د. محمد عرفات حجازي - الإصابة بكورونا والتّبصُّر الوجوديّ

تجربة الإصابة بفيروس كورونا من التّجارب التي تستحقّ الوقوف معها، والنّظر إليها بعُمق؛ إنّها الّلحظة الفارقة بين الحياة والموت، بكلّ ما تحملها كلمتي (الحياة/ الموت) من معنى..
فيروس كورونا زائرٌ ثقيل الظلّ بدرجة مُعتدي، يأتي للمُصاب مُتسلِّلًا دون أن يشعر به، أو بمصدره، فيحتلّ رئتي المُصاب، ولاحقًا، يتعافى منه الكثيرون، في حين يلقى البعض حتفهم بسببه.
ولأجل التعبير بدقّة عن تلك المسألة؛ لا بدّ من تمثُّل الإصابة، مُعايشتها، التّغلغُل، بل والانصهار في تفاصيلها..
خلال بداية الإصابة، ينشط الضّمير/ النّفس اللّوامة بالتّأنيب؛ كونك قد تتسبّب في إصابة أهلك وذويك؛ فينمو الألم النفسيّ، ويرتع معه الفيروس ساعيًا لبدء رحلته المُميتة أحيانًا، وذلك في الوقت الذي تُحاول فيه التّغلُّب على الإصابة ببعض الأدوية التي لا استقرار على فاعليّتها. ومن هنا، تبدأ الرّحلة..
بدايةً، ستُحيطك سحابةً من الشّفقة، والمحبّة والدّعوات الممزُوجة بالخوف من الفقد، لتُدرك معها استمرار وجود نزعة الخير، وتطفو الإنسانيّة لدى أغلب المُحيطين بك في العالمين الواقعي والافتراضي، حتى وإن لم تغرس بذور تلك المحبّة مُسبقًا. وهنا لا بدّ أن نُثير التساؤلات: لماذا طغت مشاعر الشّفقة في تلك اللّحظة خصّيصًا؟، هل لها من معنى آخر غير الخوف والخشية على الذّات ـ ذلك المعنى الّذي فضحنا به الفيلسوف الألماني نيتشه؟ وإذا كان الآخر يخشى آلام الفقد، أفلا تحمل خشيته وجهًا للأنانية، للذّاتية المُغرقة؟، أمّا أنا/ نحن (المُصاب) فلما الخوف من الموت؟، ألم نستعدّ لأجله؟، ثمّ هل أدركنا الآن حقيقة وجوده؟ وهل يُجدي الإدراك وقتئذٍ نفعًا؟. هنا، تنتابُنا رعشة.. رجفة مُميتة قد تُودي بنا أسرع من الفيروس.
بعد لحظات، ستُدرك مأساتك الوجوديّة: أنّك حاملٌ للوباء.. إنسانٌ غير مرغوب الاقتراب منه رغمًا عنك وعن مُحيطك الضيّق، ويزدهر مع تلك المشاعر الألم النفسيّ، وحينها ستشعر بكينونة مُغايرة تمامًا عن الذّات التي كنت عليها في لحظة سابقة.
وفور انتكاس حالتك الصحيّة، ستسمع القلق بل الفزع والرُّعب على وجوه مَن يتولّون أمر علاجك؛ خوفًا من العدوى، حينها، قد تلتمس لهم العُذر؛ كونهم يُغامرون بحياتهم ليس فقط من أجلك أو شفقة بذويك، بل أيضًا انتصارًا لمهنتهم، ومن قبل لإنسانيّتهم.
لقد جعلت الإصابة من صديقي شاهدًا على تجديد يقينه بأنّ كلّ أمره بيد خالق واحد، وأنّه في معيّته وحده، بينما لا يتحسّس الدنيا وقتها إلا مع أقرب الأقربين إليه.. وتيقّن من زيف الموروث: إنّ الإنسان إذ يكون فريسة ضيقٍ عميق فإنّه معفيٌّ في الوقت نفسه من جميع ألوان الضّيق الأخرى..
وخلال ذروة إصابته، حادث نفسه قائلًا: ألم يأن للبشريّة أن تهدأ وتعيش في أمان وسُكون دون حروب أو صراعات؟ ألا يعرف البشر أنّهم أضعف ممّا يتخيلون، وأقلّ ممّا يظنّون، وأنّ النجاح في اختبار الصّبر على الابتلاء هو نعمة لا يهبها الله إلا لمَن أحبّهم؟ وقتها قال والسعال يشقّ صدره ودمه يقترب من التجلُّط: يا لها من دنيا لا تستحقّ كل هذا العناء من أجلها، ويا لها من أزمة نكتشف فيها المُخلصين ولا يقعون منا في منتصف الطريق.. وقتها انهالت دموعنا كالسّيل، ولا ندري هل هي الشّفقة عليه أم على ذواتنا!
غاب عنّا.. فقدناه لساعات اعتقدنا أنّها النهاية.. طغى الضّجيج لأجل الاستعداد وتجهيز مراسم الدّفن.. مرّت ساعات أخرى كأنّها أعوام، جاء الخبر اليقين: لقد تحسّنت أحواله.. وبعد أيّام، كُتب له الشِّفاء التّام. وفي طريق عودته، همس إليّ…



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى