ماجد سليمان - ذكرياتٌ لزمت خِدْرَها

لخمسٍ بقينَ من ربيع الثاني من العام 1397 من هجرة النبي عليه الصلاة والسلام، الموافق للعام 1977م، وضعتني أمي، عند الخامسة من فجر الخميس، بعد مخاض أذوى جسمها النحيل، وَأَماتَ قُوَّتها، وفكَّ حَلَقَةَ صبرها، وما أن وَلجتُ إلى الدنيا نديّاً، عارياً، على جسمي قطع صغار من رحلة العبور من بطن أمي الآمن إلى دنيا الفجائع، والفظائع، والمحن، حتى دفعتني على أكتاف الحياة، مُتدرّجاً في مراحل العمر، متخطّياً تضاريس الظروف، كمحاربٍ يناور نيراناً تشوش بها أيدٍ خفيّه.
وأشرق التاريخ ذاته، فطويت في ساعاته أربعين عاماً، تفتّت من ورقات العمر البهيّ، كنت شارداً كالمتفاجئ، وغير مُصدّقٍ حتى وجدتني أنتزع ورقة الأربعين من بستان الحياة التي زهوت بها، أعوامٌ وَضَعْتُ خطوطها، وَصَفَفْتُ شُجونها، وأعدتُ عَقْدَ حبالها، إنّهنّ ذكريات غِضَاض، صاغتها خيالات الوجع الظَّاعن.
إنَّ العُمر أربعين، وها هي الذكريات تجرّني من خاصرة روحي، لتعود إلى أماكن عديدة، فأرى ساحات الأمس البعيد اللصيق جداً بوجداني، بعد أن أراني الزمن قدرته في موارات ما مضى، وما أودعه في ذمّة الماضي، وكأنّ الحياة لم تبرح أعوامها الأولى: الشوارع والأحياء، نوافذ البيوت وأبوابها، نساء الساعات الأولى، الأسواق الشعبية وليالِ أزقتها، أغاني سنوات المراهقة والشباب، الأصدقاء المرحليُّون، زملاء الدراسة والعمل، مُصادفات الشتاء والصيف، وكأنَّ الذكريات نسوة جئن تباعاً يحملن على أذرعهنّ الرقيقة مشاهد الحياة البعيدة بلا ألوان، يتعاهدنني دون هوادة، وكأن الذّاكرة تقول: هل أتاكَ حديثي؟!.
تصلني أصوات تُكلّمني لكني أعجز عن معرفة أصحابها، إذ سرعان ما تتمازج وتذوب معاً، سارت قدماي تابعةً جوارحي على أديم الأزقة الغارقة في عميق الصّور والذكريات، أرى أطياف تلك اللحظات التي زهوت بها تتطارد كالأشباح، أتقدم قليلاً، ثم أتراجع فأتبعها، حتى تلاشت اللحظات ببطء، كل شيء يموت في ساحات الماضي عدا الحنين، الحنين النازف من روح افترستها الذكريات، ودوى في داخلها صدى الصور العتيقة، أعوامٌ ما برحت تضيء في ذاكرتي، وما هذه الأزقة إلا ميدان النفس الحائرة، أمضيت عمراً أمشطها ذاهباً آيباً، أتنفس رائحة الخوالي من ليالِ الصحب والناس، فأستدير على نفسي حائراً نسيته العناوين، وتجاوزته الأعياد، وبهتت في نظرته آمال وأحلام أُجهضت في غمضة عين.
قفلت عائداً، وبطن يمناي يياريني ماسحاً الجدران، التي توارت من خلفها أصوات غمرها الطين، نافذة رؤوس أصابعي في شقوق مُتعرّجة، حتى تفرّقت كل الحكايات الحبيسة لأناس ابتلعتهم القبور الرطبة، بعد حياة مضغها المصير المحتوم.
تواريت عن الأماكن تاركاً المخيّلة تُشير بعشوائيتها إلى أحداثٍ أملتها الحياة لتكون جزءاً أصيلاً من العمر القصير، ما أنا إلا سارٍ، تتعقّبه صور الراحلين وأصواتهم، كما تتعقّب السباع الفرائس الغافلة، أشياء كثيرة تهرس قلبي هرساً، وتسحق جوارحي سحقاً، وتطوي أحلامي طيّاً، بعد طي أصعب، لا الصمت يريح فيجدي، ولا خشوع العينين لخيالات الأمس يشفي ويبرئ، غدت ميادين للحزن تتسع كل ما لاحت الأطياف البيضاء، أو هوى شهاب من زمن مضى، أو تلعثم في سمعي منادٍ من جانب الآطام، أو تدحرجت في ذاكرتي ملامح من ليالٍ مفعمة بلقاء الأحبة، أكاد من بعدها أُجنّ كجمل أفلت من عقاله، بعد أن استدارت عليه أسنّة القوم ليكون وليمتهم المنتظرة. إني أرى العمر مشحونٌ بالبشر والحادثات، محفوفٌ بالمشاعر الصاخبة، تخترقه نداءات العابرين.
قبل أيام، انتبهت لشباكي الصغير وقد غَسَل الفجر بيده الأفق، وأحاطت هيبته المكان، ترنّحت زمناً تزلزلني الصور والذكريات، وما الفجر، إلا يدٌ بيضاء تُبرئُ الوقت من داء الظلام، منقوطةٌ أناملها بوصل الغائبين.
إنّهنَّ ذكرياتٌ أقمن على نهر القلب، وقد اغتبقن صباح وصالي، يطوين صوراً تتدافع كما تتدافع النوق على المورد العذب، فالأماكن فيها حدود للذّاكرة، تطويها كطي الجميلات لجدائلهن، وتفردها على مساحة تلتهم ما تساقط من صورٍ ووجوه.
ذكرياتٌ لزمت خِدْرَها، وها أنا أطويها كسابقاتها من الأوراق المهرّاة، لأحشرها في أعتق حقائبي، وما الذكريات إلا منازلنا، فما زالت أطياف الراحلين تتعقّبني سائلة: أين ذهبت بهم الأعوام؟ وكيف صارت الحياة بعدهم، بعد كل ما انقضى ومضى وتصرّم وانتهى؟ .. الذكريات جذوة النفس، وسريرةُ الروح، وسلوة الباكي، ومهدهدةُ الحزين، ووتر الصّبْ، فهي تَعبثُ بقلبي كُلَّ لحظة، ذهب الكثيرون ممن رافقت، ونادمت، وجالست، وخاصمت، وضاحكت، وصادفت، وكأنهم اتفقوا على الرّحيل لأبقى وحيداً أتأمل ذكرياتهم الباقيات.
ليَ ذِكرَيَاتٌ آفِلَةْ
تَذوِي عليها أَدمُعي

مِزَقٌ لأحلامٍ مَضَتْ
تَـهْفُو إِلَيْهَا أَضْلُعي.

يرحل الأصدقاء، وأنا أشاهد جثامينهم مأخوذةً في سيّارة الحتف، وكأنَّ زُمرة من الأشباح تنظر من زجاج النافذة وتُشير بالأصفاد الثِّقال الطِّوال، مُعبرةً بإيماءاتA الموت وهمزاته، فهمهمةُ خيله لا تقف يوماً إلا وتُغيرُ على صديقٍ آخر، وتخطفه فجأةً من بين أهله، أو صحبه، ثم تُدير على أعيينا الدامعة غبار سنابكها الضارب في قاع الدنيا الموقوتة برصاص الحزن، وسهام التعب، وحواجز اليأس.
أراح صديق لي يده على كتفي، ظننته التالي، بعد كل من خاتلهم الموت فجأة، ووزّعهم على أقدارهم، فقال لي وتأتأتهُ تُغالبُ صوته الخفيض: غَلَوتَ وعَدَوتَ حدَّك في التوجّد، أرى ذلك في تجاعيد بادية رسمت خطوطها على صفحة وجهك .. فطارَ من فمي بيتان:
كَمْ مِلْتُ بِالقَدَحِ
يَا حُزنيَ السَّكْرانْ

أَذْوي إِذَا شَبَحي
يَهْوي عَلَى الجُدْرَانْ.

إنها وُجوه الصِّحاب، التي أنجبتها تلك الأيام المنزوعة من دفتر العمر، وكأن يدي تذروها لرياحٍ أبت أن تبدّدها في سماوات عراض وسيعات، فردّتها إلى لاكزة بها صدري، فأمسيت أحصي ذكرياتي من جديد، وأعيد كل مرّة تركيب مشاهدها البعاد، مكرّراً الزفير ذاته، والأنّة ذاتها، والدمعة الزرقاء ذاتها.
يغيبون ولا تغيب أصواتهم، يغيبون ولا تذوي جراحهم، ولا يخفت مزاحهم، ولا يجف مداد مواقفهم، هُم الدائرة الواسعة من دوائر ذاكرتي المتألمة، مرسومون على جدارنها بحبٍّ وصادق مودّة، ماكثون على هضاب الروح كركبٍ أناخ بعد أن أدلج في ليلة باردة أضنت سوق نوقهم، عندها استداروا على نارٍ حجبتها كفوفهم الباردة، وهم يتسامرون في سرد الحكايات القديمة.

أبريل 2017م


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماجد سليمان، أديب سعودي،
صدر له حتى الآن أكثر من 19 عملاً أدبياً
تنوَّعت بين الشعر والرواية والمسرحية والقصة وأدب الطفل .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى