محمود غنايم - عشرون عامًا على رحيله: إميل حبيبي مع شخوصه

كنا قد دعينا إلى المركز العربي اليهودي، بيت الكرمة، في حيفا لأمسية ثقافية عام 1992، وبينما كنا نسير معًا مجموعة من المشاركين، بينهم "أبو سلام"، اقتربت منه وسألته، بينما نحن في نهاية شارع شبتاي ليفي في التقائه مع شارع الجبل: هذا هو عمود الكهرباء الذي اصطدمتَ به عام 1940. سرت قشعريرة في جسد إميل ونظر إلي مشدوهًا، ثم سألني: هل كنت موجودًا؟ كنت بسؤالي أشير إلى أحد المواقف التي وردت في رواية سرايا، عن اختفاء العم إبراهيم واختفاء سرايا. وهذا الموقف يدل رمزيًا على انتقال إميل إلى العمل السياسي وانخراطه في صفوف الحزب الشيوعي:
ولعلي لم ألق سوى طيفه، في صباح يوم ماطر وغائم وشديد البرودة من أواخر العام 1940، حين تركت الدار ساعيًا إلى رزقي في نوبة الساعة السادسة.
وكان الضباب كثيفًا يحجب الطريق أمامي. وكنت، لأمر ما، محبطًا. فاصطدم رأسي بعمود كهرباء نُصب على الرصيف أمام مدرسة البنات. فانطرحت على عتبة الرصيف. وزخ المطر على أشده والسيل جارف. ولا حيلة لي سوى البكاء. فلم أعد أرى العابرين من قدامي ومن جانبي ومن ورائي. ولا أسمع وقع خطواتهم ولا هم ألقوا إلي بالاً..
واستبدّ بي الخوف من أن أكون تأخرت عن موعد الباص. فأيقنت بانهيار عالمي فوق رأسي وبأنني المسؤول عن هذا الانهيار. وقضي الأمر ولا مردّ لقضائه.
طأطأت رأسي يائسًا وشهقت شهقة ملأت صدري بعبير سرايا. فاختلست نظرة إلى ورائي أبحث عن الكرمل. فوجدت ضبابًا أعادني إلى ما قبل بدء الخليقة...
ومنذ ذلك التجلي ما شعرت، يومًا، بأنني عائد إلى ما قبل الخليقة - وحيدًا ما معي سوى الضباب، الضباب من تحتي والضباب من أمامي ومن خلفي والضباب من فوقي وفي عيني وفي خياشيمي وفي أذني وحلقي وصدري - إلا سمعت صوته يلاحقني: - "انطلق"! فأقوم على قدمي وأمضي على قدمي عائدًا من عالم ما قبل الخليقة إلى عالم الحقيقة والتردد في الخطوة الأخيرة (سرايا، ص 162-163).
لقد كان إميل حبيبي في الحلم والواقع، في اليقظة والنوم، وحيدًا ومع الناس، يعيش مع شخوص قصصه ورواياته، يحاورها ويجالسها ليصبح الأدب كل عالمه. ولسوف يفرد التاريخ صفحة أخرى لإميل الأديب، لإخلاصه لفنه وضميره الأدبي.

محمود غنايم
أعلى