش.
تمدّدتُ في المكان المخصّص لي ، وتمدّدت هي في المكان المخصّص لها ، أعطيت ظهري للحاجز ، وبقيت هي نائمة على ظهرها ، لما أطفأت أنارة الغرفة ، أستغرقتُ في النوم متناسياً وجودها تماما . كما لم أدع لهواجسي أن تأخذني الى ما لا يرضيه عقلي وضميري ، كنتُ بمجرد أن وضعتُ رأسي على المخدة حتى وجدتني أستيقظ على إشراقة الصباح ، كانت هي تغط في نوم عميق ، ولما وضعت يدي على جبينها لإيقاظها أخذت ذراعي إليها وأحتضنتها .. لاحظتُ أن الحاجز الوهمي وقع عند قدمي السرير .. همستُ باذنها " صباحك بصراوي حبيبتي " فأبتسمت وفتحت عينيها مشعة بتلك الإبتسامة الساحرة التي أحبها ، " صباحك عسل إيها الوفي"...
فطرنا ، ثم أخذنا تاكسيا وأتجهنا الى الأهوار التي قيل أن نصف الحياة عادت إليها ، ألتقينا بالناس البسطاء ، صورّت هي المياه ووجوه الناس والقصب والبردي والمشاحيف والطيور .. وفي المساء عدنا الى بيت صديقي الذي كان مضيافا كريما وسخيا ، وفي اليوم التالي أمضينا جولتنا في أماكن آخرى ، ثم عدنا وأخبرت مضيفنا إننا في الفجر سنسافر الى العاصمة .
عدنا الى الحاجز الوهمي ، فوضعته وأنا أتابع نظراتها الجميلة ، ثم مدت يدها اليسرى من تحت الحاجز الى يدي وضغطت عليها بقوة ، بعد قليل سحبتها بهدوء كي لا تتصاعد الهسهسة في نفسي أكثر من الحد المسموح به .. وأدرت ظهري لها ، لكنها بعد لحظات لكزتني ، فلم أهتم لجنونها ، وفهمت هي أستغراقي بنوم عميق.
وفي الصباح أستيقظت قبلي ، واضعة فمها بالقرب من أذني " أستيقظ يا شهريار " على بحة صوتها الهامس ، أستيقظت . تناولنا فطورنا على جناح السرعة ، ثم ودعنا صديقنا وزوجته على كرم الضيافة وأتجهنا الى كراج البصرة.
وصلنا الى بغداد بعد سبع ساعات ، أساجرنا تاكسياً فأوصلتها الى بيتهم أولا ، ثم أتجهت السيارة بي الى بيتنا.
في اليوم التالي وصلنا الى الجريدة ، وفي حوزتنا عدة مواضيع ، غير إننا صُدمنا بخبر دخول قواتنا الى الكويت في الثاني آب من العام 1990 .. وتم أستدعاء مواليدي للإلتحاق بالجبهة..
التحقتُ وأُسرتُ في المعركة ووضعونا في منطقة حفر الباطن الحدودية ، وبعد مضي تسعة شهور لم أعد فيها الى البلاد الا بعد أنتهاء مراسم تبادل الآسرى ، عدتُ ، فلم أجد إي ذكر لحبيبتي لا في الجريدة ولا في إي مكان آخر ، كأن الأرض أبتعلتها . بحثتُ عنها في كل مكان من دون فائدة ، تألمتُ بشدة ، وبكيتُ عليها كثيراً ، وبقي الى يومِنا هذا طعم حاجز غرفتنا الوهمي وقد تحول الى حاجزٍ حقيقي.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى