محمد علي الرباوي - الكوليرا لنازك ليست قصيدة حرة

ليس الهدفُ من هذا المقال النيلَ من قيمة نازك الملائكة، حيث أجمع النقاد على ريادتها، باعتبار "الكوليرا" من أوائل النصوص الشعرية التي قامت على وحدة التفعيلة. أقول من الأوائل؛ لأن التجربة بدأت قبل نازك، والسياب، وليس هذا موضوعنا الآن، لكن نود أن نتحدث عن طبعة هذا النص الشعري.
راج في نقدنا العربي القديم مصطلحُ "القصيدة"، واهتم بهاالنقد اهتماما كبيرا. فلما عرف النقدُ القديمُ الشعر عرف في الحقيقة القصيدةَ، ولم يعرف الشعر. لكن كان يدرك، عن حق، أن القصيدةَ شكل من أشكال الشعر. فما أشكال الشعر هذه في حضارتنا العربية؟
أشكال الشعر عديدة، أنتج منها أجدادُنا: القصيدة، والأرجوزة، والمزدوج،
والمسمط، والموشح، والقصيدة الحرة....
1- القصيدة هي أشرف هذه الأشكال عند نقادنا القدامى. وعندي أن القصيدة هذه نالت هذا الشرفَ لكونها الشكلَ الشعري الوحيدَ الذي لا يمكن أن يلتبس بالقرآن الكريم. فهذا الشكل يتميز بكون البيت فيه يأتي تاما، أو مجزوءا، والقصيدة إذا جاء البيت الأول فيها تاما، فإن الشاعر يلتزم هذا التمام في كل القصيدة، وكذلك الأمر إذا جاء مجزوءا، فالجزء يحضر في كل أبيات القصيدة. يضاف إلى هذا ضرورة الالتزام بوحدة الروي، وهذا الالتزام هو الذي تحكم في وحدة الضرب. هذه القصيدة مع النهضة ستعرف تطورا ملموسا مس القافية، حيث أباح الشاعر لنفسه بالتنويع في القوافي تنويعا حرا حينا، وتنويعا خاضعا لنسق ثابت يختاره الشاعرُ ويلتزم به. وقد ظهرت في وقت مبكر القصائدُ المرسلة (تجربة جميل صدقي في العراق وغيره). أما أوزان القصيدة فقد قَعَّدَ لها الخليل رحمه الله
2- الأرجوزة: شكل شعري قديم، لا نعلم متى ظهر. هل ظهر قبل القصيدة أم هل ظهر بعدها، أم هل ظهرا متزامنين. المهم أن هذا الشكل يشبه القصيدة في كونه يقوم على وحدة الروي. لكنه يختلف عن القصيدة في كون البيت في الأرجوزة يأتي من التام المشطور، أو من التام المجزوء، أو قد يأتي على تفعيلة واحدة/ وهذا نادر. لكن الشطر التام هو الغالب. وأغلب وزن تقوم عليه الأرجوزة هو بحر الرجز.
3- المزدوج: شكل شعري قديم، يقوم البيت فيه على شطر واحد كالأرجوزة. لكنه على مستوى القافية لا يلتزم بوحدة الروي، ولكنه يغير القافية بيتين بيتين؛ وهذا ما يقابل distique في العروض الفرنسي، لكن له شرفا كبيرا في الشعر الفرنسي الكلاسيكي خاصة، بينما المزدوج ظل حضوره ضعيفا واسْتُعين به لنظم العلوم كالألفية. لكنه سينتعش مع النهضة.
4- المسمط: شكل شعري عربي قديم، يختلف عن القصيدة لكون البيت فيه يكون كالأرجوزة، والمزدوج، مشطورا شطرَ التمام، أو شطر الجزء. ويتميز المسمط بكونه يقوم على أدوار، وكأني به مقدمةٌ لميلاد الموشح. فهو يتكون من ثلاثة أغصان، فعمود؛ أي يتكون من ثلاثة أبيات مشطورة، فبيت رابع مشطور يسمى العمود( وقد ترد أبيات المسمط على مشطور المجزوء، أو على جزء واحد). فالمسمط مجموعة أدوار تنتهي بعمود ذي روي يتكرر في باقي أعمدة المسمط، بينما الأغصان تكون في كل دور على روي واحد لا يتكرر بالضرورة في باقي الأدوار. وسيعرف هذا الشكل تطورا مع النهضة. وستظهر مسمطات بثلاثة أبيات فخمسة فسبعة...
5- الموشح: شكل شعري أراه أندلسيَّ النشأة، لكن له جذورا في رحم القصيدة وضحتها في أطروحتي. هذا الشكل يقوم البيت فيه على الشطر التام، أو الشطر المجزوء، أو الشطر الموحد؛ أي القائم على تفعيلة تامة، أو ناقصة. إنه شكل مستنبط من المسمط. فعمود المسمط يقابله قفل الموشح، لكن العمود يقوم على شطر واحد، بينما البيت في القفل يكون من شطرين فما فوق. وأغصان المسمط تقابله الأدوار في الموشحات. ولا أريد الحديث طويلا في هذا؛ لأنه وحده يحتاج إلى بحث أطول.
6- القصيدة الحرة: أفضل استعمال مصطلح "القصيدة الحرة" بدل "الشعر الحر"، و"الشعر التفعيلي". مصطلح الحر يعني أن النص غيرُ موزون، والواقع غير ذلك. ومصطلح "التفعيلي" لا يفي بالغرض؛ لأن القصيدة الحرة قد تكون علي وحدة التفعيلة، وهذا هو الغالب، كما قد تكون على وحدة الشطر، وهذا مُنجز في كثير من نصوص أدونيس، وجازي، والسرغيني وآخرين منهم كاتب هذه السطور... فلهذا أفضل مصطلح القصيدة الحرة
هذة الأشكال التي قمت بسردها يمكن تصنيفها إلى مالي
الصنف الأول يمثله القصيدة، والمزدوج، القصيدة الحرة
الصنف الثاني نطلق عليه اسم الشعر الدَّوْرِي، ويضم المسمط، والموشح. فما الشعر الدوري؟ هو شعر يقوم على أدوار strophes. والدَّوْرُ غير المقطع. المقطع عدد أبياته غير محددة من حيث الكم، ولا يتحكم الوزن في بنائه رغم كونه موزونا، ولا يخضع لأي نسق. أما الدَّوْرُ فخاضع للنسق المرتبط بالعروض، والقافية. فنظام الدَّوْر الأول يختاره الشاعرُ بحرية، لكنه، حين يبني باقي الأدوار، فإنه مطالب بأن يلتزم فيها النظام الذي اختاره للدور الأول، وعلى هذا سارت المسمطات، والموشحات، والأشكال الثابتة في الشعر الغربي Les Formes Fixes مثل ( Le sonnet , Le rondeau, Le virelai… )
وبعد أين نصع نص الكوليرا؟
من خلال التعاريف التي قدمناها لأشكالنا الشعربية العربية تبين ما يلي:
تقوم الكوليرا على أربعة أدوار، ولا أقول أربعة مقاطع. كل الأدوار على بحر الخبب. وكل دور يتألف من 13 بيتا على وزن ثابت، ونظامِ قافية ثابة كذلك. فأين الحرية في هذا العمل؟
صحيح إذا أخذنا الدور الأول من الكوليرا، وقرأناه مستقلا عن باقي الأدوار، فالدورُ قصيدة حرة فعلا، تقوم على وحدة تفعيلة الخبب. لكن الدور جزء من كل. ونظامه أصبح قيدا التزمته الشاعرة في باقي أدوار الكوليرا بهذا نقول إن الكوليرا ليست قصيدة حرة وإنما هي قصيدة دورية تدخل في باب المسمطات، والموشحات. هذ النمط الدوري كثير الحضور في عاشقة الليل (1947)، وشظايا ورماد (1949) الذي يظم الكوليرا، وفي باقي أعمالها اللاحقة.
هذه الخلاصة التي توصلنا إليها لا تحط من قيمة نازك فهي عندي أكثر وعيا بالتجربة من السياب، إذ رافقت مشروعها بالتنظير والدعاية.
حرر بالسعيدية في 4 شتنبر 2020
ملاحظة:
هذا العمل خلاصة لفصل من فصول أطروحتي " العروض دراسة في الإنجاز" التي أطرها الدكتور محمد السرغيني، وتمت مناقشتها 1994. وأشير إلى أن السياب رحمه الله أشار، في أحد أعداد مجلة الآداب البيروتية إلى أن الكوليرا ليست من الشعر الحر، كما كتب شاعر تونسي لعله جعفر ماجد مقالا بمجلة الفكر التونسية، قَطَّع أبيات النص ليثبت نسق الكوليرا



L’image contient peut-être : 1 personne, selfie et gros plan



أعلى