محمد مستجاب - مستجاب الثالث… قصة قصيرة

ويبقى وجه ربك ذى الجلال، وزهرة وفرن وبقايا زيت خروع وهدهد وظلال، وعكازة تهش الطيف والنمل والذنوب وأصداء ليل مقبل وطويل، قل هو الثالث من آل مستجاب، القابض على الصبر والجمر والثريا والماء وتماثيل الرخام، الثالث من آل مستجاب، الملقب بالنمس، والعادل، والفاجر: لاستيقاظه الدائم فجرا، دخل مرة على زوجة أبيه فرأى منها ما ظل يبكيه ستة وسبعين عاما، الشامخ، الضاحك الجاثم الأمير الحامى- لولعه بالخبز الخارج توا من الفرن، دخل مرة على أرملة أبيه فرأى منها ما ظل يضحكه سبعة وستين عاما، الثالث من آل مستجاب، له رسالة فى قول الحق والبؤس المبكر، ومقدمة فى تشريح ضفدعة على كف عفريت، ودراسة فى البوم والخفافيش، ورسوم فى تسريج المصابيح والخيول والنساء، ونصيحة فى ما يستطاب التهامه أولا من الصدور، وله ديوان من الشعر المطبوع، وكتاب فى ما تراه عين المحب الكفيف، ومنظومة من بحر الوافر فى الحِكَم والأقوال المأثورة وأغنيات المهد وما يجب أن يقال على رأس الراحل، وعنه أخذ آل مستجاب أنشودتهم الشهيرة التى يرددونها عندما تحل الأهوال: النار والخيانة والصقيع وآفة البهتان.

1-

لم يكن أحد فى قامة الثالث إلا أباه مستجاب الخامس، ولا فى قدرته على القفز إلا غزالا مطاردا، ولا فى جبروته إلا العاصفة، ولعل ذلك مرجعه أن الثالث كان رءوما بالريح عطوفا على الملائكة والثعابين وأبناء آوى، يكره الجهل ويستحل دم من يهرس الورد أو السحالى أو الفراش أو الناكر للمعروف، ولذا فقد كان أول من عاش القوم ثلاثمائة عام تحت صولجانه هانئين، حتى كان صباح، جاءه عفريت من الجن وقالها له صريحة وهو يضطرب: امرأة جميلة شامخة تعيش فى الجنوب، تفخر بأن مخلوقا من إنس أو جن ما تمكن من إشباعها، هى ملكة النمل أو النحل؟ بل هى من الإنس لها أفخاذ وسرة وأثداء وعنق وأجمل رأس فى الوجود، هل آتيك بها نائمة على فرشها المعطر الفواح بالأريج؟ أم تسافر إليها ريحا صرصرا عاتية فتداهم قصورها ورياشها وبساتينها وحورياتها ومداخل لذاتها؟ فظل الثالث من آل مستجاب يفكر ويعرق ويتفكر ويصلى ويستصرخ كامن الجوارح، اتركوا هذه المرأة إلى حين، ودخل إلى عرشه الشامخ الممتد بين السماء والأرض حيث نام طويلا.

عندما استيقظ الثالث كان رائق الجوانح مفتوح العيون واسع القلب، فلم يكن يليق به أن يرسل فى طلبها غرابا أو عفريتا أو صقرا أو حمارا مخططا، قالت له الكلاب: لقد أعطاك الله هيمنة على كل هذا الكون الواسع فاجتهد، فالله يحب من عباده المجتهدين، قال للنمور: وأننى خير المجتهدين، وأمر قومه فى النجوع والزرابى والخيام والكفور أن يرسلوا له كل الفنانين، هؤلاء الذين شذبوا النخيل واعتصروا العنب واستخمروا القصب واستنسجوا الحرير الهندى والموسلين والفراء وقمصان الاشتهاء، فجاءه جميع الفنانين: أكلوا وشربوا وتطارحوا وتناقشوا وتناهشوا وتنابذوا، نحن تحت أمرك أيها الثالث من آل مستجاب، فأغلق الثالث كل الأسوار والحصون والمداخل وسراديب الأرض وكوات السماء، واعتقل الريح والرعد والعقارب والروائح، ها هو يومكم يا آل مستجاب: لقد سمعتم بالقطع حكاية امرأة فى الجنوب لا تشبع، يمكنها – كما سمعتم – أن تحتضن الفحل فيستحيل فى صدورها قصيدة مهمشة القوافى، ويمكنها – كما سمعتم- أن تتمرغ فى نور الشمس شبقا فتنزوى الأشعة إرهاقا، ويمكنها – كما سمعتم- أن تعلن أن واحدا فى الكون لا يملأ عينها، وصمت الثالث قليلا وخبط الأرض بعكازته غاضبا فسقطت الريح فى مخابئ الزواحف، وإنى الآن – يا قوم – أريدها، لست جبارا فأداهمها، ولست غرا فأستعطفها، والله لو أضحت شعرة فى البحر لاقتنصتها، لكنى – أنا الراحم الرحيم الرفيق الشفوق، أرى أن أرسل إليها رسولا هو من صناعتكم، ويرمز لكم ويدل على براعتكم، ولذا فقد وضعت الأمر بين أصابع قومى، فأنتم عزتى وفخرى ومجدى الأكبر.

2

وشمر آل مستجاب عن سواعدهم وسيقانهم وعقولهم، وانطلقت قدراتهم المشهود بها تصنع للثالث رسولا، رسولا يعبر عنهم وعن براعتهم ويخترق الحجب إلى جميلة الجنوب ذات المضجع الدافئ وكان الأمر صعبا – لا فى تنفيذه فقط – بل فى تصوره، اعتادوا منذ الأزل أن يقيموا المعابد والتماثيل والقباب والمذابح والصوامع والمحاكم وساحات الترويض وشواهد المشانق وديار الحروب ودور السلم ومرابط الخيل ومنصات الاغتيال، وأن يقلموا النخيل الشاهق والنجيل المنبسط وأن يذروا القمح والذرة والشعير، وأن يفتحوا المسارب ويشقوا الجداول ويقلبوا بواطن الترع، وأن ينشئوا القناطر والأهوسة والبرابخ وأرصفة الشحن وسفن اللهو والعتاد والجنود، وأن يستأنسوا الأسد والفهد والشاهين والفيل والتنين، لكنهم أبدا ما قاموا بإنشاء ما هو حى من دم ولحم وعظام، إنها واحدة من قدرات الرب – جل وعلا- الخالق المصور الجبار، لكنهم – أيضا- ما عهدوا أن يكون الثالث من آل ستجاب عاجزا أو مضطربا أو مأفونا أو مأبونا إنما هو العابد الزاهد المتمثل الناسك الورع الذى إذا ما ركع رمّلت دموعه الحجر – أى أحالت الحجر رملا، وقد منحه الله أقصى ما يمنح الله لعبيده فأصبح ذا سطوة على الإنس والجن وهوام الأرض وغيوم السماء فالأمر -إذن- سيظل بين الله والثالث، والله خبير بما يعملون.

وما كادت قريحتهم تتعرض للنور الأبدى الأخاذ، وقلبهم يتفاعل مع الأمنيات العذبة الحارة، وضميرهم يتوحد بالإحساس الغامر لكبيرهم، حتى بدأوا يتفننون ويخططون ويصممون: نماذج بط ووز ونسور وببغاوات ، رسوما لزرازير وعصافير وبلابل وسمان ووطاويط، وتضوّع النجع كله بالحركة والنشاط، والإمعان والتفكير والتصميم والرسم والتدبير، واختلط الليل، بالنهار، والفجر بالعصر، والنوم باليقظة، والنجوم بالطمى، القادر والعاجز والمستكين والأحمق والحابل والمشتعل والصامت والثرثار والنابل، حتى النساء- نساء آل مستجاب الشهيرات بالبدانة والمرح والخمول والدهانات والنتف والهذر – تحولن إلى حوريات سامقات رشيقات يجهزن الورق ويطبعن الخطوط ويعجنّ الطمى فى المعاجن، ويبحثن عن الكلمات الجديدة فى المعاجم، ويعددن الأفران لحرق النماذج وإنضاجها قبل أن تعرض على الثالث، وحتى الأطفال والصبيان انطلقوا وراء الحمير يجلبون الطين من بطون الترع وأحمال التبن والقش من أعماق الحقول، ما بقى واحد فى النجوع كلها دون أن ينجرف فى هذا الحماس الطاغى الموار الهادر، والذى جعل حتى العميان من آل مستجاب يساهمون بأشعارهم وأراجيزهم وأناشيدهم وأغانيهم، رافضين الانصياع بعيدا مهما كلفهم الأمر من مخاطر وإرهاق.

وكان الثالث يجتمع كل أسبوع بمجلس آل مستجاب الموقر، ليستعرض الرسوم والتصميمات والنمادج، وليصدر توجيهاته السامية النفاذة، فما كان الثالث يبغى سوى الوصول إلى النموذج المأمول ليصبح الرسول المأمول لفاتنة الجنوب المأمولة، وهو لا يريد لرسوله ألوانا فاقعة زاهية مثل الببغاء، ولا منقارا وحشيا كالنسر أو الصقر، ولا أجنحة مارقة كالحدأة، ولا تثاقلا وخيما كالبجعة، ولا نحافة عجفاء كأبى قردان، ولا حمقا طائشا كالأطيش، ولا وهجا مزمجرا كالشيطان، ولا رمرمة عفنة كالباز، ولا لزوجة شبقة كالعنكبوت، وكانت النماذج المرفوضة تُلقى فى حفرة ويُردم عليها حتى لا تعود إلى أيدى آل مستجاب مرة أخرى، والقوم لا يكلون ولا يملون، ظلوا يعملون فى دأب عشرين أ خمسين أو ألف عام، حتى نجح القوم فى الوصول إلى النموذج الأقرب: حجم صغير لكنه ليس ضئيلا، جناحان جميلان واسعان مزركشان بدرجات من اللون البنى الرصين الواثق مع نقاط بيضاء على أطرافهما، منقار طويل أنيق يلازمه تقوس ممزوج بكبرياء، ذيل رشيق يختصر ألوان الأجنحة بنوع من التداخل اللطيف، زغب من ريش سروالى يغطى بطن الفخذين حتى الركبة، أصابع مفرودة فيها من الرقة ما يحول بينها وبين الاقتناص العنيف، ثم تاج صغير واسع وواضح بريشات متناغمة مع ألوان الجناحين والذيل، وهذا التاج الصغير الجميل متحرك يمكن نشره حتى يصبح شراعا، ويمكن طيه حتى يصبح ريشة واحدة، ولا تستطيع أن تتبين فى نشر التاج وطيه إلا الإحساس بالوداعة والرقة والقوة والسلام.

وعندما تهللت ملامح الثالث راضية، وانتهت أنامله من التحسس الذكى لتكوينات النموذج، أمر بأن تُقام فى النجع صلوات الشكر – مع منح القوم أجر عشرة أيام هبة لا ترد من الثالث العطوف، وأمر أن يُطلق النموذج فى الجو ليتنسم الحياة، وأن يُسجل فى المعجزات باسم الهدهد.

3-

وفى أقل من غمضة عين – بأمر ربى – كان الهدهد قد أحضر فاتنة الجنوب على سريرها إلى مجلس الثالث من آل مستجاب، قيل إنه – وما كاد يراها- حتى أصابه زيغ قد يودى به فى الضلال أو الفتنة، لم تكن فتنتها من هذا النوع الذى ألفناه أو حلمنا به أو حُكى لنا عنه، ولا من ذلك المنتشى ألوانا على أغلفة المجلات، أو المتحرك شبقا مصطنعا على شاشات السينما والتليفزيون، إنما – فاتنة الجنوب – تكوين فاخر يتضوع سحرا وعطرا وجاذبية ووهجا، حتى أن الثالث- من وقع الانجذاب الأول- هُرع إلى الصلاة يفتت بها فزعا واضطرابا، وأغرق فيها حتى استقرت جوانحه وهدأت خواطره، ليخرج بضيفته الفاتنة إلى شرفة القصر، فانفجرت فى الجماهير المندهشة زمجرة صارخة زلزلت أوكار الشياطين وقلاع النحل وقصور الشعراء وعرائن الأسود، أحس آل مستجاب لحظتها -والفاتنة تشير بذراعها المتألق – أن كفاحهم فى المليون عاما الماضية لم يذهب هدرا، وأن الله – جل وعلا- بارك فى جهدهم وعرقهم، وانحنت الفاتنة مرارا شاكرة للنجع هذا الاستقبال الفخيم الحميم، فبكى الثالث امتنانا حتى سالت دموعه من بين فواصل الشرفة، وكان الوقت مناسبا لأن يخطب الثالث فى أهله معترفا بصنيعهم الجميل الذى لا يوازيه صنيع، ومعتذرا – ومقدرا- لتلك السنوات الطويلة المرهقة التى أهلكوها فى صنع هذا الهدهد اللطيف الرشيق، حينئذ تطايرت الهداهد فى سماء النجع صانعة تشكيلات رائعة ومدهشة، وظلت عيون الجماهير مشدوهة مشدودة ما بين تشكيلات هداهد السماء وإشراقات الجمال فى الشرفة،حتى حطت الهداهد على السطوح والباحات والساريات وأفنان الشجر، ليظل آل مستجاب يمورون غناء وصياحا ولهوا حتى الصباح.

كان الثالث قد استعد لذاك اليوم الموعود، تطيب بعد أن شذب شعره وأزال الزائد منه، واغتسل بقارورة مسك مجلوب من الصين، واغتذى بقطعتين من صدور الأيائل وشريحة من بيت كلاوى فهد أمريكى، ودخن نرجيلته الذهبية المتسامية ببودرة الحشيش الفاخر، ثم شرب كأسين: واحدة من عتيق نبيذ كاهن رجيم، وأخرى من مشروب الجن الأحمر، بعدها أصدر أمره المتوقع بمنع الدخول عليه من الكافة والخاصة، تاركا شعبه المنتشى يلهو ويمرح ما استطاع اللهو والمرح.

وظل الثالث فى خلوته يوما أو يومين، ثلاثة أو خمسة، وآل مستجاب قد نفذوا بعيونهم المترصدة إلى كل ما يحدث – أو يتصورونه يحدث- فى القصر الكبير، وكلما طالت مدة الغياب ازدادوا إعجابا بفحولة الثالث التى تحدثت عنها الأساطير، لكنهم – وبعد اليوم العشرين- بدءوا يقلقون، خشية أن يكون أمر قد حدث للثالث العزيز، فاضطروا أن يلتفوا حول التعليمات والأوامر وأن يحاولوا التسلل إلى مخدع مستجاب، هذا المخدع الذى يضم عزيزهم مع الفاتنة الجميلة – التى هى غريبة بالتأكيد، ولم يهدئ من روعهم رؤيتهم لأفراد قلائل يتسللون خفية إلى القصر وأفراد ينسلّون خفية من القصر، ثم: وهم يحسون بوجل ناعم كالثعابين يندس فى جوانحهم، وهم يرون الهداهد – كلها تتحلق فى الجو، تتجمع وتلف وتدور فى السماء ملطخة بالأسود الغرابى ناحبة ناعبة، ثم وهم يرون الهداهد تلتاث وتتداخل وتتفاعل وتمتزج لتصبح هدهدا، هدهدا واحدا فقط، هدهدهم الجميل الحزين الذى حط على أعلى ساريات النجع منبئا عن أمر يجرى، أمر خطير يجرى داخل القصر.

وبعد أن استقرت عيونهم فى محاجرها أيقنوا أن ما يجرى فى داخل القصر أخطر من المرض، ومن الاغتيال، ومن الموت ، إنما هو هذا الذى لا يمكن أن يحدث دون أن يدركوه ويفهموه مهما حاول الذين حول الثالث أن يخفوه أو يطمروه، فآل مستجاب يعشقون أن يبدوا غير قادرين على تحليل الظواهر أو استشفاف البواطن، يحبون أن يبدوا غير فاهمين، أو غير متورطين فى الفهم، وفى الإدراك، مع أنهم يعرفون أى شئ ويدركون كل شئ، ولقد حدث مرارا أن استهان مستجابهم بهم وروى ما قد يناقض ما هم فاهمون حقيقته، خطب فيهم مستجاب ذات مرة بأن الأفاعى قد بخّت فى طبيخهم الذى أودى السم فيه بالعشرات، فى حين أنهم كانوا يعرفون أن الطبيخ تم توزيعه عليهم فاسدا من بقايا حفلة قديمة، وصارحهم ذات واقعة عن ابنه الذى دمره عفريت أثناء تجربته العلمية فى تحويل التين إلى تبر، والرمل إلى قمح، فى حين أن ابن مستجاب قد شجت رأسه يد الهون التى استعملتها فقيرة دفاعا عن مداهمته لها، وحكى لهم – فى اجتماع معروف- مستجاب الثانى واقعة تفسر غياب الأبقار بسبب هجوم الذئاب، وكانت الأبقار تباع فى أسواق النجوع المجاورة بأيدى أناس كسبوها فى ليلة قمار من مستجاب الثانى نفسه، ولذا فقد أصبح فى يقين آل مستجاب ألا يقيموا وزنا كبيرا للتفسيرات التى تُقدم لهم من مستجابهم – أو الذين حول مستجابهم، وعليهم أن يفهموا الأمور كما يحبون لا كما يحب مستجاب لهم، وبالتالى فإن القوم لم يتورعوا أن يقتحموا ببصيرتهم وقلوبهم وأفهامهم وعيونهم البيت الكبير، وأن يفتشوا كل أركان البيت الكبير، وأن يروا الثالث من آل مستجاب وهو مع الفاتنة فى المخدع، يثابر ويهابر ويستعد ويتنفس ويداعب ويتضاحك، ورأوه وهو يلهج ويتراقص ويتشمم ويقلّب ويقبّل فى فاتنة الجنوب، ورأوه وهو ينزعج ويضطرب ويحوقل ويبسمل ثم يعود للمحاولة، ورأوه وهو يستحلب وينفث ويدلك وينشّط ويتقافز ثم يعود للمحاولة، ثم رأوه وهو يحاول ويحاول ويعود للمحاولة، وكاد آل مستجاب يقعون فزعا وإعياء من فهم هذا الذى يجرى، فلقد عرفوا مستجابا أعرجا ومستجابا أعمى وخامسا ملتاثا وثانيا اخنف وتاسعا أخنف، لكنهم – أبدا لن يستطيعوا التصور- مجرد التصور- مستجابا فاقدا رجولته، ما كان هذا – أبدا- يليق بهم أو يليقون به، وتطابق ما فهموه مع حركة تلك السيارات السوداء التى تتسلل إلى فناء القصر، تحمل بعضها علامات هلال الأطباء وبعضها علامات ثعابين السحرة، وبعضها علامات سحالف المشعوذين، وبعضها علامات صقور العسكريين، ومع ذلك ظل القصر ساكنا مظلما لا يود أن يعترف بما يجرى فيه، حتى كان بعد ظهر يوم حارق عندما صدر بيان مستجابى مقتضب ينبههم أن ينبذوا الخلافات جانبا، وألا يسمعوا الوشاة والأعداء والحاقدين وذوى الضمير الميت، وأن المرحلة الآن التى يعيشونها أصبحت حساسة ومؤلمة وخطيرة، وأنه سوف يضع النقط فوق الحروف، لكنه الآن مشغول بتلبية دعوة عاجلة جاءته من مؤسسة عالمية مؤثرة، وأنه يثق – بعد الله – فيهم، والله أكبر والعزة للنجع.

4

وفى يوم سفره ظهر الثالث قويا كما عهدوه، رائع النظرة ومبتسما، وقف قليلا أمام الباب الكبير حيث شمل النجع بنظرة دقيقة حنون ونافذة، وتحرك فى جلال نحو هدهده الرابض فى صمت لكن الصمت لم يلبث أن تحطم تحت وقع انجذاب آل مستجاب الغامر، وانهمر الهتاف والتصفيق والدعاء الصادق حتى اغرورقت عيون السماء رافعة لافتات الولاء، وزغردت الشمس مستثيرة أرواح البراكين والمعابد وخبز الرحمة، وجاذبة حمى الفداء انصهارا شعبيا عذبا وساخنا وأصيلا، وتطايرت صحف اليوم ناشرة أجنحة المبايعة وتجديد المبايعة والإصرار على المبايعة أبد الدهر، وحتى عندما انطلق الهدهد إلى عنان السماء ظلت الآفاق المتحمسة ممتدة لا تود أن تتقلص، وظلت الملائكة تقود الشمامسة فى ترتيل حار مفعم بالشجن، واستمرت العناكب تدق الطبول مخترقة تلال الليل بمشاعل الصباح، إذ لم يستطع الناس أن يعودوا إلى منازلهم وإلى عيالهم وإلى مخادعهم إلا بعد أن أقسمت نجمة الصباح أن الثالث بخير ويستحق أن يزغردوا له.

وانطلق الهدهد بمستجاب إلى أصقاع بعيدة ، ذهب إلى أخر الغرب فاخترق دهاليز المستشفيات لينفرش الجسد العملاق على موائد الاستشاريين والمحللين مخترقا بأنابيب الاستقطار، وذهب إلى آخر الشرق ليخترق أحراش الاحتمالات وبرك المصحات ومستنقعات الاستشفاء بالوحل والفوسفور، ثم عرج إلى أعالى السحب ليرقد فى قاعات زيت الخروع وأبهاء حليل التماسيح، وغاص فى عمق الأرض ليتقلب فى طبقات بصل الخنزير وروائح ثوم تخليق الجينات ومدلكات البروستاتا، بعدها عاد الثالث مضمخا بأريج ربات اللذة وآلهة القدرة الطافحة، عاد إلى شعبه مهللا ناصعا ومتوردا، يتوكأ على عكازته والوهن يتضوع – من وجهه- جلالا، ومباشرة دخل إلى مخدعه ليندفع إلى فاتنة الجنوب، يثابر ويهابر ويصلى، ويحكى عن التعليمات ويتضاحك بالذكريات، ثم يثابر ويهابر ويصلى، ويستصرخ ويتوسل ويدهن ويتمتم، لا إله إلا الله، ثم ينزوى مستكينا فى ركن قصره الكبير.

وظل الشعب ينتظر ويأمل ويصفق، لا يريد أن يفصح عما يجيش فى صدره من أمور، فقد كان غياب الثالث فرصة لان يقلب آل مستجاب فى جسده، وأن يفترشوه – غائبا- بينهم، وأن يكتشفوا أن علاجه قد يكون فى نجعه وفى وطنه وبين قومه وبالتحديد من الناس الذين يحبونه حبا لا منازع فيه، ذلك أن دهورا مضت وآل مستجاب كارهون لجوء مستجاب إلى غير آل مستجاب، ألف مرة همسوا وقالوا ونصحوا لكن الدماغ ظلت – كالعادة- ناشفة، وها هى الدائرة تستدير لتصنع على أكتافهم حل المعضلة، وأن يخرجوا عن دورهم المرسوم المعهود كى يصنعوا بين يدى الثالث وسائل وقف الكارثة، فاجتمعوا وتكلموا وسهروا وكتبوا فى الجرائد والميكروفونات والشاشات والحوائط أن واجبهم عليهم أن يصارحوا مستجابهم بكل شئ، هى المرة الأولى التى يشارك فيها آل مستجاب فى مناقشة أمر يخص مستجابا، ليسقط هذا الاتفاق الراسخ غير المكتوب الذى يجعلهم دائما بمنأى عن كل ما يخص مستجاب وبيت مستجاب وعرش مستجاب، ذلك لأن الأمر فى هذه المرة اختلف، فلم تكن المعضلة متعلقة بحرب -يعلنها المستجاب فيُستشهد فيها النجع، ولا مرتبطة بتموين يلقيه إليهم، فيقفون طوابير فى الشوارع، ولا بمنحة دخول المدارس يتشممون وصول أمرها إلى المدير المالى فيتتبعونها إلى الصراف، ولا فى رئاسة تحرير جريدة فيستملحون المحرر الحالى على حساب محررها المنشال، إنما – هذه المرة- تخص الجهاز الذى ينتج عيالا يصبحون بعد ذلك أصحاب الأمر والنهى فيهم، وبعد أخذ وشد وجذب ، تقدم عقلاء النجع بالدواء الناجع إلى حبيبهم الثالث.

5

كان العلاج بسيطا كاستحلاب الأفيون، صادقا كنباح الكلاب، لائقا كارتداء جلابيب الأعياد، مفهوما كحساب الملائكة، عذبا كالنميمة، صافيا كرغبات الأطفال والمحبين والألهة، مرهقا كطلبات العجائز والأولياء الصالحين، ناشفا كفلق النخل، شاعريا كالمواثيق والمعاهدات وأوراق الورد، ناجعا كالأحجبة والتمائم، منسابا كاللبن السرسوب…

كان العلاج بسيطا، أن يتوكل الثالث من آل مستجاب ويذبح الهدهد الجميل الجذاب، وأن يحمص الجسد النحيل الرقيق على بلاطة فرن لطيف النار، وبعد التحميص بعشرين ساعة يصحنه ، نعم: يصحنه فى هون مطهر بزيت حبة البركة والخروع من قليل من الجلسرين، وأن يلف الجسد فى أبيات من الشعر القوى القديم، ثم بعد ذلك ، ينتظرون ليلة يكون جبريل أو أحد عتاة الملائكة – قد جمع مريديه بعد صلاة العشاء، حينئذ يمكن للثالث أن يذرو مسحوق الهدهد المطحون المصحون فى فراش الجميلة، وسوف ينفخ الله فى صورة الثالث بإذنه الواحد الأحد، ويعيد إليه قدرته الضامرة، ويغدق عليه بالفضل واللذة المشتهاة…

وقد نجح العلاج العبقرى المستجابى الأصيل نجاحا هائلا، فأغدق الثالث على القوم – فى حبور وسعادة – أيما إغداق، ومن يومها وكل نصف يوم – يتشمم المستجاب ما تثمره قرائح وقدرات أهله من هداهد، يصحنونها ويذرون بعضها باسمه ومعظمها يقدمونها إليه، فيركن إلى جناحه الفخيم المضمخ بروائح احتراق أجساد الهداهد، يمارس حقه ورغبته وأمنيته، وتتورم صفحات الكتب والمجلات بالمجد الذى حققه القوم فى شئون الهداهد، لتعود إليهم حياة الحبور والسعادة ، وتتضوع جموعهم بالأمنيات العذبة، يبزون باقى الأقوام فى الهمة والنشاط والصيد والذبح والتحميص والطحن، منجذبين إلى أعنة المجد وآفاق ملكوت الرضا، حيث لا يبقى إلا وجه ربك ذى الجلال، وزهرة وفرن وبقايا زيت خروع وهدهد وظلال، وعكازة تهش أطياف التاريخ والنمل والذنوب، وأصداء ليل مقبل وطويل.

فى مستجاب السابع.. نحن أمام شهريار عائلة مستجاب، المثقل بتاريخ حافل من الدم ورثه عن أجداده ، وخيانات متتالية ليس فقط من الزوجات لكن أيضا قتله لمن سبقه ليرتقى العرش.. يعرض مستجاب لهذا بطريقته المعتادة .. الحاجز البسيط بين الواقعى والخيالى، اللغة الساخرة التى ترمى إلى عكس ما تقول.. النهاية المفتوحة والتى تفقد شهريار عائلة مستجاب حتى القدرة على الفعل واتخاذ القرار .. ثم فى النهاية هذا الواقع المزرى الذى تعيشه ذرية مستجاب التى استشرت فيهم ملامح العبيد..

ماهر طلبه
24903_380450178678_3986392_n

مستجاب السابع

طوبى لمن وضع زهرة على قبر أو قصر أو صدر، ولمن ولد فى الشهر السابع أو الثانى عشر ولحلق يصبح حلقوما ولمن ذبح حصانه الوحيد كرما، طوبى لمن جثا استغفارا أو اشتهاء، ولمن حمل على الظهر صليبا ولمن اشعلت النار تحت ماء الحصى تضليلا لجوع عيالها، ولخشم يصبح خيشوما، ولزمن كانت الزوجة فيه تجمع أشلاء قرينها ليحيا، ولحق يفزع وجلا داخل شق الباطل، ولوطن يأكل ثرثرة الباطل، ولوطن يأكل ثرثرة السطوة، ولبلع يصبح بلعوما، طوبى لمن جعل أذنا من طين وأذنا من عجين حتى قطعت رأسه، ولشمس لا تزال تطلع شرقا ولنجم ثاقب فى يوم غائب، طوبى لهذه القصة التى لم تكن منشأة لمستجاب السابع لولا تلك الواقعة التى كشف عنها كاتب يعمل أبوه مؤلفا سينمائيا من أن السابع قتل السادس سرا وباع جثمانه لطلبة التشريح وأقام بالثمن سرادقا فخما ذا أضواء باهرة وميكروفونات ملعلعة بالذكر الحكيم كيدا للأعداء، وحفظا على مفاخر ال مستجاب لقديمها وحديثها ووقف على باب السرادق يتلقى خالص العزاء وهو افتراء على الرجل يصيب كبد الحقيقة بالتليف ويداهم القصة فى بؤرة التقائها مع ما ورد بعد ذلك من أمور وبالتالى قلبنا على الواقعة ماجورا

****

فالسابع من ال مستجاب كان يكره ثلاثة الدم والموسيقى واللبن الرائب، فالدم جاءه فى أعطاف تاريخ ملطخ فتك فيه أحد أجداده المبكرين بأخيه ومزق جسده إربا ووزعه على أركان النجع حتى قامت زوجته الملتاعة فجمعت الإرب من أكوام السباخ، والدم جاءه من إحدى جداته حينما بقرت بطن أحدهم ومضغت كبده تشفيا، والدم ورد إليه فى لفائف حبال مشانق مغموسة فى شق الخوف والشجاعة لإناس جاءوا صدفة فى عصر جده الثانى، أما الموسيقى فهى صوت الشيطان الجامح المشتعل طربا يتقافز فى عروق الشهوة، والذى تلبس جسد السادس فأحاله إلى ثور هائج يداهم النساء والأحجار والبقر، والموسيقى هى المس المزمجر فى أحشاء أخته الهاربة فى أثر عبد مأفون يمكنه أن يرقص الجبل حين يعزف على ربابته، أما اللبن الرائب فشاربه خائر فاتر، يمتلئ بطنه بالغازات وقلبه بالإستكانة وعقله بالخمول والوخم، حتى أن مسجاب الرابع – المغرم باللبن الرائب – أقام عرشه بجانب محل الأدب فى قصة تجدون أثرها فى مكان آخر، وكان من كثرة إدمانه الرائب: يستريب فى الناس والحقوق وتوالى أيام الإسبوع ويرتاب فى الألوان والأصدقاء والصحف والمجلات وأقوال السلف

****

غير ذلك كان مستجاب السابع، مولعا منذ فجر شبابه بثلاثة: العدل والصيد وأمر آخر لا نود أن نذكره هنا، إذ كان يداهمه بكاء ونشيج حين يأتيه نبأ تلميذ طرد من المدرسة لعدم تسديده المصاريف أو خبر امرأة لاقت عنتا من كاتب الطاحون ومراقب القواديس، شئ عن جار دخل عليه العيد دون هدوم جديدة، أو مستجابة ضاق بها الحال دون الغموس، أو جمل قوضت الأحمال ظهره المسن، أو صبية قطعوا الطريق بينها وبين أمها، أو غراب حيل بينه وبين عش أفراخه، أو قناة أسن ماؤها أو فسد عشبها، أو غيمة أتلفت الريح مطرها، أو ثرى أصابه ورم الإحتباس، فما كان السابع ينام كما ينام الناس، بل ظل يعس متلمسا ألم البيوت وضيق الخلق، حتى وهو فى غمار رحلات صيده لا يفتآ أن يرسل رجاله ويستقصى حال أهله، ودائما كان عقله ينسحب من لذة محاصرة الغزلان ليعود إلى البيوت متسلقا الأبواب والنوافذ ليطمئن، ودائما كان إحساسه الشهم يغادر ملاحقة الأسود وشباك السباع لينسل عائدا إلى مكامن الأطفال والأيتام والأرامل لترتاح جوانحه.

****

غير أن أمر السابع – وهو الآن بين أيديكم- لم يمض كما نأمل، ولم يعبر كما عبرت حكايات الأسلاف خلال عوائق الدهور، فبينما كان عائدا من جولة عس التقى به شيطان فى هيئة مزرية، ورمق السابع بضحكة فجة خشنة مثل ليف النخل، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومال السابع يروم طريقا آخر، لكن إبليس داوره وناوره حتى اضطر السابع محنقا أن يصرخ فيه: ماذا تريد يا عدو الله؟ فقال إبليس بعد أن عدل من هيئته المزرية وارتدى مظهرا فاخرا ووضع يده الأنيقة – فى ود – حول كتف مستجاب السابع: زوجتك تمنح جسدها لعبيدك، تدق الموسيقى – هكذا قال الشيطان – كل ليلة فى موطن شرفك حتى يتفجر اللبن الرائب من مكامنه دما.

حينئذ – ويالهول الدنيا – دارت الدنيا بالسابع حتى أن الصبح ارتدى أسمال الليل وأشعة الشمس البكر اللينة تكسرت إلى سيور غرابيل وانحلت عمامة السابع لتصبح أمعاء واصطخبت الرياح فى إهاب الجلد الإنسانى العادل، واستل السابع سيفه يشج به رأس إبليس، لكن الدنيا ظلت فيفاء ساكنة هامدة تلامسها من بعيد أشعة واهنة لشمس صباح لم يرد من قبل شيطانا .

****

مستجاب السابع – مثلى ومثلك – يتردد فى المباغتة عدلا وتوقيا للمزالق، وكم من طبول دقت على رأس – مثلى- فما اضطربنا تحاشيا لضحك الناس علينا، وعلى ذلك فقد عاد السابع العادل إلى بيته الكبير، وتعمد ألا ينظر إلى عبيده وصعد إلى مجلسه فتحاشى أن ينظر إلى زوجاته، أى منهن تستحق الآن أن يفصل رأسها الجميل عن جسدها الشرير، أى منهن تلك التى انغمست منذ ساعات فى برميل الخيانة اللزج، أنى لى أن استحضر إبليسا كى يزيد الكارثة وضوحا والمأساة تحديدا؟ فطلب مستجاب السابع المثلوم قليلا من ماء غير ساقع وابتلع به حبة عقار مهدئ فقام وصلى لله –عز وجل- ركعتى الوجل، ثم ازداد هدوءا فصلى ركعتى الخوف، ثم ركعتى الرحمه ورشف كوبا من لبن دافئ فاستكان أكثر، لكن ملامح عياله بدأت تتشكل قاسية فى ملامح عبيده، وبدأت ملامح عبيده تتسلل إلى تضاريس رؤوس وأعماق وأجساد ذريته، فى الأذن والقواطع والأصداغ واستدارات الذقون والتواءات الوجنات واستدارات الرقاب، جهنم تفتح الأبواب وتتلقى فحيح الريبة وأوار الرعب فعاد السابع إلى ركعتي صلاة لا يذكر لها اسما، ثم أعلن قبل ظهر ذلك اليوم قراره بالاستعداد خروجا آخر النهار فى رحلة صيد، فبدأ رجاله فى إعداد الركائب وتجهيز المؤن وسن النبال .

****

هى الرحلة الأولى التى يخرج فيها مستجاب السابع آخر النهار، لم يكن يستطيع – كما تعرف – الانتظار فى جهنم ليلة أخرى، وهى الرحلة الأولى التى لم يصطحب فيها واحدة من زوجاته، لم يكن يقدر – كما تعرف – على النظر إلى إحداهن دون أن تجتاحه النار، ودقت الطبول لينتشى النجع فرحا وتوديعا، وخرج الركب فى أكمل عدة وأبهى زينة وأعتى رجال، وفى المقدمة سار السابع مبتسما برغم كل الأعاصير واللهب والاضطرام، انتبه أيها المستجاب لكى لا تصبح أمثولة حمق مهما كان الإمتحان عسيرا فقال لنفسه: ها أنذا أدخل المشقة من باب الرحمة، سوف أترك للزوجات فرصة الإختلاء بالعبيد، وسأمثل بجسد كل من يشارك فى العبث بشرفى: فعلا أو مداراة أو خوفا أو إخفاء أو تسهيلا، وستصبح نساء ال مستجاب كلهن موعظة فى تاريخ النساء، و ستصبح عذارى ال مستجاب – كلهن – البعيدات والقريبات، المخطوبات والمنتظرات، العوانس والزاهدات، ثمنا لهذا الآفك، سوف يضع يده على الفعل الأثم إن تحقق، وعلى كل عذراء – بعد ذلك – أن تعد نفسها قربانا لمستجاب السابع: ينالها فى صهوة الليل، ويقتلها فى صدر الصباح، ويدفنها فى صهد الظهيرة، ويستعد لغيرها فى أول المساء

****

ظل ركب الصيد يسير فى الطريق المعهود، والرفاق يتجادلون ويتمازحون ويتضاحكون الا السابع المنكمش فى لباس الصيد والغم والكرب والإحتقان والإنتقام، حتى مر يوم ثم يومان، والركب يتمهل فى بقاع سبق للرجال أن نالوا فيها حظا جيدا فى الصيد، وحظوة طيبة فى المرح والإنتشاء، لكن السابع كان قد عزم على أن يتيح لنسائه امنيته فى تخييب وقيعة إبليس، وفى اليوم الثالث جاءت إشارته لنصب الخيام، وترك الرجال يتولون شأن الموقع، واستبدل حصانه المعروف للكافة بأخر وإدعى لأصحابه أنه سوف يقضى أمرا، واعتدل على الجواد مطلقا العنان للريح واللهب، ومال إلى طريق غير مطروق خشية أن تراه عين فيصل زوجاته خبر عودته قبل عودته، وكل الطرق – مهما طالت أو تعرجت – ستؤدى حتما إلى الحقيقة القابعة فى مكمن ال مستجاب زوجات وعبيدا.

****

فى أحقاب تالية – دون قطع لمجرى القصة – روى الشامتون والخباصون والخدم وكتبة الصحف والشعراء أنهم رأوا بأعينهم مستجاب السابع، فى البقاع النائية وراء الوادى، يبيع الفئوس والنعال والشراشر، ويرتق براذع الركائب ولجامات الحمير، ويشترى الجلود وذيول الخيول وليف النخل، ويتاجر فى المكانس والمنشات ومنافض رأس العبد، ويؤجر جواده لعربات كسح النفايات وينادى فى الأسواق على المراهم وقطرة العيون والششم وسفوف دود الأمعاء ويستحضر مساحيق الإثارة وخمائر اللبن الرائب، ويوضب مانشتات الصحف ويحرر المجلات ويلون الأغلفة، وينشد القصائد والرباعيات وأناشيد الدفاع عن الشرف التليد، ويمارس الحجامة فى رؤوس اليتامى حتى يصل الدم إلى الأعناق، ويمسح البلاط ويرص المداميك ويصلح المدافئ ويغسل الصحون ويسبك اللحوم، ويدق الطبول ويعزف الربابة ويرقص منتشيا فى ساحات الأعراس، ويفتح المندل ويقرأ الفنجان ويفسر الطالع للغرباء والمقهورين، ويمتطى الضفادع ويصارع الأرانب لراغبى التسلية والإنبساط، ويصلح السبورات والمقاعد والتليفزيونات والفيديوهات والأحذية وشئون النساء.

****

وهذا كله ليس صحيحا ولا يرد به إلا على خاطر حاقد أو ملتاث أو مريض، مع أن خبر مستجاب السابع يقف بنا عند هذه النقطة الحرجة إذ لا يزال أصحابه ينتظرونه بين آكام الشجر تمهيدا للإيقاع بغزال أونمر أو أرنب أو ثعلب ولا تزال زوجاته فى مستقرهن مع العبيد تنتظرن الرجل الذى غاب طويلا، فطوبى لمن تمهل قبل أن يقول، ولمن قال قبل أن يفعل، وطوبى لمن فعلها مرة دون أن يخشى، ولمن وضع زهرة على صدر أو قصر أو قبر، ولمن التقى بمستجاب السابع، ولمن ولد فى الشهر الثانى عشر ولذرية مستجاب التى استشرت فيهم ملامح العبيد .

قصة ( الذئب )

اللهم احمنا من الكاذب والمخادع وذى الصوت المنفر، واكشف لنا – يا رب– نوايا ذى البالين المداور المناور واجعله كاسفا وارحمنا يا رحمن من قولة آثمة تدمع العين وتبلبل الخاطر وتفرق بين العيال، وساعدنا يا كريم فى فهم حكاية سعيد الأسود الذى لم يكن أسود، والذى ظل الخمسة والعشرين عاما الأولى من عمره مبهجا مبتهجا، يغنى عابرا بالمأتم ويزعرد على فتحات المقابر، فيلطمه القوم حينا ويقرصون أذنه حينا، ثم يدعون عليه أن يفتك ببطنه ذئب فى قرية لم يشاهد أحد فيها ذئبا .

وشاءت الأقدار أن يشرخ سعيد الأسود مغرب المكان صارخا نادبا مستغيثا فأهاج صغار الماعز وأوكار الغربان، الذئب، الذئب، الذئب، وكانت كف محمود أبو على قد تشبثت فى كف الحاج عبد البر، ممتزجتين بدعوات المأذون توثيقا لمصاهرة توقف سيل المهاترات والمشاجرات والديون والقضايا، الذئب، الذئب، فاضطربت الكفان وأنشدتا، كذاب وابن كذاب سعيد الأسود الذى يقلد حكايات تلاميذ المدارس، الذئب، الذئب، فقام عملاق باعتراض طريقه ولطمه وأسقطه فى حزم على الدكة، وأعاد وكيلا العروسين كفيهما المضطربتين لكف المأذون، فمار فى الجو رصاص ومرح، الذئب، الذئب، كاذب وابن كاذب ليزداد الجو صخبا .

فريحة –أو فريجة – عادت فى اليوم التالى زائغة ناحبة تبحث فى المنحنيات والتواءات الجسور عن أثر لشاتها، وضحك القوم خابطين على أفخاذهم، واشتد الضحك جاذبا حكايات مماثلة عن مذمو السيرة اللذين فقدوا جمالا وحميرا وماعزا، وتطرق الحديث إلى جولات شهيرة لأجداد واجهوا عفاريت وقرودا وغيلانا ومردة، وقال الشاعر: ما يشرخ الليل إلا الخيل والبندق، والصح – كما يعلم الجميع – ما يشرخ الليل إلا الجبل والنخوة، وفى موال مهجور يظهر أيام المرح: العمدة ركب الحمار، طلع له ديب النهار، قال له أنا الديب يا فارس، شاور له على بطن الحمار، وهو موال يختل إذا ما عاد الديب ذئبا، وفى صباح مشمس اضطربت حمارة سمعان وعادت من الحقل مذعورة تتصادم فى طوب الأرض وتنهق فى السابلة بلا سمعان، واجتاح الغيظ محمد أبو صادق فهرع إلى بندقيته واندفع إلى المزارع، وبعدها بخمسة أيام اقتحمت جاموسة مجهولة البيوت وضرعها يشخب دما، ثم عادت فريحة تنقب مولولة عن ابن ابنتها وانعقدت الحكايات فوق المصاطب وتحت نور الكلوبات تصف الذئب بمنخاره الأحمر وعيونه الملتهبة ومخالبه الدامية وطلست عواجيز البيوت الكوات بالطين حتى عمّت الديار الظلمة، ورويت مساخر عن الجبن والشجاعة وانسياب المياه فى السراويل، وارتعب الناس من الصبح المبكر والمساء الغائم وانثناءات الجداول وانحناءات الأفق، وتدفقت الرؤى المؤكدة أن الذئب جاء مجروحا من البرارى البعيدة فى ليلة صقيع كادت تفتك به فيها جماعته الجائعة، وأن الذئب الهائم حول القرية لا يهاجم طاهرا أو ذا بأس أو يتيما أو تاجر توابل، يضنيه الحزن فيهيم ذابلا يتشمم الندى، وتخترمه الوحدة فينوح حمامة يداورها الأسى، ثم يجتاحه القلق فيضطرب، قطة تتمسح فى جذوع الاشجار، ويهده التجول فيمسى شاعرا يبغى ظلال القصائد، ثم يشويه الشجن فيستحيل قمرا يلهث بين الغيوم بعدها تتفجر فيه الذءوبة فيندفع وحشا يداهم رقاب الحملان وبطون البقر، وانكفأت القرية على رؤوس الرجال تتهمهم بالتخاذل والجبن والخور، وأخذت القرى المجاورة تطلق على مواليدها أسماء الديب ودياب نكاية وتشفيا، فاجتمع الرجال مرة فى الدوار الكبير، ومرتين عند العمدة ومرة فى السويقة، وبين كل مرة وأخرى نهش جحشين وخروفين وضاعت ماعز وبندقية وثلاثة كلاب، بعدها تكونت سرية من خيرة شباب العائلات مستعدة لغزو طوب الأرض، اجتاحت السرية المسلحة المقابر وأدغال القصب وسحارات الترع وشونات الحطب وأوكار البوم وظلال السحب وأصوات الجنادب وظلام الحفر وقواديس السواقى، وبين كل غزوة وغزوة يستريح المطاردون على المقاهى يأكلون ويحتسون ويتضاربون، ثم يجتمعون مرة أخرى لينسابوا حول القرية فى تصميم، وفاضت الترعة فى موعدها فلم ينتبه أحد لدورة الرى، ومات ذو نفوذ فى المدينة فلم يتسنى لهم المشاركة فى العزاء، وجاء يوم السوق فلم يحفلوا، واحتفلت القرى المجاورة بيوم الشيخ أبى هارون دون الاهتمام بغياب وفودهم، وتساقطت أكواز الذرة وسنابل القمح طالبة الجنى والجمع والحصد، وازداد الناس تكالبا على السلاح والمواويل وحكايات الأجداد المنتصرين على كل أنواع الوحوش، وانطلقت النكات والأضاحيك والنوادر تخفف عن الجمع المسلح الوطأة، ثم لم تلبث الأخبار السعيدة أن بدأت تصل: فرج القمص وجد جثة الذئب متعفنة فى صندوق عظام، عابدين القوصى سحب عظام الذئب بالدلو من البئر الغربى، عبد العزيز أبو خليل وجد جثته مطمورة ممصوصة ناشفة أثناء نقل التبن، جاد أبو جيد أغلق على الذئب عيون قمينة الطوب وأشعل فيه النار وشم الجميع الرائحة، وجلس الرجال المسلحون يجترون نهايات الذئب التى جاءت متوافقة مع توقف الافتراس .

كان ذلك اليوم رائقا وجميلا ، جلس بعض الرجال على مقاعد المقهى، وآخرون على الأرض، وبين الأيدى أكواب الشاى والبنادق والإرهاق والحكايات وبوادر الارتياح، ونسيم آخر النهار يعابث الغصون وذوائب العمائم وأطراف الشوارب وأكمام الجلابيب، والشارع الواسع قادم من جوف الخلاء يخترق القرية مارا بالمقهى وممتدا إلى أخرها، وبدا الأمر انكسارا لنور وظلال، حينما، من بداية الشارع، جاء متشكلا يسير فى هدوء، الذئب، مرفوع الرأس يتشمم الهواء بأنفه الحمراء، أشعث مغبر كأنه قادم من جوف قبر قديم، الذئب والعيون كل العيون قداتجهت إليه، إليها، ليس ذئبا ذكرا، ذئبة قانية العيون تتقافز بين سيقانها أربعة جراء تتعابث فى أثدائها المأرجحة المتضخمة بطول البطن، ظلت تسير فى الشارع، والحركة قد هدأت إلا من صوت تلاطم الأثداء فى رؤوس الجراء، وتوقفت برهة أمام الرجال، أمعنت الذئبة الضخمة بعيونها الضيقة النارية فى الناس، فى الأكواب والبنادق والعمائم والشوارب، ظلت واقفة كأنها تتيح لهم فرصة أن يروها جيدا ثم تحركت من جديد ليبتعد عنها جراؤها ويعودوا فيلهوامتقافزين، ظلت تسير حتى اختفت فى نهاية الشارع الطويل، ذلك الذى قدم منه سعيد الأسود، والذى ليس أسود، صارخا، مرتعبا، الذئب الذئب فامتدت الأيدى واهالوا على رأسه التراب ولطموه على وجهه وقرصوا أذنيه ثم دعوا عليه بأن يفتك ببطنه ضبع فى قرية لم يشاهد فيها أحد ضبع.

نشرت فى جريدة الأهالى
قراءة في قصة الذئب لماهر طلبة

كعادة عالم محمد مستجاب حيث يختلط الحلم والاسطورة بالواقعية الساخرة .. نجد انفسنا فى قصته الذئب نعيش هذه التركيبة الفريدة التى تميز ادب محمد مستجاب.. فقرية محمد مستجاب هى القرية بكل مفرداتها.. المقابر، البيوت ، عبيط القرية والناس فى تعاملاتهم العادية .. الحقول والذرة ، النهر وقمائن الطوب، الحمار والجاموسة وحيوانات القرية .. الشيخ والمولد …. وغيرها.. ووسط كل هذه المفردات الواقعية يظهر الذئب لينقلنا الى عالم مختلف..حيث وضعنا محمد مستجاب امام حالات تتلبس الذئب (يضنيه الحزن فيهيم ذابلا يتشمم الندى، وتخترمه الوحدة فينوح حمامة يداورها الأسى، ثم يجتاحه القلق فيضطرب، قطة تتمسح فى جذوع الاشجار…… ) وحيث الحوادث الغير متوقعة والغير عادية (نهش جحشين وخروفين وضاعت ماعز وبندقية وثلاثة كلاب) فما دخل ضياع بندقية بوجود الذئب ، لكنه محمد مستجاب وعالمه الساخر.. لغة بسيطة لكنها ممتلئة بالمعانى والدلالات.. ونهاية مفتوحة تخبرنا بما هو قادم من شر جديد .

السيرة الذاتية

ولد محمد مستجاب عام1938في مركزديروطبمحافظةأسيوط،، توقف دراسيا عند مستوى شهادة الثانوية. ثم التحق بمعهد الفنون الجميلة ولكن لم يكمل دراسته بالمعهد. عمل فيمجمع اللغة العربيةوأحيل إلى التقاعد بعد بلوغه سن الستين عام1998.، توفي يوم السادس والعشرين من يونيو2005معن 67 عاما

اعماله

1- نشر أول قصة قصيرة وكانت بعنوان “الوصية الحادية عشرة” فيمجلة الهلالفي أغسطس1969،

2- صدرت روايته الأولى “من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ” عام1983التي حصل عنها علىجائزة الدولة التشجيعيةعام1984وترجمت إلى أكثر من لغة.

3- “ديروط الشريف” عام1984. مجموعة قصصية .

4- “القصص الأخرى” عام1995

5- “قصص قصيرة” عام1999،

6- “قيام وانهيار آل مستجاب” عام 1999

7- “الحزن يميل للممازحة” عام1998

8- “إنه الرابع من آل مستجاب” عام2002

9- “اللهو الخفي” التي صدرت قبل شهرين من وفاته.

10- حولت إحدى قصصه إلى فيلم سينمائي عنوانه “الفاس في الراس” وتم عرضه في 27 ديسمبر1992.

له كتابات صحفية ثابته في عدد من المجلات والجرائد العربية مجلة العربيالكويتية، جريدةأخبار الأدب، الأسبوع المصرية، الشرق الأوسط، سيدتي، المصور .. وقد جمع هذه المقالات في كتب عدة منها “حرق الدم“، و“زهر الفول“، و“أبو رجل مسلوخة“، و“أمير الانتقام الحديث“، و“بعض الونس“، و“الحزينة تفرح“.


أعلى