وئام حمزة - صدى القلوب..

أخبرتني يومها عن قلبك المثقوب. كنا بعد أطفالا نصدق ما يقول الكبار. أخبرتني كيف نولد جميعنا بعيوب ونقائص، وأنك ولدت بقلب معيب لم يستطع أن يلتئم كما تفعل كل القلوب. ولأني ولدت بقلب سليم أخجلني ألّا أشعر بك، فكذبت للمرة الأولى، ادعيت أنني أعرف وأفهم شعورك. كنا طفلين عنيدين؛ قررت أن تثقب لي قلبي إذ شعرت بأن كمالي عيب أيضا، تماما كما شعرت. فأخذنا نبحث عن مسمار دقيق يناسب أن يعبر القلب. بحثنا طويلا حتى وجدنا إبرة التطريز الصغيرة، تستخدمها جدتي في صنع مفارش الصوف الصغيرة، وكوفيات تحمل أسماءنا، تبدو مناسبة، قوية.

غرزنا الإبرة في منتصف الصدر تماما، لما لم نكن نعلم أن القلب عادة يميل ناحية اليسار، أيادينا الضعيفة لم تستطع إتمام المهمة؛ فظلّت الإبرة نصف مغروسة بينما نبحث عن “شاكوش” لدفعها أكثر، ووجدنا يد “الهون”! نذكرها منذ دق “الشّمار” في سبوعنا، وتدق لنا أمهاتنا الحلبة لنشربها مع الحليب مساء، وجدناها مناسبة لرتق اللّا-عيب في قلبي، وغضب قلبه.

ولكن الإبرة انكسرت، لم نعد نستطيع إخراجها إذ أنّ طرفها المعقوف أصبح في الداخل تماما، وطرفها المدبب طار بعيدا.

في المساء عندما كانت جدتي تبحث عن إبرتها: شرعنا في البحث معها، والرعب يأكلنا أن تعرف بإتلافنا ممتلكاتها. وحين أصابتني الحمى ليلتها تفاقمت آلامي، لأن قلبك مصاب بالألم والحمى طوال الوقت، أو هكذا ظننت.

في اليوم التالي منعني العند أن أعترف بآلامي، ومنعك نزق الصبية من التعاطف، لكن حقيقة واحدة جمعتنا، وسرّا واحدا: عندما نكذب لا يعرفون، لا تنطبق السموات على الأرض ولا تحمل جباهنا لونا أحمر، ولا جوفنا يحترق بطعم الشطّة.

****

أخبرتنا العرافة يومها أننا سنموت معا. سنصل إلى عمر الثلاثين سوية ثم يقتل كل منا الآخر. كنا مراهقين على شاطئ البحر، لن نقبل بكلام عرافة اشتريناه بثمن بخس، دراهم معدودة. كيف لها أن تؤلمنا بكذبة كهذه وكان لها أن تسعدنا بشتى ألوان الكذب. في ذات النهار علمنا بأمر رحيلكم. قد تعودون يوما، وكلانا يعلم أن المهاجرين لا يعودون أبدا. تمازحني “ربما أعود لتقتليني كما قالت العرافة، أو لا أعود فنحتفظ بحياتينا، ولا نخسر شيئا”. يومها آلمتني الإبرة وأنا أتخيلها تضغط على القلب كما فعلت المرة الأولى. أضغطها أكثر: شغاف القلب تحميها وتحوّطها، وعظامي تربطها أكثر، تقويها. هديتي الغالية، عرفت يومها أنني كنت كاملة لولاك، وألا أحد سواي مثلك، كلما كبرنا تقل معرفتي.

عندما عادتني ليلتها الحمى؛ رأيتك ممسكا بقلبي، تحشوه أرزا ونعناعا، تشويه وتتذوقه بطرف الشوكة، وكلما تذوقت تبتعد الإبرة، حتى إذا انتهيت استخدمتها لتخلل أسنانك، ولا أعرف أيهما آلمتني أكثر، شوكتك أم إبرة جدتي.

****

لم أخبرك أبدا كم أحببتك، كنا طفلين لا يفترقان، مراهقين لا نعرف من الدنيا سوانا. كنت قاسية جدا.

اتفقنا مرة أن أرسم لك نقشا على قلبك، سرقنا إبرة جدتنا وحاولت رسم قلب جديد، ولكن الإبرة طارت من يدي وفزعنا لمنظر الدم، فتفرقنا نبحث عن ضمادات، اتفقنا ألا يعرف أحد سرنا، العند بداخلي وغضب دواخلك تبادلا الأدوار.

يومها خفت أن تنظر أمي إلى عيني فتعرف كل شيء، فبتّ محموما، وفي كل مرة أكذب فيها تعاودني الحمى، كما يحصل اليوم. أغمض عيني فأراك تمدين قلبي على الطارة تضربينه بيد الهاون وتقرعينه كطبلة أفريقية.

“النقش سيجعل لقلبينا إيقاعا واحدا”، وأنظر إلى قلبي الأجوف بين يديك متألما صارخا، يسافر صداه يبحث عن رجعة ولا يرتجع!

****

أخبروهما أن لكل مشكلة حلا، ولكل ذاكرة أصلا، أخبروهما أن انتماءهما لبعضما، ثم فرقوا بينهما. بينهما أسرار لم يعرفها سواهما، وعالم لا يعيش فيه سواهما. لذا شاءت الأقدار أن تجمع بينهما في فصل أخير، هل أخبروك أن لكل حكاية راويا كما أخبروهما؟

عاد من غربته، أو أنها تغربت عن موطنها، أو أنهما التقيا في أرض محايدة، من المناسب أن يجتمعا في عزاء الجدة.

هي تحمل قلبا مثقوبا أو جلدا منقوشا، لم يجدا الحبر ليجعلا منه وشما! يجلسان على كرسيها، يعبثان بأدواتها ويجدان إبرة الصوف التي طارت منذ سنين، فينتفض قلبها ليرجع صدى الطبول الأفريقية.
  • Like
التفاعلات: علي سيف الرعيني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى