سعد عبد الرحمن - يا سلام سلم ، الحيطة بتتكلم

في شهر رجب من سنة 781 ھ ، و إبان سلطنة المنصور نور الدين علي بن الأشرف شعبان بن قلاوون وقعت حادثة في منتهى الغرابة ، فقد كان هناك رجل اسمه أحمد بن الفيشي نشب بينه و بين زوجته خلاف ، ثم دخل منزله فسمع صوتا غليظا من خلف الحائط الذي يجلس بجواره في المنزل ، يقول له : اتق الله و عاشر زوجتك بالمعروف ، فظن أن الصوت لأحد من الجان و حدث بذلك أصحابه فأتوا إلى بيته و سألوا الحائط عدة أسئلة فأجابهم و سمعوا الكلام من خلف الحائط من غير أن يروا أحدا فغلب على ظنهم أن هذا من فعل الجان ، و شاع الأمر بين الناس فارتجت القاهرة و أتوا إلى بيت ابن الفيشي لسماع كلام الحائط ، و كاد الناس أن يفتتنوا بهذا الحائط لا سيما النساء ، فصاروا يجلبون إلى الحائط كل يوم على سبيل النذر أشياء كثيرة من الطيب و الزعفران ، فلما سمع بالأمر القاضي جمال الدين محمود العجمي محتسب القاهرة ( المحتسب وظيفة كان يقوم صاحبها بمراقبة الأسواق و معايرة الموازين و المقاييس للتأكد من سلامتها و متابعة الأسعار و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و معاقبة المخالفين ) ركب و أتى إلى بيت الفيشي و طلع إلى الحائط و كلمه فرد عليه الحائط فتعجب ، ثم أمر بهدم الحائط ظنا منه أن صاحب الصوت يكمن وراءه فلما هدمه لم يجد وراءه شيئا فزاد تعجبه من الأمر و تحير ، و بعد فترة عاد المحتسب مرة أخرى إلى البيت و جلس بجوار الحائط المهدوم و قرأ شيئا من القرآن الكريم و أتى بابن الفيشي صاحب البيت و قال له : قل لهذا الصوت : القاضي جمال الدين جمال الدين المحتسب يسلم عليك ، فرد الصوت السلام ، فقال المحتسب : قل له إن هذا فتنة للناس منك و ما هو جيد ، فقال الصوت : ما بقي بعد هذا كلام ، و صمت ، و لما ألح الزوار على الحائط يرجون منه الكلام عاد يكلمهم ، و قد اشتدت فتنة الناس بالحائط حتى كادوا يعبدونه من عظم ما فتنوا به و يتخذوه معبدا لهم ، فلما شاع أمر ذلك الحائط صار مزارا لأهل القاهرة يأتون إليه من شتى المناطق زرافات و وحدانا ليلتمسوا منه البركة ، و لم يقتصر الأمر على العامة من الناس بل راح يتردد على زيارته جماعة من الأمراء المقدمين ( زعماء المماليك ) و الأعيان من الناس ، و حملوا إليه أشياء كثيرة من المآكل و المشارب ، و صار يمشون في طرقات القاهرة و هم يقولون : يا سلام سلم ، الحيطة بتتكلم ، و لأن المحتسب لم يكن مقتنعا في داخله بالأمر فقد ظل يفحص عن حقيقته و يرسل في السر إلى البيت من يستطلع له الأخبار و يتسقط الأحاديث و ظل يفعل ذلك لمدة شهر تقريبا حتى أتته إحدى العجائز بالخبر اليقين ، و هو أن الأمر كله لعبة من تدبير زوجة المدعو أحمد بن الفيشي بمعونة رجل فقير يدعي الولاية و يقيم مع أسرة ابن الفيشي بالبيت و للعامة اعتقاد كبير فيه ، و الهدف كان في البداية من زوجة ابن الفيشي تأليف قلب زوجها عليها بعدما نشب بينهما من خلاف و أساء معاملتها ، و لكن الزوجين عندما وجدا أن اللعبة قد جلبت لهما الكثير من الفوائد و العوائد استمرآها و استمرا فيها ، عندئذ أرسل المحتسب فقبض على الزوجين و الرجل مدعي الولاية و قررهم فأقروا بما فعلوه ، و اعترفت المرأة أن زوجها كان يسيء عشرتها فاحتالت عليه بهذه الحيلة لتوهمه أن الجان يوصونه بحسن معاملتها ، و صعد المحتسب بالمرأة و زوجها و مدعي الولاية إلى الأتابكي ( وظيفة عسكرية توازي منصب رئيس أركان الجيش حاليا ) برقوق في القلعة فضربهم بالمقارع و خص المرأة بالنصيب الأكبر من التعذيب فضربها نحوا من ستمائة ضربة و أمر بهم فسمر الثلاثة على الجمال و طيف بهم في شوارع القاهرة تشهيرا و تجريسا فكان يوما عصيبا شنيعا عليهم .


( من بدائع الزهور في وقائع الدهور ج1 لابن إياس بتصرف )


* من كتاب المخطوط ( مائة حكاية و حكاية من التاريخ ) :


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى