صابرين فرعون - في طريقي إليّ..

-1-
في طريقي إليّ
عواصف كثيرةٌ تمر
هدوءٌ قليلٌ يمر
أنهارٌ تبخرت،
ملحٌ رفع ضغط أحبائي
نسج دمي ونقش اسمي على عتبة البيت
ومازلت أُخبئ أجمل فساتيني
لأنصافٍ لم تكتمل،
لدمعةٍ تلم آلاف الطعنات بالباب،
لحياةٍ لن تنفيني للموت آلاف المرات،
لقمرٍ يروض اندثاري بين سنابل الحقل
ينهر وجومي، يناظر وجهه في مراياي
يمطرني غيمةً من رجولةٍ أغدقتها الطفولة عمراً،
لطبخةٍ لشخصين ثالثهما يطبع قبلاً من عناقيد الزهر
لمواعيدَ مع الفرح الذي اشترى حذاءً
فتح فاه في سباحةٍ
ضد التيارات المائية والكهربائية والهوائية..
في هذا الدرس أفني شبابي
يشيخ وجهي، ويشيب رأسي
وصبري أستمده من قول المصطفى-عليه السلام-
"حتى يُظهره الله، أو أهلك دونه"...
-2-
في طريقي إليَّ
كلامٌ يمضي إلى محراب الصمت
شهيٌ كحريةٍ منتظرةٍ
بليغٌ كسمفونيةٍ أجهضت لحنها
حادٌ كسكينٍ مرتْ على الفكرة تُقلب لمعانها على ماءٍ زُلال
واثقٌ كامرأةٍ قلبتْ طاولة الخدعة على سجانيها..
ارتدت الجنابة ثياب الحرابي وتلونت في حدائقي
استبسلت أسودٌ على بوابات كلمي
اجتمعت الزمجرة والنهيق والنقيق والضباح والنهيم
وقد ظنوا ظنونهم وشككوا
في كل الحنين والنزيب الذي أحاطني بالصبر
وحفيف ثوبي المُعلَق على مشجبه
ينتظر عروساً أشاحت بوجهها عن عرس الغابة
في عروقها بلادٌ ولم تكن بلقيس..
ملء الفم كانت اتهاماتهم
وعائشة بريئةٌ من وزرهم تصمتُ
والحقيقة تتفجر ينابيعها في النهاية
موزونةً بموازين القَدر
وجثتي تذهب إلى حتفها
مهرولةً لترقد في كفن الحياة
امرأةً بثوبها الأبيض
تنام...
-3
في طريقي إليَّ
أصفع أبواباً أمامي
أركل بعض الأحلام خارج سجني
أُهربها من الضجيج الذي يأكل رأسي
فلا ترتبك في سيرها
بين القذائف التي حطت في حُشاشتي..
أنتبه لشرطي المرور
وما أكثرهم على الكرة الأرضية!!
يُوقفني يتفقد رخصة قيادتي
يُمعن النظر فيّ، يتفحصني
ومايزال حذائي مقاسه أكبر من قدميّ
يُوقظني صوته
من زحمة الشفاه التي تهرول بالحديث
تُسابق موتي
يؤكد لي أنه إجراءٌ روتيني، لسلامتي!
تنتشر في الطرق
نباتات البيتونيا والجزانيا والعنبر الكشميري،
باعة الورود في كل مكانٍ
ليس يوم الحُب، وليس يوم الأم،
هل ساد السِلم أخيراً شعوبنا؟!
الكوكب يدور
اختفى الحنون واللوز الأخضر
الذئاب تُكشر عن أنيابها المُصفَرَّة
بئر "حيبا" جف قبل أن تصل شربةٌ منه جوفي
أبوابٌ خلفي تقذف بي لدوامةٍ لا تنتهي
تزمجر، تدور، تتكاثر
تنطفئ أخيراً
"قدَّر الله وما شاء فعل"...
-4-
في طريقي إليَّ
يهتدي الألم إليَّ زؤاما
يُهدى لي في جوريةٍ تلون أنهاري دما
خيانات في حقائب تلاميذٍ كسالى
اعتادوا تعليق الصلاة في المشانق بعلامات فارقة
أغمض عينيَّ فلا يتوقف قلبي عن رؤاه
يشتاق أن أكون أناه
أنا الجثة التي هربت من سلال الحقائق
لا أصيد ولا يصطادني الضوء المختبئ في تلابيب المجاز
أنا المرأة التي نامت في حنايا المعزوفة
أنا الأنثى المنسية بباب الكلام
أنا السنابل الذهبية التي حصدوها بمناجل الموت
خلعتُ صبري وغرقتُ في غزل الصوف
أُطعم أحلامي دمعاً خاشعاً وأمنيةً
عندما جاءني مخاضها
أشحتُ وجهي ميسرةً
أعد الأوطان خلف شمسٍ تغيب
لا خارطة ترتق جراحي
لا بوصلة تشير لمرافئ تحتضن أطفالي
لا زوايا مستقيمة لدروبي
لي عروبتي أكلتِ الندوب وجهها
وهيأت لي أكفاني
شجرة زقومٍ وشيطان...
-5-
في طريقي إليَّ
البلاتين الذي يهددني به الطبيب كلما أجهدتُ ذراعي
الكرة التي يركلها الأطفال في زقاق الحي
الرجل الذي كان يلقي بشتائمه الصفراء على المارة
الألوان التي خبأها الحالمون للغد
الغصن الذي خجل من عريه وانكسر
كلها كوابيس تخطف من الوقت لمعان الذهب..
قلبي مُهددٌ بالتصدع والانهيار وبندقية العسكر
كرياتي الحمراء أفلست من الهيموجلوبين
وأنا.. أنا..
كلما تقعر الخطباء على منابر العلم والثقافة والدين
أخيط شفاهي، أكمم فمي
أمتنع عن غسلهم ببصقةٍ
أكتب في يومياتي بخطٍ مُحدَّبٍ:
لن ينجب العالم.. بطيخاً أخضر
أرغفة الخبز ما عادت همَّ الجياع والمساكين
الحائط الذي مشينا بجانبه عمراً
شيدوا مكانه مطاعم الوجبات السريعة
كروشهم متخمةٌ، جيوبهم ممتلئةٌ
وأنا.. أنا..
أُجدف في مستنقعٍ جافٍ
أطهو الحجارة في حساء "الماء والملح"
أقرع باب الغياب
أنادي على أطفالي:
قد حان موعد الغداء..
-6-
في طريقي إليَّ
يُنكر الطريق أنه لي ولا أنكر أني خطوته
أجبل من الحناء عرس طفلتي وأبتلع دمع الحريق
أصمُّ أذنيَّ ولا أرى معي إلا ظلي
اليد الواحدة تخون
كلهم
أطعموا المنجنيق كبد الحقيقة
أرخوا آذانهم للعرافات
نذروا أنفسهم لأحقاد دفينة
في البحر رموني
بعضي منهم
وكلي نصيل الحجر وصليل السلاح
ضربٌ بضربٍ والناتج مناجل تحصدني
فساتين دي بوفوار الحربية مُشجَرةٌ ومُثمرةٌ
الكذبة بنصف وجهٍ اختبأت في الأهداب
"التضحيات لا تعود مؤلمةً حين تغدو وراءنا"
وحده القلب ترتعد فروضه
إن توزع طفله على غرفٍ أربع وبلغ الفطام
تُخفق نبضاته عن عصر غيمة الكلام
وحده يمشي دون ظلٍ
يرتب متكأه.. يناوله مناماته،
يحرس أحلامه.. يشذب آلامه،
وحدي أنا دوامة الموت
أشتهي أن أخلع قلبي وأخلع أبوابه
يجتهد في لطمي كلما عاندته
يدي لا تصل النافذة
أختنق ويختنق رأسي المُعلَّق في سقفه
أتوكأ على صدر المدينة المحشور في ثوبٍ ملتزمٍ
أتجرع علقم الصبر
أغافل كلاب الزنزانة التي حفظت عاداتي اليومية
أصلي ركعتيّ شكرٍ لله
أفر مني وأترك جسدي يتبعثر ليفنى
أكتب صك حريتي
عيناي الحرة تناظر جسدي الراقد في كفنه
تودعه بدعوةٍ وفيةٍ ومخلصة:
"لله ما أعطى ولله ما أخذ"...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى