ألف ليلة و ليلة د. فهد حسين - تأويل الحكاية في كتاب (العين الإبرة) (3 - 3)... تدوين حكايات ألف ليلة وليلة

ربما يتساءل القارئ كيف دونت حكايات ألف ليلة وليلة، وهذه معضلة بحاجة إلى تحقيق وتدقيق ودراسة حيث الوصول إلى نتيجة معينة لا شك يسهم في بلورة فكرة الكتابة والانتشار الذي حظيت به هذه الحكايات تحت مسمى (ألف ليلة وليلة)، وهنا تحضر مجموعة من الأسئلة، مثل: هل كتبت الحكايات بأمر من الملك شهريار؟ وإذا كان هذا، فمن قام بالكتابة؟ هل النساخ في مملكته؟ أم بعض حاشية القصر؟ أم شهرزاد نفسها؟ أم والدها الوزير؟ وعبدالفتاح كيليطو أشار إلى أن إحدى الطبعات، وهي طبعة القاهرة تبين أن " الملك شهريار لم يأمر بتدوين الحكايات التي سحرت لياليه " العين والإبرة ص25. وإذا كان شهريار لم يأمر بالتدوين والكتابة، فمن كان آنذاك يستطيع تكليف أحد بالتدوين أو قام بنفسه؟ علما أن الملك هو من يملك قرار التدوين من عدمه.

تباين النهايات

هناك إشكالية أخرى تكمن في التباين والاختلاف في نهاية بعض الليالي أو الكثير منها، وهذا يعني أن هناك تدخلا من قبل آخرين في صياغة نهاية هذه الليلة أو تلك، والاتفاق الوحيد لنهاية سرد الحكاية، هو: " وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح "، وهذا إشكال ثالث، لمن يمكن أن ننسب هذه المقولة؟ إذا كانت شهرزاد فلا بد من صياغتها بشكل آخر يوظف فيها ضمير المتكلم، وليس الغائب، وكأن هناك من يتحدث عن حالة شهرزاد وليست هي.

ولنفترض أن الملك شهريار هو من أمر بالتدوين، فهذا يعني أنه رغب في خلود هذه الحكايات، وإبقائها متداولة بين الناس عبر العصور والأزمان، ولكن إذا لم يأمر فإنه يرمي بذلك إلى أن ما سمعه من حكايات لا يرغب لأحد سماعه مهما كان دوره ومكانته في المجتمع، وتشير طبعة هانجت إلى أن الملك شهريار أحضر المؤرخين والنساخ، وأمرهـم أن يكتبوا ما جرى له مع زوجته من أول الحكايات إلى آخرها، فكتبوا ما أمروا به، وسموها سيرة ألف ليلـة وليلـة، فجاءت في ثلاثين مجلدا، ووضعت هـذه المجلدات في خزانته، وانكب النساخ على الكتابة: " لقد نسخ النساخ دون ريب المجلدات الثلاثين بحروف من ذهب، فالذهب مادة نبيلة غير قابلة للفساد " العين والإبرة – دراسة في ألف ليلة وليلة، ص27. وبهذا التدوين تبدأ الأسئلة تكبر وتكثر.

توقف شهرزاد

لو افترضنا جدلا أن النسخ كان بأمر من شهريار، وهذا هو الاحتمال الأكثر قبولا بين المحققين، لم كان شهريار يأمر شهرزاد بالتوقف عن السرد أكثر من مرة في الليلة الحادية بعد الألف؟ هل هذه الحكايات لم تعد تعنيه؟ أو هل تمس حياته الشخصية مباشرة ولا يرغب في ذكرها أمامه، وقد تخرج لغيره فيما بعد فتتكشف حياته الخاصة للعامة؟ بمعنى هل كان أمر التوقف رغبة في الحماية من كشف الستار عن شخصه؟ هل يريد الانتهاء من هذه الحكايات التي لم تعد تجدي؟ وهنا يتمظهر السؤال الذي يحاكي عملية التدوين، كيف عرفنا أن شهريار يطلب من شهرزاد التوقف وهم ثلاثة لا رابع معهم (شهريار وشهرزاد ودنيا زاد)؟

وإذا كانت هناك جوانب شخصية تتعلق بالنفسية والسلوك، فإن التوقف عن سرد الحكايات، قد يكون وراءه بعد فني وذوقي، فلربما لم تعد الحكايات في الليالي الأخيرة بمستوى الحكايات التي سبقت، أو لم تكن في مستوى الجاذب والدهشة ولفت الانتباه وانتظار ما كان يتوقعه، وربما فقدت تقنية الغرائبية التي كانت ديدن كل الحكايات فأصابه الملل، أو لأن ربما شهرزاد الراوية نفسها أصيبت بحالة من التشبع فبدا ما تسرده لا يثير الدهشة ولا الرغبة في الانصات. أو لأنها وصلت إلى قناعة بأنها تملك القدرة والسيطرة على مشاعر شهريار وأحاسيسه وتصرفاته، فوصلت إلى محطة شعرت بالاكتفاء، وما يؤكد ذلك أن طبعة القاهـرة تشير إلى أن الليلة الحادية بعد الألف كانت وصفا للزواج الذي تم بين شهريار وشهرزاد، وزواج أخيه الملك شاه زمان على أخت شهرزاد دنيا زاد – العين والإبرة ص35.

وفاة شهريار

ظلت المجلدات الثلاثون زمنا في الخزانة حتى وفاة شهريار وشهرزاد، وحين جاء ملك آخر ليكتشف هذا المخطوط، إذ " يقرؤها كلها ثم يعجب بمحتواها، ويأمر الناس بنسخها ونشرها في جميع البلدان "العين والإبرة ص15، وهنا نسأل: كيف للملك أن يأمر الناس بالنسخ، أليس في هذا نوع من التلاعب والأهواء وتدخل الأمزجة في كيفية الكتابة، وربما تضمين الحكايات بعض المواقف الشخصية، أي كيف تترك عملية النسخ لعامة الناس، إلا إذا كان المعني هم النساخ والكتاب من الناس، وفي طرف آخر كما ورد في ترجمة ماردروس ما يشير إلى أن شهريار أمر بنسخ عـدد من الحكايات ونشرها، وهذا يشكل معضلة التباين بن نسخة هنا ونسخة هناك.

الحكواتي

وفي الوقت عينه لا نستبعد ما كان في المجتمع العربي الذي تميز في فترات زمنية ماضية وحتى وقت قريب بما كان يطلق عليه في حياة الناس الاجتماعية بـ الحكواتي في كل البلاد العربية تقريبا، وبالأخص بلاد الشام والعراق ومصر، وربما في بعض البلاد العربية يأخذ اسما آخر كما في منطقة الخليج العربي، حيث يسمى بالقاص أو الراوي أو المتحدث، وأيا كانت التسميات، فالغرض واحد، وعادة يوجد في أمكنة معروفة، كالمقاهي الشعبية، وهي الأكثر شهرة، وكذلك المجالس التي يحضرها بعض الناس مستمعين ومنصتين إلى حكاياته التاريخية والاجتماعية الحاملة بين طياتها البطولة والفروسية والمغامرات والخوارق، والعبر والمبادئ السامية التي تدعو إلى الخير والكرم ونكران الذات، وحب الآخرين ومساعدتهم، وغيرها من الأمور التي تجذب الانتباه وتلفت الأنظار والآذان.

ولكي يتقن ما يطرحه الحكواتي يقوم بسرد الحكاية الشفهية التي سمعها تواترا، أو المدونة في بطون كتب التراث الإنساني الثقافي والفكري والأدبي والحياتي، وفي خضم هذا السرد لا أحد يضمن أن الحكواتي وهو يسرد الحكايات يكون أمينا في نقلها وسردها كما هي، ترتيبا وتفصيلا، وزمنا، فربما يحذف هنا ويضيف هناك نسيانا أو تعمدا أو ابتكارا وفقا للمتلقين ومدى شغفهم بالمفاجآت، والحكايات ذات الطابع الغرائبي التي سيقولها، وفي هذه الحالة إذا حدث هذا فعلا، فمع مرور الوقت، وتكرار سرد الحكاية هنا وهناك، تدخـل هذه الإضافات في التـداول بين الناس، وتدريجيا تصبح جزءا من الحكاية الأصلية مما يصعب فصلها أو حذفها، وقس على ذلك تعدد الحكواتية في المنطقة العربية قديما.

ومما لا شك فيه أن التباين بعد ذلك في أية حكاية كانت، تلك الخاصة بكتاب ألف ليلة وليلة، أو غيره من كتاب التراث والحكايات عامة، وتلك التي لا مؤلف لها، أو أن الكتاب الأصل غير معروف، وهذا ما ينطبق على المترجمين الذين ترجموا الحكايات، وتدخلهم إضافة أو حذفا، بل سميت الترجمة بأسمائهم كترجمة ليالي غالان/ ليالي ماردوروس/ ليالي ليتمان، وهذا ما يعني أن هناك إضافات أو تغييرا وفق النزعات الفردية ومدى قرب هذا المترجم أو ذاك إلى الحكايات – الأدب والارتياب، ص61.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى