د. محمد حماسة - رحلتي مع الشعر.. ( الجزء الثالث)

كان أبي معجبًا بأحمد الشرباصي، يتابعه منذ نشأته، وكان يقول لي: إنه كان يقرأ له رسائل في مجلة (الرسالة) التي كان يرأس تحريرها أحمد حسين الزيات وهو بعد طالب في المرحلة الابتدائية، ولذلك حين اقتربت منه وقربني إليه وجدت في ذلك شيئًا يُرْضي عني والدي، وأذكر أنني كتبت للشرباصي رسالة طويلة ضمنتها قصيدة في مدح صفاته، وردّ عليّ برسالة شاكرة مقتضبة يقول فيها: “تلميذي النجيب … قرأت رسالتك التي بعثت بها إليّ وقصيدتك التي تفضلت فحييتني بها، وأسأل الله أن يجعلني كما تظن، وآمل أن أراك في مطلع العام الدراسي وأنت ممتلئ أملاً وثقة” ومهرها بتوقيعه. وعندما أطلعت أبي على هذه الرسالة مباهيًا قال لي: إنه يعلمك كيف تكون الكتابة! ولكنه لم يستطع أن يخفي بعض السرور الذي تسلل إلى أساريره من نفسه.

كان السيد صقر جريئًا على النظام السائد في المعهد الديني كما كان جريئًا على المقرر، فكان يُدخِل معه في حصة البلاغة بعض زملائه، فمرة يدخل معه أحمد الشرباصي، ومرة فتحي عبد المنعم، ومرة عبد المنعم النمر، ويدور حوار يشارك فيه الطلاب، ويجني بعضهم من هذا الحوار الحي فائدة كبيرة، وكان السيد صقر يصطحب معه بعض تلاميذه ذوي المواهب من الفصول الأخرى فيلقي على زملائه قصيدة أو يقرأ بحثًا من الأبحاث التي كان يكلف طلابه بها. وكان قد اصطفاني أنا وحامد طاهر لنسخ بعض المخطوطات، وأبلينا في ذلك بلاء حسنا، وقد ترددنا كثيرًا على بيته وسهرت معه ليالي في مكتبه، وكانت أول مرة أرى فيها بيتًا غطيت جدرانه من الأرض للسقف بالكتب، وأنَّى تنقَّل الزائرُ وجد الكتب على هذا النحو في كل مكان بالبيت.
عن طريق السيد صقر عرفت حامد طاهر وأحمد درويش رفيقي رحلة الشعر فيما بعد. أما حامد طاهر فكان السيد صقر قد دعاه ودعاني معه لتناول الغداء في أحد مطاعم الكباب الشهيرة. وقال لنا: ليقدم كل منكم نفسه للآخر على الطريقة الشامية. كان حامد في فصل مختلف عن فصلي وكذلك كان أحمد لاختلاف مذاهبنا الفقهية. وكنت رأيت حامد من قبل وأنكرت منه أنه لا يلبس الزي الأزهري، وكان فتى نحيلاً أضفى النحول عليه طولا، وكنت أراه مع المترددين على جمعية الشبان المسلمين في مساء الاثنين والأربعاء من كل أسبوع، وقد غفر إنكاري عليه عدم ارتداء الزي الأزهري أنْ كنا ليلة نحضر أمسية شعرية في جمعية الشبان المسلمين وسمعت زميله المرافق له يقول له: عما قريب نسمعك إن شاء الله وأنت تلقي شعرك في هذا المكان. إذن هذا الفتى النحيل الذي لا يرتدي الزي الأزهري شاعر. ووددت لو تعارفنا؛ ولذلك سررت لدعوة السيد صقر له، وقلت في نفسي جاءت الفرصة التي كنت أتحينها.

في هذا اليوم حدث شيء طريف شبيه بشيء حدث من قبل. ففي طريقنا سيرًا على الأقدام من المعهد الديني إلى العتبة التقينا بشيخ معمم يلبس تحت الزي الأزهري القميص الأفرنجي والبنطلون، وكانت أزرار كمي القميص من المعدن الأصفر، ويبدو أنها من الذهب، عرفت فيما بعد أنه الأستاذ محمد خليفة الذي صار فيما بعد الدكتور محمد خليفة. وقف معه السيد صقر وتكلما بعض الدقائق وأنا وحامد بجوارهما نسمع ما يقولان ولا نشارك بالطبع فيه. وقال محمد خليفة للسيد صقر: هل سمعت القصيدة التي قالها حسن جاد – أحد شعراء الأزهر المعروفين – في هجاء الشيخ عبد الغني عمارة الذي كان قد عين عميدًا لكلية اللغة العربية قبل ذلك بأيام. فسأله السيد صقر أن يسمعه إياها، فأخرج محمد خليفة ورقة قرأ منها القصيدة كان فيها من مطلعها:

اعْوِ يا ذئْبُ وانهقي يا حماره * قد تولّى العمادةَ ابْنُ عماره
أصبحت دار يعرب غرزة الفصحى وأضحت لأهلها خماره
لو تراه يدس في الفم شيئًا * لا أسميه أو يلفُّ سجاره

إلى أن أنهى القصيدة، ولم تكن طويلة، إذ كانت لا تزيد على خمسة عشر بيتًا، وضحكا معًا طويلاً، ومضى الشيخ محمد خليفة متجهًا إلى المعهد، ومضينا متجهين إلى مطعم الكباب في أول شارع الجيش من العتبة. أكلنا الكباب مع أستاذنا السيد صقر في مكان محترم ولعلها كانت أول مرة، وطلب لنا شيئًا جديدًا علينا يسمى (عيش السرايا). وأثناء أكل الحلو قال السيد صقر: ليتنا كتبنا القصيدة التي ألقاها علينا محمد خليفة! فقلت له على الفور: لا بأس، يمكن أن نكتبها الآن. فدُهِش الرجل، وأخرجت ورقة وقلمًا وكتبت له القصيدة كما ألقاها الشيخ محمد خليفة لم أخرم منها بيتًا. فسُرَّ السيد صقر بكتابة القصيدة، وبحفظي لها من سماعها أول مرة، وكان بعد ذلك يسميني ذا الذاكرة الذهبية.

مشينا معَ السيد صقر حتى أوصلناه إلى بيته، وشكرناه، ومضينا معًا حامد وأنا، وقد تعلقت به تعلقًا شديدًا، وظللنا معًا نمشي في شوارع القاهرة ونتكلم في أمور الشعر وأسمع منه شعره، وأُسمعه، ولفت نظري أن شعره مختلف، فعلى حين كنت أجنح إلى الألفاظ المعجمية الجزلة، كان لفظه سهلاً عذبًا لطيفًا مأنوسًا، وعلى حين كنت أكتب عن هجرة ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يسمعني شعرًا عن ثورة يوليو وأم كلثوم وبعض المشاعر عن الأعمى والخادم، وهجاء بعض المشايخ ومدح بعضهم. وقد أثنى يومها على قصيدة لي كنت قد كتبتها بعنوان (الحب الدفين). قلت لنفسي: صار لي صديق شاعر فعضضت على صداقته بالنواجذ. وسرعان ما انضم إلينا أحمد درويش وكان قد أعجبني منه من قبل أنه كان يلقي في فصلنا بحثًا عن ابن الرومي، وأثناء قراءته للبحث انتزع منه الأوراق وطلب إليه أن يستمر، فلم يتلعثم أحمد واستمر في الكلام كأنه يقرأ من كتاب مفتوح. ولكن بعد ذلك بأيام أعلن السيد صقر أن إدارة المعهد وافقته على عمل مجلة طلابية تنشر فيها بحوث الطلاب – وكنت بتوجيه منه أعددت بحثًا عن البحتري وأعد حامد بحثًا عن المتنبي وأعد أحمد بحثًا عن ابن الرومي – والتف الطلاب يسألون الأستاذ عن كيفية النشر وشروطه، ووقفت أفكر في سؤاله عن الشعر، وبينما كنت أدير السؤال في نفسي وأحاول اختيار العبارة التي أصوغه بها قفز أحمد درويش وكان صغير الحجم ولا يرتدي أيضًا الزي الأزهري وقال للأستاذ السيد صقر: هل سيكون للشعر نصيب في هذه المجلة؟ وأعجبني سؤاله عن الشعر واقتحامه، فأمسكت بيده وأخذته بعيدًا عن التحلق حول الأستاذ وسألته: لماذا تسأل عن الشعر؟ فأجابني باعتداد كبير إنه شاعر قد اختطّ لنفسه الدفاع عن القضايا الإسلامية. ومرة أخرى أعجبني منه أنه يتكلم بثقة عن طريق واضح، وخط مرسوم.
التقينا إذن في حمى أستاذنا السيد صقر وفرحنا بهذه العلاقة فرحًا شديدًا، أو على الأقل فرحت أنا بهذه العلاقة فرحًا شديدًا، وقد تعلمت فيما بعد أنه في مجال العاطفة لا أتكلم إلا عن نفسي.
بدأت علاقة هذا الثلاثي في أوائل السنة الثالثة الثانوية، وكان أمامنا للحصول على الثانوية الأزهرية سنتان بعد الثالثة، وكنا إذا ذهبنا إلى قرانا في الصيف بقى حامد في القاهرة حيث يقيم أهله، ويتردد على دار الكتب، ويقيم علاقات متنوعة، وكنا نتراسل أسبوعيًا فيكتب لي حامد عما يقرأ في دار الكتب وغيرها، ويكتب لي آخر ما كتب من الشعر، وفي بعض الأحيان يكتب شيئًا من الشعر يخصني، ولا أنسى قصيدة كتبها لي يهنئني فيها بالعيد يقول فيها:

إليك أسوق تحناني * ومنك أصوغ ألحاني
وقد يتجرأ الإنسان * لكن أنت إنساني
عرفتك فاهتدى قلقي * ورقّ لديك وجداني
وعبّ النورَ من إخلاصك الفطريِّ حرماني
فياكم عشت في الدنيا * غريبًا بين خلاني
ألاقي ما يلاقي الطيرُ خلف عَتِيّ قضبانِ

وأرد عليه بقصيدة مماثلة أبادله فيها المودة بمثلها، وأهنئه أيضًا بالعيد، آخرها:

فعيدي ليس عيد الناس لكنْ يوم تلقاني

ويكتب إليّ مرة بعد أداء الامتحان في السنة التي رَدّت فيها السعودية كسوة الكعبة المشرفة، وأمر جمال عبد الناصر أن تعلق كسوة الكعبة في مسجد الجامع الأزهر فأصبح الأزهر مزارًا لفئات مختلفة من الرجال والنساء والشباب والصبيان والفتيات، واختلط الحابل بالنابل في الأزهر الشريف، واشتد الزحام، وضاعت حرمة المسجد، كتب حامد لي يقول:

أتذكر يا محمد يوم كنا * نؤلف من صفاء الحب لَحْنا
غداة نعيش في بؤس امتحانٍ * ولكن السعادة في يدينا

وأرد عليه قائلاً:

أجلْ ذكراك لا تُنْسى * فلن أنساك لن أنسى
أأنسى حلو أيام * همسن بعمرنا همسَا
وطافتْ بي صباباتٌ * عِذابٌ كُنّ لي أنسا
وطفْتَ بها لتسقيني * وتملأ بالرضا النفسا

إلى أن أنهيها قائلاً:

فليت الإمتحان بَقِي * وليت البيتَ لا يُكسى



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى