أحمد الشرباصي - في صحبة المكفوفين..

(1)
حينما نستنبئ التاريخ نجد أنه قد ضم في صفحاته كثيرين من كبار المكفوفين الذين كان لهم مكان ملحوظ ومركز ممتاز؛ ويستوي في ذلك التاريخ البعيد والتاريخ القريب، فنحن نجد في الأنبياء مكفوفين مثل إسحق ويعقوب وشعيب عليهم السلام، نعم قد وقع خلاف في جواز العمى على الأنبياء، فمنعه بعضهم لأن مقام النبوة أشرف من ذلك، ولأنه لم يرد نص قطعي الدلالة بعمى إسحق وشعيب، ويقول البعض الآخر: فكيف بقول الله عن يعقوب ﴿ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ﴾ [يوسف: 84] وقوله عنه: ﴿ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ﴾ [يوسف: 96]؟.

إن هذا يفيد سبق العمى، ولا ينفع التأويل بأن قوله: ﴿ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ ﴾ كناية عن غلبة البكاء وامتلاء العين بالدموع.

ومن أشراف العرب وعظمائهم قبل الإِسلام مكفوفون منهم عبد المطلب ابن هاشم والحكم بن العاص وزهرة ابن كلاب وكلاب بن مرة ومطعم بن عدي، وغير هؤلاء.

ومن كبار الصحابة في الإسلام مكفوفون، نذكر منهم أبا قحافة والد أبي بكر الصديق وكعب بن مالك الأنصاري وقتادة بن النعمان والبراء ابن عازب وسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن الأرقم وعمرو بن أم مكتوم ومالك بن ربيعة ومخرمة بن نوفل وعبد الله بن عباس؛ وتراجم هؤلاء مبسوطة في مختلف المصادر القديمة والحديثة، وهي تفيض بالمآثر والمفاخر.

ومن كبار التابعين مكفوفون مثل عطاء بن أبي رياح وأبي هلال الراسبي وقتادة بن دعامة وأبي عبد الرحمن السلمي، وهؤلاء معارف في تاريخ الإسلام وليسوا بنكرات...

ومن كبار الأئمة والفقهاء والعلماء مكفوفون، وحسبك أن تتذكر هنا هذه الأسماء الخالدة: الشاطبي، الترمذي، النيسابوري، العكبري، الشنتري، أبو زكريا البغدادي.

ومن عظماء شعراء العربية مكفوفون حسبنا منهم هنا علمان لا يخفيان على ناظر وهما أبو العلاء المعري وبشار بن برد.

وفي التاريخ القريب نجد كثيرا من الأزهريين النابغين اللامعين كانوا مكفوفين مثل يوسف الدجوى وإبراهيم الإيباري ومحمد المعداوي ومحمد حسنين البولاقي (والد المرحوم أحمد حسنين باشا) وأحمد الزين.

ومن الأزهريين المعاصرين النابهين تجد مكفوفين؛ فهذا هو الدكتور طه حسين باشا الذي لم يمنعه كف بصره عن الجمع بين الثقافة الشرقية والثقافة الغربية، ولا عن تعلم اللغات القديمة والحديثة ولا عن الانتاج الأدبي الهائل، ولا عن مركز الوزارة نفسه..

وهذا هو الشيخ الصاوي شعلان يعد مثلا من أمثلة نبوغ المكفوفين، فهو قد أتم دراسته الأزهرية، ثم برع في دراسته الجامعية، ثم مهر عدة لغات وهو يجيد الشعر والنثر خطابة وكتابة وهذا أخونا محمد العلائي، كان زميلا لنا في الدراسة الأزهرية، ثم التحق بكلية الآداب وهو مكفوف فأتم دراسته بها، ثم سافر إلى انجلترا يتلقى العلم في معاهدها، ولا يزال هنا يتابع خطواته الموفقة في سبيل الحصول على درجاته العلمية الفائقة.

ولم نقصد حين ذكرنا كل هذه الأسماء بعد أن نظمناها، وقد كانت مبثوثة متفرقة في شتى المصادر، أن نقول إن هؤلاء جميعا ولدوا مكفوفين، أو أصابهم كف البصر منذ الصغر، فقد اختلفت أحوالهم من غير شك، فبعضهم ولد أعمى، وبعضهم كف بصره صغيرا. وبعضهم أصابه العمى كبيرا، ولكنهم على أية حال يعدون في ثبت المكفوفين.

وكف البصر كما نريد أن نؤكد في الأذهان ليس إلا نقصا حسيا في ناحية من نواحي الجسم، ومن الممكن تعويض هذا النقص بالمثل أو بأكثر منه، لأن الخالق سبحانه إذا سلب عبداً نعمة عوضه عنها مثلها أو خيراً منها، ومن هنا نرى الكفيف لا يعوقه كف بصره عن القيام بواجبه في حياته، لأنه يكون عادة حاد اللمس، والسمع والنطق والفهم، ومن حدة لمسه أنه يميز بين الأشياء المتشابهة والأدوات المتماثلة بلمسها، ولو أغمض البصير عينيه وأراد ذلك لما استطاع، ومن حدة سمعه أنه يسمع الهمس البعيد والنجوى الخفية، ومن حدة نطقه أنه يكون جهير الصوت يسمع الجم الغفير ولذلك يجلجل صوته إذا خطب أو وعظ، ويقرع الأسماع بنبراته، ومن هنا قال إبراهيم بن هانئ: «من تمام آلة القصص أن يكون القاص أعمى، ويكون شيخا بعيد مدى الصوت»، ومن حدة فهمه أنك ترى المكفوف أسرع إلى الإدراك وأعجل في التحصيل وأدق في التمييز العقلي من مثله البصير، كما أنه مما يوضح ذلك أننا نرى كثيرين من المكفوفين يبرعون في الخياطة والموسيقى ولعب الشطرنج والخطابة وغير ذلك من دقائق الأعمال، كما قد يمر بنا تبيانه في مستقبل الكلام.

ولقد قال صلاح الدين بن أبيك الصفدي: "قل أن وجد أعمى بليدا، ولا يرى أعمى إلا وهو ذكي (ثم ذكر أسماء عميان عظماء ثم قال): والسبب الذي أراه في ذلك أن ذهن الأعمى وفكره يجتمع عليه، ولا يعود متشعبا بما يراه، ونحن نرى الإِنسان أراد أن يتذكر شيئا نسيه أغمض عينيه وفكر، فيقع على ما شرد من حافظته، وفي المثل: أحفظ من العميان؛ أورده الميداني في أمثاله".

ولا يحسبن أحد أن إدراك ذلك مما يغيب عن المكفوفين أنفسهم، بل لعلهم أسبق من سواهم في الوقوف عليه والتنويه به؛ قال رجل للقاسم بن محمد الضرير: لقد سلبت أحسن وجهك، فقال: صدقت غير أني منعت النظر إلى ما يلهي. وعوضت الفكرة فيما يجدي.

وقال عبدالله بن عباس رضي الله عنه، بعد أن كف بصره:
إن يأخذ الله من عيني نورهما
ففي لساني وسمعي منهما نور
قلبي ذكي، وعقلي غير ذي دخل
وفي فمي صارم كالسيف مأمور.

وقال الخريمي الضرير:
فإِن عيني خبا نورها
فكم قبلها نور عين خبا
فلم يعم قلبي. ولكنما
أرى نور عيني لقلبي سعى

وما أبرعه من تعبير، وما أدقه من معنى، حيث قال إن نور عينه قد سعى من باصرته إلى بصيرته، فكان ذلك من الله خير تعويض!... وقال أبو علي الأعمى:
لئن كان يهديني الغلام لوجهتي
ويقتادني في السير إذ أنا راكب
فقد يستضيء القوم بي في أمورهم
ويخبو ضياء العين والرأي ثاقب
وقال عز الدين أحمد بن عبد الدائم
إن يذهب الله من عيني نورهما
فإِن قلبي بضير ما به ضرر
أرى بقلبي دنياي وآخرتي
والقلب يدرك ما لا يدرك البصر

ومما يزكي هذه البصيرة في الأعمى ما جاء على لسان النبوة في قصة الأبرص والأقرع والأعمى، وهي في البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن ثلاثة في بني إسرائيل - أبرص وأقرع وأعمى - فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس. فمسحه فذهب عنه قذره، وأعطى لونا حسنا وجلدا حسنا قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإِبل؛ فأعطي ناقة عشراء. فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس. قال: فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعراً حسنا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر؛ فأعطي بقرة حاملا فقال. بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس قال: فمسحه فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم؛ فأعطي شاة والداً، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهدا واد من الإِبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم، قال: قال ثم أنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الجبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال – بعيراً أتبلغ عليه في سفري. فقال: الحقوق كثيرة. فقال: (الملك) له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيراً فأعطاك الله فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.

قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت.

قال وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الجبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمي فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فو الله لا أجهدك اليوم شيئاً أخذته لله. فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضى عنك، وسخط على صاحبيك؟...

أرأيت كيف أجدى المعروف في المكفوف، وقد شكر أنعم الله حين جاءته وكيف استحق على لسان النبوة أن يكون صاحب الحكمة بين قرينيه، والفائز بالخير بينما خسره الآخران؟... أليس في ذلك إيحاء من طرف دقيق خفي بأن المكفوف يستحق التكرم لأنه لا يضيع عنده المعروف؟..

والمكفوف من الناحية لا يتأخر كثيرا عن البصير، ولا يوجد بينهما من الفروق إلا ما يقتضيه هذا النقص الحسي، فالأعمى من ناحية الشرع يلى النكاح، ويكاتب، ويؤم الناس في الصلاة، ويجتهد في الأوقات والأواني ويبيع ويشتري، ويحل له الصيد بالكلب والرمي، ويجوز ذبحه إذا فعله وإن كره، ويصح أن يكون وصيا، وتصح منه المساقاة، وتجب عليه الجمعة إذا وجد قائداً، ويلزمه الحج إذا وجد مع الزاد والراحلة قائدا.

واختلف القدماء في رؤية الأعمى للمنامات، فقال بعضهم: يرى. وقال بعضهم لا يرى. والذي يقتضيه المقام هو التفصيل الموافق لما أثبتته التجربة والعلوم الحديثة، وخاصة علم النفس، وهو أن الأعمى إن كان قد طرأ عليه العمى بعد إبصار، وبعد تمييزه للأشياء فإِنه يستطيع أن يرى منامات وإلا فلا؛ وليس عدم الرؤية للأكمه بمانعة من أن يحلم أحلاما سمعية أو كلامية، لأنه وإن فقد البصر يسمع ويتكلم.

*****

(2)

يخطئ بعض الناس حين يظن أن القرآن الكريم قد شوَّهَ صورة العمى وقبَّحَ منظر الأعمى لأنه أكثر من ذكر العمى. والأعمى في مواطن الذم والسوء وهذا ظن قد يساعده الشكل والمظهر ولكن الأمر يتبدل حين النظر الدقيق والبحث العميق وقد تتبعت الآيات الكريمة التي وردت فيها مادة العمى ثم بحثتها فلاحت لي فيها سمة غالبة هذه السمة هي أن القرآن لا يريد بمادة العمى في أكثر استعمالاته كف البصر وزوال الرؤية من العين ولكنه يريد بها ضلال العقل وسنة التفكير وخطل الرأي. ولنستعرض الآن طائفة من تلك الآيات لنتبين فيها ذلك.

يقول الحق تبارك وتعالى في سورة البقرة واصفا شأن المنافقين: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ وهؤلاء المنافقون مبصرون حسا ولكن القرآن أراد أن بهم عمى عن الحق وضلالا عن الهدى فما أراد القرآن العمى الحسي بل أراد العمى المعنوي وهو شر ما يعاب به الإنسان ويقول في سورة الأنعام: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [الأنعام: 104]، ويقول في سورة يونس ﴿ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ﴾ والمراد به أيضا الضالون السفهاء الذين لا يستجيبون ويقول في سورة الإسراء ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا والمراد الأعمى عن الحجة المنصرف عن الدليل ولو كان له بصر زرقاء اليمامة وفي سورة الحج يقول فأنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور والآية لا تحتاج إلى تعليق فهي في الباب أوضح ما يكون ويقول في سورة النمل ﴿ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ ﴾ والمقصود مفهوم ويقول في سورة فصلت وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فالمقصود بالعمى هنا هو الضلال لا فقدان البصر ولذلك قوبل بالهدى وفي نفس السورة يقول عن القرآن ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ [فصلت: 44] أي لا يفهمونه ولا يتأثرون به لبلادتهم وظلمة عقولهم وفي سورة محمد يقول عن المجرمين من الكافرين والمعاندين أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أي أضلهم عن الإيمان فلا يهتدون إلى سبيل الرشاد ولذلك عقب الآية السابقة بقوله ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾. ويقول في سورة فاطر ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: 19- 22] قال المفسرون هذه أمثال ضربها الله تعالى في حق المؤمنين والكافرين فقوله الأعمى والبصير أي العالم والجاهل ولا الظلمات ولا النور أي الكفر والإيمان ولا الظل ولا الحرور أي الجنة والنار وما يستوي الأحياء ولا الأموات أي المؤمنون والكافرون.

من هذا نرى أن أغلب الاستعمالات التي وردت في القرآن الكريم لمادة العمى أريد بها عمى القلب والعقل والروح لا عمى البصر. فإِذا أراد القرآن استعمال مادة العمى بمعناه اللغوي الأول وهو كف البصر لم يستعملها على وجه الذم والتقبيح بل يذكرها في مواطن الرحمة أو التخفيف فهو مثلا يقول... ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ﴾ [عبس:1-4] فيذكر المكفوف هنا باللفظ الصريح لا ليتندر عليه ولا ليسخر منه ولا ليستهزئ منه. وإنما لكي يذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن هذا الأعمى كان في حاجة إلى الرحمة والإقبال لا إلى الأعراض أو الإمهال والقرآن الكريم يقول في آية أخرى ليس على الأعمى حرج فيذكر أيضا كلمة الأعمى بمعناها الأصلي وهو كف البصر ولكن في أي موطن ليس في موطن الذم والقدح والتجريح بل في موطن الرحمة والتخفيف. وإذا فالقرآن لا يسخر من الأعمى كما يظن الجهال ولا يذكره ذاما أو ناقدًا وإذًا فاستشهاد الكثيرين بالآيات التي تتضمن مادة العمى في الحملة على المكفوفين أو السخرية بهم استشهاد يدل على عمى في القلب وبلادة في الشعور وقد التفت إلى هذا المعنى بعض العباقرة وذكروه في كلامهم فقال إبراهيم التيمي. كفى بالمرء حسرة أن يفسح الله له في بصره في الدنيا وله جار أعمى فيأتي يوم القيامة أعمى وجاره بصيرًا وقال معاوية ابن أبي سفيان لعبدالله ابن عباس ما بالكم تصابون في أبصاركم يا بني هاشم وكان ابن عباس قد كف بصره في آخر حياته، فألقمه ابن عباس حجرًا حين أجابه قائلاً كما تصابون في بصائركم يا بني أمية، وسمعت عفيرة بنت الوليد البصرية العابدة رجلاً يقول: ما أشد العمى على من كان بصيرًا، فقالت يا عبد الله، عمى القلب أشد من عمى العينين في الدنيا، والله لوددت أن الله وهب لي كِفة محبته لوم يبق مني جارحة إلا أخذها.

وقال رجل للقاسم بن محمد: لقد سلب أحسن وجهك قال: صدقت غير أني منعت النظر إلى ما يلهي، وعوضت الفكرة في العمل فيما يجدي، والقاعدة التي نريد تثبيتها في الأذهان ولو بالإلحاح في الإعادة والتكرار، هي أن كف البصر ليس بعيب موجب للاحتقار وليس بنقص يعوق صاحبه عن السبق والتبريز في الحياة إذا هيئت له الوسائل والأسباب وكل ما يقال فيه هو أنه نقص جسمي لا يلام عليه صاحبه ولا يعاب وأحيانًا يهش له صاحبه ويفرح به إذ يريحه من سيئات وييسر له حسنات ولعل أبا العلاء المعري أشار إلى ذلك من طرف خفي حين قال: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر. وكفيف البصر إذا أوتي الموهبة وواتته الظروف قد يعلو غيره من المبصرين وقد يسودهم في مواقف يقام لها كل ميزان, ومن أمثلة ذلك أن أبا العلاء المعري الضرير دخل ذات يوم على المرتضى بلا قائد فعثر في طريقه برجل وتعجل الرجل فقال من هذا الكلب فأراد أبو العلاء أن يرد عليه سبه بأقذع منه ولكن في أسلوب مطوي، ومن طريق غير مباشر, وفي الوقت نفسه يبين له أن هذا الضرير المشتوم أفضل في علمه وحفظه من البصير الشاتم، فأجابه أبو العلاء معرضًا به: الكلب يا هذا هو من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا؛ ومعنى هذا أن المعري يعرف للكلب سبعين اسمًا، وإلا لحق عليه باعترافه هو أنه كلب، وهذه عبقرية لغوية مدهشة, ومعناه أيضًا أن أبا العلاء يدرك أن شاتمه لا يعرف هذه السبعين، فهو إذًا كلب، ولما شاهد المرتضى ذلك قرب أبا العلاء وأدناه واختبره فوجده عالمًا مشبعًا بالفطنة والذكاء، فأقبل عليه وهو ضرير إقبالاً شديدًا بعد أن ترك المبصرين وراءه ظهريًّا.




* المصدر: مجلة كنوز الفرقان؛ العددان: (الخامس والسادس)؛ السنة: (الرابعة)، جمادى الأولى والآخرة 1371 هـ
أعلى