كامل شياع - عودة من المنفى

عدت إلى العراق قبل عامين، تاركاً ورائي قرابة خمسة وعشرين عاماً من الهجرة القسرية. تلك العودة إلى ما حسبته ملاذي الآخر أو الأخير، عللتها لنفسي بأن فصلاً من حياتي صار ماضياً ينبغي طيـّه فطويته، وأن فصلاً آخر قد فتح احتمالاته، على مصراعيها، أمامي فاستجبت إليه. لم أقصد أن أكون مغامراً حين مضيت في رحلة العودة التي لم أتخيلها منذ البداية نزهة في عالم الأحلام، ولم يأخذني إليها حماس رومانتيكي. لقد شعرت فقط أنني مدعو لرحلة نحو المجهول، وفي ذلك يكمن سر انجذابي لها.

حلة العودة وضعتني شيئاً فشيئاً إزاء اختيارات صعبة لم أكن أعي دلالاتها أو أقدر أبعادها، وحررتني من الارتباط بمكان محدد على حساب الزمن الخاص للتجربة الذاتية، وأوقفتني بعيداً عن الأفكار المجردة حول التاريخ العام لأكتشف تنوّع التاريخ المحلي وتعقيده وإلتواءه. ومن يبحث.... يجد!!

بجانب التجربة الفعلية والتاريخ الحي، وضعتني هذه الرحلة وجهاً لوجه أمام موت جارف، وشيك وعبثي. لا اعني هنا بالطبع أفكاراً أو أخيلة أو هواجس تستبق حدث الموت الرهيب، بل حقائق ملموسة يمتزج فيها الموت بالحياة ويتلازمان في كل لحظة. الموت في مدينة كبغداد يسعى إلى الناس مع كل خطوة يخطونها، فيما تتواصل الحياة مذعورة منه أحياناً، ولا مبالية إزاءه في أغلب الأحيان. ما أكثر لافتات الموت السوداء في المدينة؟ كم من الناس واسيت بفقدان أب أو إبن أو أخ أو قريب؟ كم مرة قصدت مجالس التأبين معزياً؟ كم مرة وجدت نفسي عاجزاً عن إظهار تعاطفي مع ذوي الضحايا البريئة المجهولة لي؟ كم بكيت في سري حزناً على مشاهد الدماء المسفوكة في كل مكان؟

بعد هذا الانغمار المكثف في وقائع الموت وأخباره، يسألني البعض أحياناً، ألا تخاف من الموت؟ فأجيب، أنا الوافد أخيراً إلى دوامة العنف المستشري، أعلم أنني قد أكون هدفاً لقتلة لا أعرفهم ولا أظنهم يبغون ثأراً شخصياً مني، وأعلم أنني أخشى بغريزتي الإنسانية لحظة الموت حين تأتي بالطريقة الشنيعة التي تأتي بها، وأعلم أنني قبل ذلك كله كثير القلق على مصير أخي ومرافقيّ الذين بملازمتهم لي في سكوني وحركتي يجازفون بحياتهم وحياة عوائلهم. رغم ذلك كله، وبمقدار ما يتعلق الأمر بمصيري الشخصي، أجد نفسي مطمئناً عادة لأنني حين وطأت هذا البلد الحزين سلمت نفسي لحكم القدر بقناعة ورضى. وما فعلت ذلك كما يفعل أي انتحاري يسعى إلى حتفه في هذا العالم وثوابه الموعود في العالم الآخر، فالقضية بالنسبة لي تعني الحياة وليس الموت. وهذه الحياة ينبغي ألا تكون بالضرورة آمنة شرط أن تشبع الرغبة في الوجود والفعل والانغمار.

منذ سنوات وأنا أعتقد، ربما بعد قراءة جان بودريار، أن النهاية حاصلة في الحاضر. إنها تلازمنا في كل لحظة نعيشها. وحين ندرك ذلك، لا يعد هناك ما يستحق الانتظار. غير أن تسليم النفس للنهاية... ليس استسلاماً، إنه بداية السير نحو التخوم أو بينها... هناك حيث تتقلص المسافات. وعليّ أن أعترف أنني لم أكن غير مكترث بالموت دائماً. فبعد اغتيال بشع لأحد الرفاق في شقته، صرت للمرة الأولى أنام وبجانبي مسدس جاهز للإطلاق. الأسلوب الشنيع لتعذيب ذلك الرفيق والتمثيل الوحشي بجسده، تركني لليال عديدة عرضة لكوابيس مرعبة. أي إرادة تمكنني من إيقاف انثيالات العقل الباطن، والتشبث غير الواعي بالحياة؟

عندما أتخيل الآن الحدود الدنيا والقصوى لهذه التجربة، أجد نفسي مسكوناً بروح متقشفة... روح بالحد الأدنى تقبل الواقع كما هو، ولا تسند لنفسها سلطة معرفية كبيرة أو تسقط عليه أوهامها أو تجرفها احتمالاته القصوى. هذا كما أعتقد ثمن الاقتراب من التاريخ كمادة حية، كحالة هشة في طور التشكل والاندثار. فلا تجربة حقيقية دون تفاصيل جزئية وملموسة.... دون إزاحة أو تأجيل.

للعودة من المنفى، في حالتي، سبب عاطفي أكيد. إذْ وجدت نفسي في علاقة لا أقوى على استبدالها أو تعويضها. إنها العلاقة مع الوطن كمجموعة من البشر، والتقاليد، الأمكنة.... كفضاء من ضوء وهواء، من فوضى وخراب وألم. بعد أن جربت هذه العلاقة صرت متيقناً من جدواها ومعناها بوصفها حقلاً للممارسة اليومية والفكرية، لكنني لم أزل أشك بأن حب الوطن من صنف الفضائل!. فقد يهيم المرء حباً بوطنه، المصنوع من صور وخيالات، وهو بعيد عنه، وقد لا يقيم لنفسه علاقة أخلاقية معه وهو يعيش في داخله، وقد يخدم بعضنا الوطن من موقف متجرد إلا من الوازع الإنساني، وقد يدمره آخر يتشدق باسمه ليل نهار. ما هو ثابت في الوطن كأرض وتاريخ لا يلزم الجميع بالتماهي التام معه أو التساوق مع حركته وتحولاته. وهكذا فأن ضعف الحماس للوطن أحياناً لا يدخل في باب الرذيلة أو الخيانة.
الوطن محطة في حياة الإنسان تتفرع منها جميع المحطات الأخرى التي قد تؤدي إليها أو لا تؤدي، لكنها تحكمنا، بقوة شبه قدرية، بأن نظل متعلقين بها رمزياً حتى لو هجرناها فعلياً، أن نظل مشدودين إليها بقرابة دم حتى لو أودعنا مصائرنا خارجها.

ليس في عودتي من المنفى نكوص نحو الماضي، استبدال نمط حياة " متخلف" بآخر متطور، تفضيل عالم عنيف حدّ الهمجية على عالم مهذب ومتحضر، وهجر السلامة والأمان لارتياد مكان مجهول في " قلب الظلام"... ظلام التاريخ. إذا كانت هناك عودة بالنسبة لي فهي مغادرة تجربة استنفدت نفسها تدريجياً، كسر شرط حياتي غدا عادياً بغية اكتشاف ما هو غير مألوف أو مضمون. هذه الهجرة المعاكسة لا تفترض مسارات محددة، ولا ترتكز على ثنائيات ثابتة من قبيل الوطن/ المنفى، الداخل / الخارج، الشرق / الغرب، الهوية / الآخر..... وهي كذلك لا تفترض حركة بشوطين واحد للذهاب وآخر للإياب كما توحي قراءة رحلة يوليسيس التي يعدّها البعض الصورة النمطية للسرد، ولا تأخذ طابع علاقة مغلقة للنفي ونفي النفي والتركيب. فلرحلة النفس في الزمن مستويات عدّة وتفرعات شتى. ولأنها مقبلة دائماً على أفق مفتوح يمكن أن يمضي بها العدّ إلى أكثر من ثلاث مراحل.

عدت إلى العراق قبل عامين، لأدرك أنني بلغت غاية ما صبوت إليه: إنهاء شعوري بالسأم من الاكتفاء بعدّ سنوات الهجرة، من البقاء بعيداً عن وطن طالما تخيلته جميلاً وأنيساً رغم جنونه وقسوته، ونزع ثوب الغربة عن نفسي لأرى الواقع كما هو عارياً من أغلفته وبريقه، النطق بلغة المقيم في الوادي لا المتطلع من أعلى التل، والتعايش بأدنى التوقعات مع مواطن البؤس والغرابة والقسوة.
عدت إليه فوجدته يمضي في متاهة تاريخية.... لا يمكنها أن تكون إلا مؤقتة. وأنا أحد شهودها: أعيش تذبذباتها، أراقب تقلباتها، أتفاعل مع تفاصيلها، وأثير أسئلة حولها، وأراجع قناعات بشأنها، وأكوّن أحكاماً عنها. أنني منغمر بتجربة غيـّرت حساسيتي إزاء كل ما يحيط بي. فما عادت تستوقفني كثيراً الأفكار المسبقة والمقارنات الجاهزة والرغبات التي تعظ بما ينبغي أن تكون عليه حالة الأشياء. ورغم أن الحلم السياسي الذي أسرني ظل هو هو ، صرت أشعر بالقرف من كل خطاب سياسي يعمد إلى اجترار عذابات الضحية، التنكر من المسؤولية عن الماضي، استغلال الرضوض النفسية التي تستفز الأحياء أو تخطف منهم وعيهم.
كل ما أبحث عنه وسط هذا الضجيج الزائف هو الهدوء، الصدق، ورفعة الشأن العام.

العراق فتح ذهني وقلبي لسطوة الحاجة الآسرة القاسية على ناسه. وهو، كما يبدو لي الآن، حالة مثالية لفهم ما يجري في العالم بأسره. فلأنه بلغ القاع صار يتيح، بشكل أفضل، رؤية منابع الحروب والهمجية والمصالح الأنانية، الكذب والفساد والعنف والنسيان المتعمد للحقيقة أو السهو عنها. كل، من موقعه، مهموم بالعراق ومتورط فيه: أميركا العظيمة المتجبرة والسطحية، الديمقراطيات الغربية المرتبكة، الشعبويون من كل الأنواع، حاملو الشعار اليساري، اليمينيون والمحافظون، العروبيون، الأصوليون، تجار الموت، رجال الأعمال، حاملو ألوية العصبيات الخادعة..... كل خبر يأتيني عن بؤس هذا العالم وتعاسته يحيلني على quot;مستعمرةquot; سوء اسمها العراق.. هي درجة الصفر التي لا موقع لها على خرائط المكان أو مقاييس التجربة، لكنها تتيح، في الوقت نفسه، فهم أوجه الزيف في عمارة زمننا الماضي في مسارات مجهولة.

عدت إلى العراق بعدما اكتشفت أنني شخص دون مشروع خاص. في السياسة كما في الثقافة مشروعي مرتبط بالجماعة... فلا فعل ولا حضور دون مشاركة وتضامن.
عدت من المنفى وأنا مدرك أن لا عودة لي منه لأنه يجدّد نفسه في كل تماس مع ما هو مألوف أو غير مألوف. وسوف تلازمني أشباحه كما لازمتني أشباح الوطن.
كل رجوع عن المنفى تعميق لجذوره وإيهام بخفاياه. أي أوجاع سرية يورث المنفى، أي شفاء يحمل الوطن؟

كامل شياع
أعلى