طارق إمام - حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة، مات فيها.. قصة قصيرة

أيقظه صفير القطار بينما كان يحلم بمدينة تطل على البحر .. واندهش، لأنها المرة الأولى التي يستيقظ فيها من حلم قبل أن يرى مشهد دفنه . كانت تلك أيضاً المرة الأولى التي يوقظه فيها باعث واقعي ، فطوال سنوات مديدة فشلت كل الأصوات ، و المحاولات اليائسة لزوجته ، في إخراجه من مناماته.

أول شيء فكر فيه هو هذا القطار نفسه ، القطار الوحيد في المدينة ، و الذي يكرهه تماماً ، فهو صغير ، يعود لبدايات قرن مضى ، و يذكره ــ كلما رآه من نافذته ــ بنعش أصفر . كل سائقي هذا القطار كانوا أصدقائه بشكل ما . كلهم ينتحرون بعد فترة قصيرة من العمل ، و يتركون الآلة المعدنية البدائية تترنح وحدها للحظات ، قبل أن تتوقف عجلاتها فجأة .. قبالة شباك غرفة نومه ، و حيث يكون دائماً قد استيقظ قبلها بدقائق.

فكر انه بحاجة لسيجارة ، فتحسس جيب جلبابه ، حيث ترك علبة سجائره آخر مرة قبل سنوات ، منذ نام آخر مرة . بعدها ثبت طاقم أسنانه ، فقد كان يطمئن فور استيقاظه عليه ، و يثبته بسرعة بينما تعود له الحياة أخيراً، كأنه كان نائماً بدون فمه . لا يستطيع التدخين بدونه ، رغم أنه لم يكن يحتاجه لمثل هذه المهمة.

كان قد بدأ يغيب في اليقظة ، عندم استدار فجأة ، مرعوبا ، على كف أليفة و هشة ، و احتاج وقتاً ــ كما يحدث في كل مرة ــ كي يتعرف على وجه المرأة التي شاركته حياته . لمح في عينيها الدموع المتفق عليها التي كانت تواجهه بها بعد كل مرة يعود فيها سالماً من نومه . بعدها تركته و استدارت لشئون البيت ، عائدة للا مبالاتها التي تعود عليها .

زوجته لم تكن تعبأ بوجوده ، ليس لأنها تكرهه ، بل لأنها أكثر شيخوخة منه .. لكنها على العكس منه تماماً ، كانت بلا أحلام على الإطلاق . لم تر طيلة حياتها صورة واحدة في منام ، و لم يؤرقها ذلك أبداً.

عندما اخترق القطار منامه ، كان غارقاً . انتشلته الأيادي بالكاد من قاع البحر و بدأت الهمهمات تدور حول طريقة دفنه.. و استيقظ الرجل و هو لا يعرف أين مقبرته في تلك المدينة الساحلية .

ظل متحيراً ، يفكر في أنها المرة الأولى التي يوقظه فيها صفير هذا القطار . يفكر في جثمانه الذي في تلك المدينة الساحلية البعيدة ، لا يعرف كيف دفن و لا أين.

وصله صوتها المتساءل من الصالة بحياديته الأليفة : كيف مت هذه المرة ؟

كانت تسأله كلما استيقظ عن طريقة موتة ، غير عابئة بطريقة حياته .

لم يجبها ، و زاد شعوره بالغيظ و الخجل . و لكنه ارتاح قليلاً عندما مرت دقائق دون أن تكرر السؤال ، رغم أنها ــ منذ تزوجها ــ لم تكرر عليه سؤالاً أو ملحوظة .

لم تكن زوجته مجبرة أن تصدق أنه كان يحلم بمدن كثيرة ، كانت تتعامل مع الأمر كقدر لا يحتاج للتفكير به أصلاً .هو أيضاً لم يكن مضطراً ليصدق ، ذلك أنه لم يكن يحتاج للتصديق.. فكلما حلم بمدينة كان يستيقظ ليكتشف أنه يعيش فيها . يستيقظ في سريره نفسه ، في غرفته ذاتها ، لكن في مدينة أخرى . يعرف ذلك عندما يمد رأسه خارج الشبابيك ، و يكتشف أنه يطل على جغرافيا لم يتنسم هواءها من قبل . فيخرج مغادراً الشقة الشبحية و ظل زوجته إلى مدينة جديدة .. يواجه هواءها كأنه يولد .

يتجول في المدن التي يحلم بها ، يبحث عن مهن صغيرة ليأكل ، رغم شيخوخته ، ثم يموت . يستغرق ذلك أوقاتاً متراوحة ، قد تكون أياماً أو شهوراً أو سنوات .. بينما جسده ــ في نفس اللحظة ــ مسجى في سريره . كانت زوجته تضطر لإطعامه و هو نائم كي لا يموت في سنوات أحلامه .. و تضع له السجائر في فمه ، تشعلها له و تراقبه و هو يلتهمها بنهم ، كأن الدخان يشحذ صور مناماته . لم يكن طعامه هنا يعني شيئا لجوعه هناك ..مثلما لم تكن حياته هنا تتعارض و موته هناك . لكنه أدرك منذ سنوات طويلة ، أن واقعه الفعلي صار في كل الأماكن خارج هذا البيت .. و أنه لو كان ثمة حلم في حياته ، فهو مدينته و بيته و زوجته ، و قطار البضائع .

مات في كل المدن التي عاش فيها ، و دفن . واجه ميتات مختلفة ، في حوادث طرق ، مطعوناً ، في مشاجرات ، حانات ، بسكتات قلبية و دماغية ، في مساجد و كنائس .. و مات أيضاً الميتات العادية التي يموتها الناس على أسرتهم ، له في كل مدينة شاهد قبر ، و تلاوات تطلب الرحمة لروحه و لو بطريق الخطأ . صار تراباً منثوراً في أنحاء الدنيا ، ذكرى في كل الأرجاء ، رغم أنه لا يزال حياً ، هنا ، في تلك المدينة بالذات . داخل بيت ما .. بيت واحد ، بغرف محددة لا تتغير ، له امرأة بعينها . رجل مثل أي رجل ، يحيا في مكان واحد ، حتى لوتفرعت من هذا المكان أماكن أخرى : بيت ، غرف ، مقاهي ، و شوارع غير منتهية . رجل كأي رجل يحيا في مدينة ، لا يشترط أن تكون مثل أي مدينة ، غير أنها تبقى مدينة واحدة ، ولها ميزة لا يمكن أن يشاركها فيها مكان آخر ، أنها مدينته. رغم ذلك ، هو رجل يحلم في كل مرة بمدينة ، يؤسس فيها بيتاً في منامه ، و تكون له فيها مقبرة عندما يستيقظ .. غير أنه هنا لم يمت أبداً . ظل رجلاً عجوزاً بحياة مضاعفة ، تؤكدها ميتاته التي صار يعرفها كلها .

ولأنه جرب الموت في أماكن كثيرة ، لم يعد يخشاه ، بل تمناه في وطنه ، لأنه شعر بالخجل من أن يموت في كل البقاع ماعدا سريره . لقد ظل الموت دائماً بعيداً عنه ، و كان الرجل ـ على العكس من جميع البشر ـ ينتظرمجيئه ، ليس بخوف أو رهبة.. لكن بتصالحٍ عذب ، و بأمنية أكيدة أن يتذكره قبل أن يتحول لكومة عظام حقيقية داخل جلبابه .

إنه عجوز لدرجة أن ذكرياته نفسها شاخت و ماتت في العمر الذي تموت فيه أشد الذكريات قدماً .الذكريات التي كالبشر . الذكريات التي تموت بالضرورة ، حتى قبل موت أصحابها . تموت في حوادث عارضة ، في الطفولة و الشباب و الكهولة ، تقتل أحياناً و تنز منها دماء لا نراها . بعضها يدفن و بعضها يترك في الطرق . فقط عندما تكتب الذكريات تعيش ، بالضبط كما يحدث للبشر . ذكريات هذا الرجل لم تكتب أولا بأول ، و عندما تكتب ــ إن حدث ذلك ــ ستحرف ، و لن تعود أبداً على علاقة بذلك الذي حدث بالفعل .عليه ألا يقنط ، و علينا جميعاً . لا ذكرى تشبه الواقعة . كان يقنع نفسه كلما فشل في تذكر شيء بأن الذكرى خيال شاحب لواقع لم يحدث .

ربما لذلك ، كان يتذكر أشياء قليلة ، تؤكد له ــ فقط ، و بيقين مضاعف ــ أنه لم يعد يملك ما يتذكره.. و تخبره في كل مرة أنه شخص نسي كل شيء تقريباً ، فيما عدا ميتاته .. من هذه الذكريات مدينة حوائط لا نهائية ، مات فيها مبكراً جداً ، غير أنه ظل غير قادر علر محو ذكراها . مدينة لا تعرفها الخرائط التي كان يعود إليها بعد كل يقظة ليعرف على وجه الدقة أين عاش و مات آخر مرة .

حدث عنها زوجته كثيراً .. كانت ــ كما كان يقول مأخوذاً ــ أقرب لغرفة ، شاسعة .أينما سار الشخص فيها يصطدم بالحوائط ، الحوائط التي يمكن للواحد أن يجدها في أي بيت و ليس في مدينة . عليها صور السكان في براويزها ، صور الشهداء و الموتى المتربة بشرائط الحداد السوداء المائلة ، آيات قرآنية ، و صور قديسين ، و لوحات زيتية ، بألوان الطلاء الكثيرة ، بل و مفاتيح كهرباء محفورة . ليس سوى ملايين الحوائط التي يمتلكها الجميع بالتساوي . بالمقابل ، تخلو البيوت من أي ذكرى معلقة . بل إن حوائطها ليست سوى جدران جرداء ، و عملية ، من تلك التي تألفها في المدن . يمكن لأي عابر أن يفتح باب أي بيت ، و يعطي ظهره لأفراد الأسرة ، و يدفق بوله الساخن أسفل الجدار . داخل البيوت توضع الملصقات الإعلانية ، و الأوراق الانتخابية ، و تحضر الكتابات المرتجلة للعابرين ، و أفيشات الأفلام . إذا أردت أن تعرف أخبار المدينة فادخل البيوت .. و إن أردت بيوتها ، فليس عليك سوى أن تتجول .. لترى العاديين على الحوائط .في كل بيت فيها غرفة تستخدم كمقبرة ،و قد دفن في واحدة من تلك الغرف ، محصناً بالجدران ، ثم محصناً بالحوائط في الخارج ، و هي الميتة التي كانت الأكثر مثالية له حتى الآن .

مدينته تتغير . هكذا فكر الآن و هو يتأمل صفوف بيوت نبتت مكان أعواد البوص خلف شريط اقطار ، و بامتداد البصر ، في أفق الغيطان الخضراء التي كانت تطوق المدينة . كان يقول ذلك لنفسه كل مرة يطل فيها من شباكه . في الماضي كان الأطفال يدحرجون كرات زجاجية ملونة متناهية الصغر على التراب ، ثم جاءت ترابيزة خضراء بمضارب و كرة بيضاء يديرها شاب بالقرب من شباكه. كثيراً ما كانت الكرة الفللينية ذات الرائحة النفاذة تتسلل من شباكه و يتحسسها بوجل في نومه كأنها بيضة سحرية ، و يظل قابضاً عليها إلى أن يستيقظ ، و لا تعرف زوجته ماذا تقول لأصحابها ، فتضطر لتوبيخهم ، قبل أن تمنحهم ثمنها . الآن تستقر ترابيزة أخرى ، خضراء أيضاً ، بعصي طويلة و كرات لا تحصى . يرى تلك الـأشياء في لحظات يقظته النادرة، و التي كانت تتحقق على فترات متباعدة جداً ، حتى أن أغلب أبنائه ماتوا دون أن يعرف .

أبناءه الثمانية ، أنجب خمسة منهم و هو نائم ، بإصرار من زوجته التي كانت تمارس الحب بجسده النائم . نفس الخمسة ماتوا و هو نائم ، ولا يذكر أنه ذرف دمعة على واحد منهم .. فقد تعامل معهم دائما كما لو كانوا أخطاء تسببت فيها مضاجعات محرمة . الثلاثة الآخرون ماتوا و هو مستيقظ .. و بكى عليهم كثيراً ، فقط لأنه لم يرهم سوى مرات معدودة في حيواتهم الممتدة .

كان يستيقظ كل مرة ليكتشف أنه فقد وظيفةً جديدةً في جسده .. دون اندهاش ، لكن بأمنيةٍ أكيدة أن تكون تلك علامة من الموت الذي أدار ظهره له بكل قسوة ، و ضن عليه بيديه القاسيتين اللتين لا تتوقفان عن العمل .. و بنظرةٍ واحدة على بيوت المدينة ، و السيدات المتشحات بالسواد من الذاهبات إلى المقابر و العائدات منها ، كان يدرك ـ بحسد ـ أن الموت لا يزال يمارس مهماته بنفس الخفة و النشاط اللذين عهدهما فيه .. و كان ـ و هذا هو الأسوأ ـ يستشعر نظرات حسد مضادة من الأمهات الحزينات على أبناء رحلوا في ريعان الشباب .. و زوجات حديثات ترمَّلن بعد أوقات لذة قصيرة .. يتساءلن عن طول عمره الذي يكفي عدة أشخاص كي يعيشوا و يموتوا في أعمارهم الطبيعية .

أوشك على تصديق الواقعة التي حكتها له أمه في طفولته . لقد كانت أشهر ندَّابة في المدينة الصغيرة و لم يكن الأهالي يعرفون منها سوى الصراخ على من يغادرون الحياة .. و عندما رُزقت به بعد سنوات زواج طويلة بلا نسل ، كانت واقعة غريبة .. و أحس الناس أن صراخها ـ بينما تلد الطفل ـ هو صراخ شخص يودع راحلاً إلى مقبرته و ليس صراخ امرأة تمنح الحياة لطفل .. و أيقنت البلدة أن الطفل لن يعيش طويلاً لأنه كان هزيلاً و شاحباً .. و فضلاً عن ذلك ورثت عيناه عن أمه نظرة الحزن المرعبة التي لم تفارق قسماتها يوماً .أخبرته أمه أنه مات بالفعل ذات يوم ، بعد مولده مباشرة . توقفت أنفاسه و سكن جسده و تيبس قلبه .. ثم برد جثمانه و ازرق لونه كأي ميت . أغلقوا عينيه الجاحظتين و لفوه جيداً تمهيداً لتوديعه .. ووجدت أمه نفسها ـ و هي التي أدمنت الصراخ على الغرباء ـ تعجز عن التعبير عن ألمها الحقيقي و لو بصرخة ، انحبس صوتها و غابت الدموع ـ التي طالما ذرفت جبالاً منها بالمجان ـ عن عينيها المتألمتين . و بينما يستعدون لإخراجه من البيت .. عادت الدماء إليه فجأة .. و فوجئوا به يطلق ضحكة شيطانية ماجنة .. شاهد الأهلُ فيها أشباحاً كثيرة تنطلق هاربةً من الغرفة . يومها قال حكيمٌ لأمه : ” الأطفال وحدهم يستطيعون ملاعبة الموت و خداعه .. و لكن عقابهم أنهم حين يشيخون يخاصمهم الموت .. يتركهم مُعذبين يتمنون التفاتة واحدةً منه دون أن يعبأ بهم … بل إنه إمعاناً في إغاظتهم ، يحصد أرواح الشباب و الأطفال أمام عيونهم الميتة ” . اندهش العجوز عندما سمع الحكاية من أمه لأول مرة ، و سألها لماذا عليه أن يُعاقَب إذا كان حينها لم يكن يعِ شيئاً .. و لا يذكر أنه فعل ذلك عن قصد ، و لكن أمه قالت له بحسم : ” لا يهم كل ذلك .. المهم أنك أهنته و قللت من هيبته و شأنه في أرجاء البلدة .. حتى أنه بعد ذلك لم يعد الناس يصدقون إذا رحل شخص أنه مات فعلاً .. و صار كل ميت جديد ينتظر أياماً إلى أن يدفن .. لأن الأهالي كانوا ينتظرون عودته للحياة ضاحكاً كما فعلت أنت .. لقد صار الناس من يومها لا يُصدقون الموت و ذلك هو أسوأ شيء يمكن أن يحدث لذلك الرجل المهيب الذي لا يقول كلمته مرتين ” .

في طفولته و شبابه استمتع بالحكاية ، بيقين أن الخلود هو حلم أي إنسان . كان سعيداً لأنه جرب حظه مع الموت مبكراً و انتهى الأمر .. معتبراً ما حدث معه معجزة ستصب في صالحه .. غير أنه ـ ومع تقدمه المفرط في العمر ، و بعد أن مات أحفاد أحفاده في أعمارهم الطبيعية ـ أدرك أن الخلودَ وهمٌ قاسٍ .. لأن لاشيء أكثر إيلاماً من أن تحط ذبابة بين عينيك دون أن تكون قادراً على هشها … و أدرك الرجل أن الموتَ جادٌ في انتقامه منه ، و أن الحل الوحيد هو أن يُقتَل ..و لكنه عاد ليكتشف بحسرة أنه لم يعد يقو على الإتيان بشيء : لا أن يقتل نفسه ، و لا أن يفتعل مشاجرة أوحتى يستأجر شخصاً ليقتله. فقط في أحلامه كان يغيب تماماً .. و لكنه كان دائماً يستيقظ مهما طالت رحلته المؤقتة في الأبدية .

بمجرد استيقاظه ، كان يسأل زوجته عن أسماء من ماتوا أثناء غيابه ، ليقدم فيهم واجب العزاء .. رغم أن بعضهم يكون مر على موته سنوات و نسي حتى أقاربه حقيقة موته . كان يقضي اليوم بطوله في مواساة ناس لم تعد تعوزهم هذه المشاعر ، و يشرب مئات الفناجين من القهوة المرة . و بمجرد أن يعود كان يتقيأ ــ بلا انقطاع ، ولساعات ــ السائل الداكن الذي ما يزال محتفظاً برائحته . كان يعبر البيوت في أيام عزاءاته الغريبة غير مصدق أن هناك من يموت في هذه المدينة . و يتذكر ذكرى وفاته في مدينة ما .. أو أكثر من ذكرى متزامنة .كانت له ست ميتات وقعت في اليوم نفسه .. و أحياناً كان يغيب في عمليات إحصائية عقيمة و هو يصنف ميتاته حسب السنوات التي وقعت فيها أولا ، ثم الشهور ،فالتواريخ ، و أسماء الأيام ، و مواقيت الوفاة ، و أسبابها . و رغم أنه فقد ذاكرته تقريبا ، إلا أنه لم ينس قط يوماً مات فيه . كان يشعر في تيقظاته المتعبة أنه تراب متيبس داخل جلباب ، و يحسد التوابيت المتجهة لمقابر تخص أبناء ذلك التراب ، من ولدوا فيه و ماتوا عليه ، متحسراً على ميتاته اللقيطة .

لم يطلب من زوجته اليوم أي أسماء لموتى ، و ظلت الورقة التي كتبت فيها أسماء الراحلين في منامه الأخير مدسوسة في صدرها ، كما تعودت أن تفعل ، رغم ما يتركه لها ذلك من خوف مجهول ، كأنها تتجول بصحبة الموتى .

توقف صفير القطار ، و بدأ يتحرك ذاتياً مغادراً الشريطين النحيلين، فأدرك الرجل أن سائقاً جديداً قد انتحر . في هذه اللحظة نادى على زوجته ، و قد أكدت له العلامة الغامضة أنه سيموت أخيراً ، و لكنها لم ترد . تحرك بصعوبة حتى وجدها في الصالة، نائمة على ظهرها بجسد أزرق.. و يدها متيبسة على ورقة ، مرفوعة باتجاه عينيها ، كأنها كانت تقرأ شيئاً . لم يشعر بأي شيء غير عادي . ظل يتأملها كأن تلك هيئتها الوحيدة الأليفة لديه.. و بدأ يستوعب بهدوء أن الشيء الوحيد الذي يربطه بهذه المدينة غاب للأبد . بهدوء فكر في أن مدينة حلمه القادم يجب أن تشهد ميتته النهائية ، الحقيقية .. و في هذه الليلة فقط ، و للمرة الأولى منذ ولد ، حلم بمدينته .



أعلى