جمال الطيب - مستجاب.. أمير الواقعية السحرية

محمد مستجاب، كاتب ذو خصوصية فريدة في أدبنا العربي الحديث. وأسباب ذلك كثيرة ومعروفة، من بينها أنه كان صاحب رؤية خاصة لا ينازعه فيها أحد، وأنه قدم للمكتبة العربية أعمالا سوف تظل دائما مثيرة للجدل والتأمل ومفجرة للطاقات الإبداعية عند الآخرين. إضافة إلي أنه امتلك سمة عبر عنها بصدق سيد الوكيل في مقال له تحت عنوان «مستجاب.. حقل ألغام» عندما قال: «إن كتابات محمد مستجاب هي خليط بين السيرة الذاتية والسيرة الشعبية والقصة والشعر والمقامة والنقد والكوميديا والتراجيديا أو التنكيت والتبكيت أو الجنون والحكمة». علي أن أهم خاصية ـ في نظري ـ هي أن أدب محمد مستجاب داخل بقوة وعمق ضمن تيار الواقعية السحرية لا من خلال مفهومها العجائبي فقط، وهذا ما يتصوره كثير من الكتاب أي عالم الجن والعفاريت و«ألف ليلة وليلة» وما إلي ذلك، وإنما من خلال مفهومها المعاصر القائم علي ثلاثة ارتباطات هي: 1ـ العجائبي المتمثل في الأشياء المذكورة إضافة إلي «حواديت الجدات»، 2ـ الأسطوري وهناك مقولة مهمة لخوري لويس بورخيس هي «إن الأسطورة تقع في بداية الأدب وفي منتهاه»، 3ـ والارتباط الثالث هو الجانب السيريالي. ومعروف أن السيريالية مذهب حديث ظهر قبل منتصف العقد الثالث من القرن العشرين، وجاءت تتويجا للحركات الطليعية مثل المستقبلية، والماورائية والتكعيبية والتعبيرية والدادائية وغيرها.
ومن العجيب أن وصول محمد مستجاب إلي هذا المفهوم الحديث للواقعية السحرية قد تم بشكل تلقائي وعفوي دفعته إليه موهبته الخالصة. فعندما بدأ محمد مستجاب يكتب في أواخر الستينيات (نشر أول قصة له في مجلة «الهلال» في أغسطس عام 1969 وكان عنوانها «الوصية الحادية عشرة») لم تكن الواقعية السحرية قد عرفت في العالم العربي. وأنا شخصيا، وكنت متابعا دءوبا للآداب الأجنبية، لم أسمع عنها إلا عندما ذهبت إلي إسبانيا للدراسة عام 1977، وكانت تتردد بقوة هناك في ذلك الوقت أسماء بورخيس وكورتاثار وماركيز وغيرهم.
ولاشك أن الواقعية السحرية أنماط وأنواع مختلفة، فهي عند أليخو كاربنتير غيرها عند ميجيل انخل استورياس، غيرها عند بورخيس. وقل مثل ذلك بالنسبة لجاريثا ماركيز وخوان رولف وخوليو كورتاثار وسواهم. والواقع السحري عند مستجاب ـ في رأيي ـ قريب جدا من الواقع السحري عند خورخي لويس بورخيس، وخاصة من جهة استخدام الأسطورة الشعبية. فكل منهما لا يقف عند السطح، وإنما يذهب إلي العمق أو الجذور. وقد كتبت عن بورخيس كتابات كثيرة في هذا الشأن، ومن أعمق ما وجدته فيما كتب عن محمد مستجاب بهذا الخصوص مقال لأستاذنا المرحوم الدكتور شكري محمد عياد تحت عنوان «القفز علي الأشواك ـ كوميديا الأسطورة» قال فيه: «الحقيقي وغير الحقيقي (في أدب مستجاب) كل واحد. فكرة الحقيقة نفسها غير واردة، فهي من اختراع القصاصين في عصر العقل. والشخصيات ليسوا بشخصيات «أفراد» لهم صفاتهم المميزة، ولا «نماذج» يمثلون فئة من البشر، ولكنهم أشبه بشخوص القرة جوز أو خيال الظل، والحدث لا يتطور بل يدور حول نفسه حافرا في العمق مثل البريمة».
ويخلص الكتور عياد إلي أنك تستمتع بالحكاية كشيء مختلف، غريب في هذا الزمن، وربما شبهتها بالحكاية الشعبية، ولكن الكاتب ليس بالساذج إلي هذه الدرجة، فهو دخل عليك ككاتب واقعي شديد الالتصاق بما يجري في قريته.. إنه إذن يذهب إلي أعمق من الخرافة أو الحكاية الشعبية. إنه يذهب إلي جذر الأسطورة نفسها، ولكنها يذهب إليها بوعي إنساني حديث فيحولها إلي كوميديا. وجذر الأسطورة أسبق من أي أدب مكتوب، أسبق من قصة ـ أوزوريس أو جلجاميش أو أدويسيوس أو أوديب.
والحق أن الدكتور شكري عياد في هذا المقال الرائع، بدا لي وكأنه يقدم تنظيرا رائعا للواقع السحري دون الاستعانة بأي مراجع أجنبية أو حتي دون أن يلتفت إلي أن هناك تيارا بهذا الاسم يغزو الساحة الأدبية العالمية منذ عقود. ولكن أعمال محمد مستجاب، وخاصة هذه القصة التي توقف عندها وهي «كوبري البغيلي» من مجموعة «ديروط الشريف» قدمت له الأرض الخصبة التي انطلق منها ووضعت يديه علي أشياء كان لابد أن ينتبه لها بوصفه ناقدا حصيفا ومتميزا. فمحمد مستجاب علي الرغم من غرابة ما يقدمه إلا أنه في الأساس كاتب واقعي شديد الالتصاق بما يجري في قريته، وهذا عنصر مهم «الالتصاق بالواقع» في الواقعية السحرية ينبغي أن يكون بينه وبين العنصر الآخر وهو «الجوانب السحرية» توازن دقيق، وإلا اختل العمل وحدث له انهيار، أو علي الأقل تتحول الأشياء السحرية إلي أكاذيب لا يصدقها عقل. وهذا ما حذر منه جارسيا ماركيز عندما قال في محادثاته مع صديقه بلينيو ميندوثا إن المرء لا يمكن أن يخترع أو يتخيل كل ما يعن له، بدون ضوابط، وإلا تحول الأمر إلي مجرد أكاذيب، والأكاذيب في الأدب أكثر خطورة منها في الحياة الواقعية. ومما قاله ماركيز في هذا الشأن: «إن الأشياء الأكثر دخولا في حالة الاعتساف الظاهر تحكمها قوانين. والمرء يستطيع أن يزيح مساحة العقل بشرط ألا يقع في الفوضي، أي في اللاعقلانية المطلقة». وذلك لأن الخيال ـ في رأيه ـ ما هو إلا أداة لتشكيل الواقع. لكن مصدر الخلق أولا وأخيرا هو دائما الواقع. أما الفانتازيا، أو الاختراع الخالص والبسيط، علي طريقة والت ديزني، فهو أكثر الأشياء إثارة للكراهية.
ولاشك أن هذا التوصيف لمفهوم الواقعية السحرية يجعلنا ندرك لماذا كان محمد مستجاب حريصا علي أن يذهب إلي أعمق من الخرافة أو الحكاية الشعبية، ويذهب ـ كما قال الدكتور شكري عياد ـ إلي جذر الأسطورة نفسها بوعي إنسان حديث. ولعل هذا هو الذي جعل الكثيرين لا يستطيعون الوصول إلي كنه أدب محمد مستجاب، وكان هذا هو السبب أيضا في أنه لم يأخذ حقه من التقييم وهو حي، فقد نظرنا إليه دائما علي أنه كاتب عادي، ربما يتميز عن الآخرين ببعض ما نال من شهرة، مع أنه ـ في رأيي ـ لم يكن يقل إبداعا أو عمقا عن الكاتب الأرجنتيني المشهور خورخي لويس بورخيس.
لقد كنت أنظر إليه عندما نلتقي في مؤتمرات الثقافة الجماهيرية، ويسعد بأي تكريم يقدم له، فأقول في نفسي: ما أتعس هذا الزمان الذي لا يجد فيه أدباؤنا الكبار من يقدرهم حق قدرهم! إن الكاتب المكسيكي خوان رولف، برواية واحدة هي «بدرو بارامو» ومجموعة قصصصية واحدة هي «السهل يحترق» حاز شهرة عالمية لا مثيل لها، والكتاب عندنا يعانون من شظف العيش، ومن تهميش دورهم. وكنا نتصور أن هذه حال إلي زوال، ولكن من الواضح أنها ستظل ممتدة طالما بقيت أوضاعنا جامدة، فاقدة للحياة، والتطور والنماء.
* أعمال مستجاب
بدأ محمد مستجاب ـ كما أسلفت ـ ينشر قصصه منذ عام 1969. وقد نشر في معظم المجلات والصحف التي كانت تصدر في ذلك الوقت حتي تكونت لديه أول مجموعة قصصية وهي «ديروط الشريف» التي نشرت عام 1984. وكانت قد صدرت قبلها أول رواية له وهي «من التاريخ السري لنعمان عبدالحافظ» عام 1983. وتوالت أعماله بعد ذلك، ومنها روايته الثانية «إنه الرابع من آل مستجاب» «2001» ومجموعات قصصية أخري مثل «قيام وانهيار آل مستجاب» و«قصص قصيرة حمقاء» و«الحزن يميل للممازحة» و«القصص الأخري».. وقد عرف مستجاب أيضا بمقالاته التي تجمع بين طبيعة المقال وطبيعة القصة، وتذكرنا بما فعله يحيي حقي في بعض كتبه مثل «كناسة الدكان» وغيره. ومن أهم كتابات متسجاب في هذا النوع «بوابة جبر الخاطر» و«نبش الغراب» و«حرق الدم» و«أبو رجل مسلوخة» و«أمير الانتقام الحديث». ومعروف أن لديه أعمالا كانت تحت الطبع، أو لعل بعضها ظهر مؤخرا مثل «مستجاب الفاضل» و«كلب آل مستجاب» وقد ترجمت بعض أعمال مستجاب إلي اللغات الفرنسية والإنجليزية والهولندية واليابانية.
وهذا التنوع في أعمال محمد مستجاب، بالمقارنة بقلة ما كتب عنه يدل علي أنه لم يدرس كما ينبغي، ولم تحلل أعماله التحليل الذي يجعلها قريبة من فهم القارئ العادي غير المتخصص. وهذه مشكلة حقيقية الآن في ثقافتنا يعاني منهاالكتاب والقراءة علي حد سواء. فالكتاب شبه مجهولين لأنهم يقدمون أحدث ما أنتجه العقل البشري في مجالات الفن والإبداع، والقراء معذورون لأن الثقافة السطحية ـ إن صح أن نسميها كذلك ـ صارت هي السائدة.



أعلى