فريد غانم - على انكساراتِ الزَّبَد

( إلى إميل حبيبي)

كيف أنتَ اليومَ يا صاحبي؟
أمَّا عِنْدَنا فالأمورُ مُدلَّاةٌ، بآخرِ شَعْرةٍ من رموشِ "ما يُرام".
وهُناك، فوق البَحْرِ الّذي ما كان أبيضَ يوْمًا، ما زالَتْ صنَّارةٌ(1) من قصبِ النَّهر الفقير معلَّقةً على وَتَرِ فيثاغوراس(2)، متأرجحَةً من جدائلِ صنوبرةِ الكَرْمِلِ، بين ابنةِ الحَظِّ والخَيْبات.
أسدٌ يتصَخَّرُ(3) منذ خرجَتِ "الميدوزا"(4) من البَحْرِ واستوطنَتْ في عيونِ النَّاس. نوارِسُ جائعةٌ ترقُبُنا لتأكلَ من يدَيْنا أصابعَنا(5). فافتَحْ لنا عَيْنًا كي نَرى، واغلقْ لنا عَيْنًا لتردَّ عنَّا أبوابَ الرّيحِ وأبناءَ الحَرام.
وسوفَ أُبلغُكَ الآن، يا حبيبي، بعدما غزى الشَّيْبُ هوامشَ شَعْرِنا واحتلَّ السُّوسُ الأَسوَدُ ضِرْسَ العَقْلِ، وبعدما سقطَ عِقدانِ فريدانِ من جيوبِنا التي ثُقِبَتْ بمسامير الوَهْمِ القديم الجديد.
سأُبلغُكَ أنَّهم كسَروا أَنْفَ صديقتِكَ الزَّرقاءَ(6) فتعرَّتْ في اللَّيْل الطَّويل، وألقَوْا ثوبَها السَّماويَّ، المشرَّبَ بالبَحْرِ الواقف على بابِها، ونشروا بشرَتَها القمحيّةَ على الطَّريق السّريع إلى تل أبيب. سُمْرَةٌ مُحاصرةٌ ها هُنا: البَحْرُ أمامَها والإسفلتُ سياجُها، وطارقُ ابنُ زيادٍ ترك الأندلُسَ ولَمْ يعُدْ.
وها هو أنتَ، ما زلتَ شَيْخًا في قلبِ طِفْلٍ، جَبَلًا في خِفَّةِ حَصْوةٍ، إعصارًا في فُقاعة رغْوَةِ الماءِ المالحِ تحت الجِسرِ المُقَطَّع.
ها هُوَ أنتَ: كلامٌ يفِرُّ من وجْهِ صخرةِ الوَطَنِ الشَّريدِ، وكلامٌ يستقرُّ على موجَةٍ ترقصُ في مروج الذَّهَب(7)، بين ابنِ المُقفَّعِ(8) وابن غوركي(9).
ولا بدَّ أنَّكَ تقرأُ الجريدةَ(10):
ظلٌّ يطولُ غربًا في الصَّباحِ، يقومُ على ساقيْهِ شَرقًا عند المغيبِ، ويرتدُّ مثلَ الصَّدى المُشظّى إلى عَيْنَيِّ سُنبلةٍ في حقلِ فلَاحٍ لم يسمع نشرةَ الأخبار(11). وسوفَ تقولُ لنا، بصوتٍ مستَقرَضٍ من رَعْدِ البِلادِ: طعامُنا اليومَ باذنجانٌ(12)، وحكايةٌ، وزيتُ زيتونٍ من خابِيةِ سرايا ابنةِ الغول(13)، وزعيقُ امرأةٍ سقطَ مُعْتَصِمُها(14) عن مِعصَمَيْها الضّائعَيْن في البَعيد البَعيد.
لمْ نلتقِ منذ مُدّةٍ، والوقتُ يمضي بلا إذنٍ.
لكنّني لن أقبلَ عُذرَك، يا حبيبي. فالموتُ، عندَك، لا يعني الغِياب.
لم نلتقِ، منذُ مُدَّةٍ.
فلماذا، مثلًا، لم تتسلَّقْ أدراجَ رامَ الله الحجريَّةَ، في الصَّيْفِ الفائتِ، حينما انتقلَ المُخيَّمُ للعيشِ في المدينةِ، وانتقلَت بيوتُ المدينة لاتّقاء التَّصفُّرِ(15) وقذائفِ الذُّلّةِ تحتَ سقوفِ الخِيام؟
ولماذا، على سبيلِ المثالِ، لم تمُدَّ خيطكَ للسَّمكةِ الذّهبيَّةِ التي انتظرتْكَ طويلًا، بلا شمسيَّةٍ، قبالةَ جامع الجزّار(16)؟
ولماذا حبسْتَ برْقَك، يا حبيبي، عن غمامِنا الّذي جفَّ، وتركتَ حِبْرَكَ، بلا أَحبارٍ، محبوسًا في الدوَّاةِ القاحلةِ، فوقَ طاولةٍ من خشَبِ سنديانةِ التلَّةِ المخنوقةِ بالعُلَبِ الكبريتيّةِ، في بيتٍ يأكُلُهُ الهَمُّ، في شارع العبّاس(17)، قابَ قوسَيْن أو أدنى من قلبِكَ المزروعِ في ليمونةٍ مزروعةٍ في الوَريد؟
ولماذا أوقفتَ عقربَ السَّاعةِ، على بُرجِها المُصابِ بالوِحدةِ والتّقَشُّرِ، حينَما تعطَّلت الدَّواليبُ في حناطيرِ ساحةِ الحناطير(18)؟
ولا تعتذرْ، يا حبيبي،
فالموت ُ ليس عذرًا لمن لا يموتُ.
ولا بدَّ أنَّك تذكرُ.
ففي جنازتِك، حينَ علَّقتَ صوتَكَ على شمَّاعةِ البابِ ليرتاحَ قليلًا من زوابع غُرفةِ النَّوْم(19)، وتفيَّأْتَ في عرائشِ البطِّيخِ(20)، حين وزّعت بسمتَك الملغَّزةَ على الجِهات، أو حين قطعتَ فُكاهتَكَ الموجِعةَ في أَوْجِها وأرخيتَ خيطَ الحِبكةِ، وحين خلعتَ نظّارتَك عن عينَيْك الجاحظيَّتَيْن(21) – حينئذٍ، فتحت النّاصرةُ دكاكينَها للسّيَّاحِ وعيونَها للدَّهشَةِ، ونسِيَتْ شبابيكَها مفتوحةً للرِّيحِ وكسرَتْ حكايةَ كسْبِ العالمِ وخسارةِ القلْبِ(22). وكنتَ تُلقي تحيَّتَكَ الجَهوريَّةَ، براحتَيْن ناضجتَيْن، من شُرفةِ موتِكَ العالي، على من وُلِدوا ومن عاشوا ومن ماتوا ومن أداروا ظهرَ المِجَنِّ. ولا بدَّ أنّك تذكرُ: جاءَ درويشُ(23)، يومَئذْ، متَّكئًا علَيْكَ وعلى عناقٍ مُرجَأٍ في روزنامة ممزَّقةٍ، وغنَّى لسِياجِ القندولِ عِلى الشِّفاه.
ثمَّ مشيتَ، ومشَيْنا معكَ، إلى شاطئٍ(24) يتقِنُ غَسْلَ الضَّغينة، وإطباقَ شفاهِ الجِراحِ بباقةِ وَرْدٍ.
وكيفَ تغيبُ عنَّا، يا حبيبي؟
فمنذُ تلك الجنازةِ، التي مُتَّ فيها وعِشْتَ فيها وخطَبْتَ فيها وشاركْتَ فيها، صارَ هُنا هُناك، وصارَ هُناكَ هُنا.
فتعالَ يا صاحبي.
ما زالَ أمامَنا متَّسعٌ من الوقت، لاصطيادِ سمَكَةٍ تجيدُ العربيَّةَ، وعصفورةً تُدركُ مسألةَ دوْرَةِ الدُّولاب.
تعالَ نمشِّط شعرَنا بزعنفةٍ وقُصفَةِ صنَوْبرٍ، ونغسِلُ وجهَيْنا القديمَيْن، بانكساراتِ الزَّبدِ القديمِ على صخرتِنا القديمة.

____________
هوامش:
(1) كان إميل حبيبي يعشقُ البحر، ويمارس هواية صيد الأسماك بالصّنّارة. لكنّه كان يعود، في غالب الأحيان، صفر اليدّيْن، جيوبه معبّأةٌ بالخيبة، ورأسُه بالرّؤى.
(2) وترُ المثلّثِ قائم الزّاوية، ونظريّة فيثاغوراس الشّهيرة.
(3) في إحدى رواياته، كتب إميل حبيبي إنّ جبل الكرمل الشّامخ فوق شواطئ حيفا، يظهر من بعيد وكأنَه الأسد الجاثم.
(4) الميدوزا، وحشٌ بحريّ (أسطورة أغريقيّة)، يتحوّل كلُّ من ينظر في عينَيْها إلى حجَرٍ.
(5) في إحدى روايات إميل حبيبي، يصف كيف انقضّت النّوارس على قارب صيده، والتهمت ما اصطاد من أسماك. وحين استلقى ليأخذ غفوةً، أغلق عينًا وترك عينًا مفتوحة، لدواعٍ متضاربةٍ، سردَها في روايته.
(6) قريةُ جسر الزرقاء، الواقعة على الشّاطئ إلى الجنوب من حيفا. وكان الدّخول إليها يسيرًا، مباشرةً من الشّارع السّريع. فكنّا نرافق إميل حبيبي في رحلات الصّيد، على الشّاطئ البازلتي، في أطراف القرية. لكنّ القرية عُزلت تمامًا منذ أعوام، فأقيم سورٌ يحول دون الدّخول المباشر إليها. وصار أهلُها السّمرُ معزولين تمامًا، والوسيلة الوحيدة للدّخول والخروج إليها ومنها، صارت عبر طرقٍ التفافيّة.
(7) إشارة إلى كتاب المسعودي "مروج الذّهب"، الذي يستشهد به إميل حبيبي في رواية "اخطيّة". وكان حبيبي معجبًا بأسلوب المسعودي ولُغته.
(8) عبدالله بن المقفّع، مؤلّف كتاب "كليلة ودمنة" ذائع الصّيت، وصاحب أسلوب "السّهل الممتنع". ويُعتقد أن إميل حبيبي تأثّر بأسلوب ابن المقفّع.
(9) ماكسيم غوركي، صاحب الرّواية الشّهيرة "الأمّ". لم يتلقَّ الدّراسة، لكنّه تعلّم القراءة والكتابة في جيلٍ متأخّر، وألّف روايتَه المذكورة. وتحكي الرّواية/الملحمة كفاح الفقراء ومسيرة الثّورة البلشفيّة في روسيا، ضدّ نظام القياصرة.
(10) إميل حبيبي كان من مؤسّسي صحيفة "الاتّحاد" الحيفاويّة، وأبرز رؤساء تحريرها.
(11) صدَى لعمليّات التّهجير التي تعرّض لها الفلسطينيّون، ولمشهد ظلِّ الطفل، الذي راح يطولُ ويمتدُّ كلّما سارَ شرقًا، إلى أرض الشّتات، ممّا أثار حُنقَ الضّابط الإسرائيليّ (رواية إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد إبي النّحس المتشائل").
(12) إشارة إلى لحمِ الفقراء، الذي هو الباذنجان، في مطلع إحدى روايات إميل حبيبي.
(13) رواية إميل حبيبي "سرايا بنت الغول".
(14) صدًى لاستغاثة امرأة عربيّة بالخليفة المعتصم "وا معتصماه".
(15) اشتقاقٌ من صِفْر.
(16) لجامع الجزّار والأسماكِ حكاياتٌ وحكاياتٌ في روايات إميل حبيبي، وأبرزها في "المتشائل"، حيث حُشرَ المُهجّرون تمهيدًا لطردهم خارج الحدود.
(17) صادرت السّلطات الإسرائيليّة أملاك إميل حبيبي وعائلته في شارع عبّاس في حيفا، فاضطرّت شقيقتُه الصّغرى (ندى) أن تشتريَ البيتَ الذي ربيت فيه، بعد أن صودر. وهي ما زالت تعيش هناك، إلى اليوم، وتعتني بليمونة مُعمِّرةٍ على مدخلِ البيت. أمّا سائر الأخوة والأخوات فتفرّقوا أيدي فلسطين، على وجه الكرة الأرضيّة.
(18) ساحة الحناطير، مركز مدينة حيفا القديمة، وهي تعودُ مرّة تلو مرّة أدب إميل حبيبي.
(19) في سنواته الأخيرة، سعى إميل حبيبي إلى اعتزال العمل السّياسيّ، وتخصيص وقته للأدب.
(20) للبطّيخ أكثر من حكاية في أدب إميل حبيبي، كمقولته السّاخرة بأنّ النّزاع بيننا وبين اليهود هو حول الحاء والخاء. فإذا قلت لهم "بطّيخ" يقولون "بطّيح". (إحدى رواياته).
(21) ممّا كان يلفت الانتباه في إميل حبيبي، عيناه الواسعتان، الجاحظتان. غيرَ أنّ أسلوبَه في الكتابة يفتحُ الباب على مسألة مدى تأثُّره بالجاحظ، بما في ذلك أسلوب التّداعيات والإطناب.
(22) صدًى لمقولة يسوع النّاصريّ: "وما نفعي إن كسبتُ العالم وخسرتُ نفسي".
(23) الشّاعر الرّاحل محمود درويش، الذي كان عمل في شبابه مع إميل حبيبي في صحيفة "الاتّحاد"، وحافظ على علاقة طيّبة معه. وكان مُخطّطًا أن يلتقي بإميل حبيبي، في حيفا، غيرَ أنَّ المرضَ لم يمهل إميل. فشارك درويش، بدلًا من معانقة حبيبي، في جنازة الأخير وألقى كلمة رثاء بالمناسبة.
(24) دُفن إميل حبيبي في 2.5.1996، كما طلب في وصيّته، في قرية "سمير"، على شاطئ البحر، حيفا.
أعلى