أمل الكردفاني - إدارة الفقر- كيف تدير فقرك

لا يوجد معيار محدد للفقر، من هو الفقير؟ سنجد أن من يملك مليون دولار في دولة بها مليارديرات سيعتبر نفسه فقيراً. وقد يمتلك شخص مرتباً لا يتجاوز عشرين الف دولار في السنة، ومع ذلك يوجد في دولة رخيصة من حيث تكاليف المعيشة فيكون مكتفياً.
تكمن الأزمة في الدول الفقيرة، في فشل معالجات الحكومات المستمر للفجوة بين الناتج القومي، والواردات. مع ضعف في إدارة الموارد الذاتية. ونطاق مقالنا هذا لا يشمل إدارة الفقر على مستوى الدولة، بل على مستوى الأفراد الذين يعيشون داخل تلك الدولة. كيف يستطيع الفقير إدارة فقره، أي موارده المادية والمعنوية على حد سواء؟
▪الإدارة الصحية:
يعاني الفقراء في السودان ليس من انعدام الموارد، ولكن من عدم قدرتهم على إدارة تلك الموارد على قلتها. فعلى سبيل المثال، تفتقر الغالبية الفقيرة، لفهم الحياة، على نحو أوسع من الأكل والشرب والجنس والسكن. سنجد أن هناك من يقطنون في أطراف المدن، ويعانون من المرض. وبالتالي ينفقون جل ما يملكونه على العلاج. والدولة أساساً، لا توفر أي خدمات علاجية مجانية، وحتى القليل الذي توفره، يكون سيئاً من حيث النوع قبل الكم. لذلك من المفترض على الإنسان الفقير، أن يهتم أكثر بالنظافة الشخصية، كغسل الأيدي، واللجوء للأعشاب الطاردة للحشرات، وهي رخيصة وقد تكون متوفرة في المنزل. لا يهتم الفقير بإدارة جسده، ولا جسد أطفاله، ولذلك يسقط فريسة للمرض باستمرار، وهذا ما يزيده فقراً، إذ ينفق ماله على الدواء، وهكذا ينتقص من الإنفاق على الطعام، ويؤدي نقص الطعام إلى إضعاف مناعة الجسد وقدرته على مواجهة الأمراض، وهكذا يسقط الفقير في دائرة مغلقة.
هذا مثال صغير، يجب أن نأخذه بجدية، وعلينا أن نعلمه للفقراء، أي نعلمهم كيفية إدارة فقرهم، أي ظروفهم المتنوعة. يدخل المزارع الفقير للأرض الزراعية الصغيرة إن كانت أرضه أو الكبيرة إن كان مجرد عامل فيها (تربال)، وهو لا يحمي نفسه حماية كافية من التلوث البيئي. وستجد أن الفقير قد يأكل الخضروات بدون غسل. بل وبترابها. ولا يهتم الفقير بغسل أسنانه (الإستياك بشكل منتظم)، رغم أن أمراض الفم، تؤثر على باقي الجسد، وتصيبه بأعراض جسمية بعيدة عن الفم، كالشعور بالتعب والإرهاق والتوتر، وأحياناً إضطرابات المعدة، فقد اشارت صحيفة البيان الإماراتية إلى ارتباط بكتريا الفم بأمراض بطانة القلب وأمراض القلب والأوعية الدموية، كما تحدث تأثيرات متبادلة بين أمراض الفم وأمراض أخرى كالسكري وهشاشة العظام..ألخ.
shorturl.at/eyNP5

إذاً، يستطيع الفقير، إدارة فقره أولاً بإدارة جسده، بحيث يقلل من إحتماليات تعرضه للمرض، وذلك بأدوات بسيطة، كغسل الفم، والاستحمام، وارتداء أحذية بلاستيكية طويلة العنق، عندما يؤدي عمله في الزراعة أو الرعي، وارتداء قفازات، ونظارات تحميه في حالة عمله على ماكينات اللحام، أو الحديد. يوفر ذلك الحرص على صحة الجسد، نفقات مستقبلية، وبتوفير نفقات العلاج، يتم تحويلها كنفقات للطعام، والطعام يقوي مناعة الجسم، ويزيد العمر. وهكذا يستطيع العامل الفقير، الحصول على مال أكثر لأنه يملك الصحة الكافية لمزيد من العمل.
كما يجب أن يدير الفقير صحته عن طريق الإبتعاد بقدر الإمكان عن زواج الأقارب. وبالتالي تقليل فرصة ظهور الجينات المتنحية في أولاده، والتي تكون سلبية في الغالب.
▪إدارة الصحة النفسية:
يعاني الفقراء من الإضطرابات النفسية بكثرة، ويلجأون لحلها إلى رجال الدين في الغالب. لكن الصحة النفسية هي أهم ما يملكه الفقير، وذلك لأن انهياره النفسي، يفضي لإضعاف مناعة جسمه من جهة، وإلى ضعف قدرته على مزاولة عمله من جهة أخرى. وبالتالي يؤدي المرض النفسي إلى زيادة تكاليف أعباء المعيشة عليه وعلى أسرته، ويمكن للفقير حماية صحته النفسية، بالتخلي عن مفاهيم مضرة جداً، كالفهلوة، والإحتيال للحصول على الرزق. يظن البعض أن الفهلوة (يصفونه عندنا بأنه زول سوق)، تأتي بالرزق، وهذا غير صحيح، إذ أن الرزق لا يأتي بالإحتيال، بل يأتي بالإنتاج الحقيقي، فالوحيدون الذين يمكنهم الإسترزاق بالفهلوة هم السياسيون. أما المجتمعات الفقيرة، فعليها، أن تتعلم الإعتماد على المصداقية والإتقان في العمل. توفر المصداقية راحة النفس لو التزم بها جميع الفقراء في تعاملاتهم اليومية. كما أن الصحة النفسية، تتقوى، بانتزاع بعض الأفكار المضرة، كالكراهية والعنصرية. ففي المجتمعات الفقيرة، تتكرس الاختلالات العاطفية، وأنا أسميها إختلالات لأنها انفعالات غير مؤسسة على الحقيقة بقدر ما هي مؤسسة على الوهم. كما يسود منطق القوة في تلك المجتمعات، مما يجعل الفقير في حالة تحفز مستمر إما للهجوم أو الدفاع، وهذا يرهقه عصبياً.
▪إدارة الفقر بالإمتناع:
يستطيع الفقير أيضاً إدارة فقره، بأشياء بسيطة، ومن أهمها الافعال السلبية (الإمتناع)؛ أي يمتنع الفقير عن القيام بأشياء تزيد نفقاته، رغم أنها غير ضرورية، مثل التدخين، وتناول النشوق (الصعوط أو التمباك) وتعاطي الكحول والمخدرات، كما يستطيع أن يمتنع عن تناول السكر، وأن يعوِّد أسرته على التقليل من تناول السكريات، وهكذا يتجنب أمراضاً عديدة ترتبط بالسكر، كالسرطانات وكداء السكري، وغيرها.
▪الإدارة الإنجابية:
هناك اعتقاد لدى الفقراء بأن كثرة الإنجاب تعزز قوة الأسرة، ومن ناحية نفسية، تؤكد كثرة الإنجاب خصوبة المرأة وفحولة الرجل، كما تجعل الفقراء يشعرون بأنهم أشخاص منتجون، وأنهم يمتلكون الحياة وليست الحياة هي التي تمتلكهم. هذه النظرة، تؤثر على الفقراء، إذ تزيدهم فقراً، وينجبون أطفالاً غير قادرين على حمايتهم صحياً أو اقتصادياً أو تعليمياً في المستقبل. ولذلك يجب تغيير هذه المفاهيم، واكتفاء الفقير بطفلين أو ثلاثة على الأكثر.
▪إدارة الفقر باللجوء للطبيعة:
يستطيع الفقير، أن يدير فقره بعودته للطبيعة. سنلاحظ مثلاً في دولة فقيرة كالسودان، سنلاحظ أن الفقراء يسكنون في أطراف المدن أو الأقاليم. ومع ذلك ستجد أن الفقير، يمتلك باحة ترابية داخل المسكن، سواء كان المبنى من الطين أو القش. وبالرغم من ذلك، لا يستفيد منها الفقير في زراعتها ببعض الخضروات، كالنعناع أو الشطة الحمراء، وغير ذلك من مزروعات متجددة، لا تحتاج إلا للقليل من الرعاية المنظمة. وبالتالي يوفر الفقير، شيئاً من النفقات على تلك المزروعات، وفوق هذا فهو يضيف لمسة جمالية للمنزل.
يمكن التعامل مع خامات الطبيعة الرخيصة، وبشكل فني بسيط، يستطيع تحويلها من خاماتها الأولية لسلع، كالكراسي والترابيز والأسرة. ومع ذلك فليس هذا بالمهم بقدر اهمية تنظيم الفقير لوقته وقدراته الحيوية. ويمكن لمجموعة من الفقراء الذين يقطنون منطقة واحدة التعاون لوضع حلول لمشاكل متعددة، مثل تدريس الأطفال. وإن كان التعاون الجماعي يثير المشاكل كثيراً في مجتمعاتنا هذه. لكن على الأقل يمكن للفرد أن يدير فقره بادواته الخاصة والبسيطة.
▪الإدارة الثقافية للفقر:
لا يتمتع أغلب الفقراء بالإهتمام الكافي بالثقافة، وبالتالي هم أقل من يتفاعلون مع القوانين والقرارات التي تصدر في الدولة، كما أن ضعف الفقير الثقافي، يؤدي إلى زيادة أخطائه عندما يحاول حل مشكلاته المتعددة. ولذلك يؤدي ضعف إدارة الفقر ثقافياً، إلى زيادة مشكلات الفقير. فجهل الفقير بالتعامل مع بناته وابنائه المراهقين والمراهقات، يؤدي إلى إضطرابات أسرية. كما أن عدم إلمام الفقير بحقائق الاشياء، كأضرار ختان الإناث، وأضرار الممارسات الجنسية غير المحمية، وغير ذلك يساهم في حدة آثار الفقر.
▪إدارة الفقر جمالياً:
يجب أيضاً أن يتم تثقيف الفقراء جمالياً، فلو لاحظنا منازل الفقراء في تركيا، ومنازل الفقراء في السودان، سنجد فارقاً جمالياً شاسعاً، إذ لا يمتلك الفقراء عندنا مخيالاً جمالياً، إن منازل الطين أو القش لا تتمتع بأي هندسة جمالية، بل يتم بناؤها كيفما اتفق، في حين أن هناك توجهاً عالمياً للعودة إلى منازل الطين، وتهيأتها هندسياً بحيث تكون أكثر جمالاً من القصور، ببضع لمسات جمالية قليلة فقط.
ولكن ما أهمية الثقافة الجمالية بالنسبة للفقير؟
تؤثر الثقافة الجمالية على الفقير من ثلاث نواح: أولها: الناحية النفسية، إذ يحقق التوظيف الجمالي للبيئة حول الفقير تقوية صحته النفسيه، وهذا يدعمه اقتصادياً بتقليل إصابته بالإضطرابات النفسية، ومن ناحية ثانية، يؤدي الإهتمام بالجمال، لدفع مخيلة الفقيرة إلى أعلى، وبالتالي، فهم أعمق للحياة، ويقلل نزعة تملك ما ليس ضرورياً. يمكننا أن نشاهد بعض ملامح الجماليات، عند سائقي الركشات، وأصحاب الدراجات الهوائية، لقد كان صاحب الدراجة يعتني بدراجته ويدللها، ويجملها، بالملصقات والمزينات الأخرى. هذا يخلق علاقة مهمة بين الفقير وبين ما يملكه من القليل من الأشياء، كما يؤدي إلى أن يجد السعادة والرضى عندما يلاحظ ان كل ما حوله يحوي جوهراً جمالياً ما. ولكن الاهم من كل ما سبق، هو أن ثقافة الجمال، تفضي إلى إتقان عرض الفقير لمنتجه، سواء كان سلعة زراعية أو حيوانية أو حتى سلع هامشية، كبيع العصير في حفاظات متنقلة، أو افتراش الأرض بالسلع، وهذا يحقق أحد أهم أهداف العرض وهو خلق الطلب. فهناك نظريتان اقتصاديتان، إحداهما تقول بأن الطلب يخلق العرض، والأخرى تقول بأن العرض يخلق الطلب، والواضح أن النظريتين صحيحتان، مع رجحان أن العرض يزيد الطلب، خاصة إذا كان عرضاً متميزاً. تسعى كبار الشركات لعرض منتجاتها بعروض مبهرة وشيقة، وقد تنشئ إحتفالات ضخمة لعرض سلعة واحدة كالجوالات مثلاً، ولكي تتمكن من فعل ذلك تلجأ إلى الفنانين والمبتكرين من أصحاب الخيال الخصب. كذلك الأمر بالنسبة للإنسان الفقير، إذ يجب أن يعتمد على إتقان عمله وتجويده والتفنن في عرضه وهذا ما لا يتأتى إن كان غير مثقف جمالياً، وضعيف المخيلة.
ربما لا أكون متخصصاً في هذا الشأن، ولكن من المؤكد أن هناك من يملكون قدرات أكبر مني لاجتراح أساليب إضافية لإدارة الفقير لفقره. لأن توجهنا نحو الحكومات والأنظمة، لم يعد يجدي نفعاً، ولذلك يجب التحول لمخاطبة الشعب نفسه، ومخاطبة الأفراد وإفهامهم أننا نستطيع العيش حياة طيبة، لو تمكنا من إدارة فقرنا، وإدارة الفقر تعتمد على التخطيط والتنظيم، وككل شيء تعتمد على ؛ الإلتزام. أي أن يلتزم الفقير بنمط معيشي محدد وواضح، وألا يكسر هذا الروتين إلا في حالات إستثنائية ضرورية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى