عبدالزهرة زكي - السبعينيات مرةً أخرى، يا صديقي؟

إذا كنت متأكدا من مدى جدية بعض من الأصدقاء الشعراء في إخلاصهم للشعر، فإني غير متأكد تماما من مدى أهمية استئناف خوضهم الآن في القيمة الشعرية لما يسمى بالسبعينيات والثمانينيات وقبلها الستينيات وبعدها التسعينيات وأجيالها.
قد يفضل كثير من الشعراء التصنيفات الجماعية التي تسمح بتأشير ظواهر واتجاهات، غير أن هذه التصنيفات تذيب، بشكل غير مقصود، ربما الكثير من السمات الفارقة التي هي جوهر عمل الشاعر في الشعر، مع أن هذه السمات لا تشكل أهمية تُذكر في تاريخ وعمل شعراء كثيرين ممن يكتفون بشرف المشاركة الجماعية في إنتاج الشعر والتمتع بامتيازات هذا الإنتاج.إن ندرة من الشعراء هي التي تُعنى بالطبيعة الشخصية لعمل الشاعر، فيما تندرج آلاف التجارب في إطار الظواهر، والعيش شعريا على المعتاد والمألوف تفاديا لخطر الظهور الفردي الذي لا يغري الأشخاص الاجتماعيين.لكن تاريخ الشعر يبقى يحركه الأفراد، وبشكل أدق النصوص الفريدة التي تغيِّر وتحوّل وليس الجماعات.
وإذا تجاوزنا الطبيعة الجماعية لعمل جماعات عرفتها الثقافة العربية مطالع القرن العشرين وأواسطه، كأبوللو والديوان، التي كانت تلتئم على مشاريع ومجلات وإصدارات ومفاهيم مشتركة،فأن الجهود الشحيحة في الترجمة بعد ذلك سمحت في الثقافة العربية بتكريس تصورات عن أجيال وجماعات أوروبية جرى الحديث عنها بكثافة في العقود الأخيرة للقرن العشرين، وكان لهيمنة التفكير الحزبي الجماعي الإيديولوجي في الثقافة والمجتمع العربيين أبان تلك العقود هو الدافع وراء تنظيم اختيارات وموجهات المترجمين والناشرين العرب.كانت المصادر التي تعرِّف بالجهود الفردية ونتائجها لدى شعراء الغرب شحيحة، وإن توفرت فهي في حدود التعريف الذي يفتقر إلى العمق والقيمة اللازمين لمعرفة فردانية الشاعر وعمله في الشعر.كانت الثقافة والمجتمع يحتاجان لمثل تلك النقول التي تتحدث عن جماعات وأجيال، وكان من الطبيعي بعد هذا أن يجري التشبه، ثقافيا وشعريا، بتلك المنقولات، تأميناً لمتطلبات خلق الظواهر الجماعية التي نستعيض بها عن العشيرة والطائفة والملة والحزب أو نخلق بها بدائل ظلية لتلك التكوينات.كانت الفردانية والطبيعة الشخصية أمراضا في المنظور السياسي الثقافي العربي، وكان تحاشيها من مستلزمات القبول الواعي أو غير الواعي باشتراطات ذلك المنظور الذي هيمن عقودا.ولنتذكر هنا بأمانة أنه حتى الأشخاص، من كتّاب وشعراء وفنانين، ممن كانوا في عقود سابقة على العقد السبعيني، مثلا، يميلون إلى نزعات فردية خارجة على السياقات الجماعية والعمل الجماعي الإبداعي أخذوا في عقد السبعينيات بالتخفف من تلك النزعات مقابل اكتساب هوية جماعية تسمح بتصنيفهم على أنهم من جماعة ما أو في الأقل قريبون منها، وهذا ما انعكس بدوره حتى على طبيعة التأليف والكتابة الأدبية التي تحولت من طبيعة تجريبية ذات صفة، بصيغة ما، شخصية إلى المشاركة في إنتاج أدب ذي طبيعة (مقبولة) تؤمن الإندراج في سياق عام مطلوب ومقبول في النظام الثقافي السائد آنذاك.. ولعل تجارب أكثر من مثقف، وقتها، تعبر بدقة عن هذه الخلاصة السريعة التي قد تسمح ظروف هذه المقالة، بعد أسطر، بالإشارة إلى جانب منها، أي من هذه التحولات.
شخصيا اعتقد أن الظرف لم يحن بعد، بما يكفي!!، للحديث مثلا عن دوافع تكوّن ما يسمى بجيل السبعينيات، ما زلنا نفتقر إلى الحرية التي تكفي للحديث عن المصادر والمراجع التي أسهمت في تخليقه..وبالافتقاد إلى مثل هذه الحرية لن يكون ممكنا تصحيح أخطاء أو تصويب تصورات..وهذه الأخطاء ما زالت سارية النفوذ والفاعلية في إطلاق الأحكام والتصنيفات!!
اذا كان المقصود بالسبعينيات هو غير الحقبة العقدية الزمنية الجامعة حصرا، وانما يتعداها إلى مظاهر فنية، فكيف يمكن الجمع بين شاعر ابتدأ حياته الشعرية شاعر قصيدة حرة ( متخلية عن الوزن والقافية وليست قصيدة نثر أو تفعيلة) مثل عقيل علي بشاعر تفعيلة، سبعينيا، مثل خزعل الماجدي أو شاكر لعيبي؟ وإذا كانت السبعينية هي ظواهر فكر شعري فما الذي يجمع بين هاشم شفيق وفاروق يوسف؟ إما اذا كانت تعبيرا عن فكر إيديولوجي أو سواه فالفوارق أكبر من الجوامع لدى الكثيرين..لكن اذا كانت الحقبة والتصادف زمنيا في الظهور هي ما يجمع السبعينيين فان المشكلة ستكون أكثر تعقيدا وستمتد الخارطة إلى مساحات أخرى أكبر وأشمل إلى الحد الذي تنسف فيه فكرة الجيل بالأساس، فكرته كما يبشر بها المبشرون.
لم تكن السبعينيات عقد السبعينيين ( وأستخدم التسمية هنا من السياق وبالإستعارة من قاموس درج عليه التصنيف النقدي).فالبدايات المألوفة والتقليدية التي نُشِرت في هذا العقد للشعراء السبعينيين لا تسمح بالوثوق من أن السبعينيات كانت عقد السبعينيين.ولعل النضج المتأخر لهؤلاء الشعراء الذي عبّرت عنه نصوص فريدة للسبعينيين في عقدين تاليين، الثمانينيات والتسعينيات، هو الآخر يؤكد ذلك الإطلاق الذي أذهب إليه.
في الشعر العراقي، كانت السبعينيات هي عقد ثلاثة شعراء بامتياز خاص، ربما هم أيضا تأخر نضجهم، وهذه ظاهرة طبيعية في الثقافة العربية وليست مثلباً.لقد كان سعدي يوسف، عبر “الأخضر بن يوسف ومشاغله” و”الليالي كلها” و” تحت جدارية فائق حسن” إلى جنب حسب الشيخ جعفر، عبر ” الطائر الخشبي” و” زيارة السيدة السومرية” ومعهم عبد الوهاب البياتي، عبر” قصائد حب على بوابات العالم السبع” و” قمر شيراز”..كان الثلاثة يحيون ربيعهم الشعري، لتبقى ثلاثة أو أربعة من هذه المؤلفات التي نشروها كلها، بعد أن ألفوا معظمها، في السبعينيات، أعمالا جذرية في تاريخ الشعر العراقي والعربي بشكل عام.أعمالا استدرجت إلى ظلالها الكثيفة كثيرين من شبان السبعينيات وغير شبانها.
في الجانب الآخر من سنوات السبعينيات تخلى فاضل العزاوي عن مغامرته التجريبية الستينية، فأزاح تجريب ” أسفار” بـ” الشجرة الشرقية”، مجموعته الشعرية المنضبطة، وزنا ولغةً ومعانيَ شعرية، متخليا عما كان قد فعله بالمجموعة السابقة” أسفار”، التي يبرزها مؤرخو الأدب بوصفها المثال في التجريبية الستينية، وليس في هذا التصور حكم قيمة على مفاضلة أهمية أي من العملين على الآخر.وفي هذا الجانب أيضا تحرر ستيني آخر، هو صادق الصائغ، من نزعة التجريب ومما كان قد عمله في الستينيات، وذلك لصالح الإنصراف لكتابة نصوص ذات نفس غنائي ثوري.فيما شهدت السبعينيات نموا طبيعيا هادئا لتجارب ستينيين آخرين، فوزي كريم وسامي مهدي وعبد الرحمن طهمازي وياسين طه حافظ وحميد سعيد مثلا وليس حصرا.
لكن السبعينيات وفي مآل سنواتها الأخيرة عبرت عن نزوع إحيائي مفاجئ أعاد (الفرصة) إلى قصيدة العمود والى أغراضها التقليدية المعروفة،وذلك ما تكرس عبر تخلي الشاعرين شفيق الكمالي وعبد الرزاق عبد الواحد عن شعر التفعيلة وتكريس اهتمام خاص لتلك القصيدة العمودية التي استبدت، بالتالي، في الثمانينيات الرسمية، تاركة هامشا رماديا لشعر التفعيلة وآخر مريبا مقصيا لقصيدة النثر ( الشعر الحر بتعبير أدق).
لم أكن أقصد سردا تاريخيا شعريا.. كنت أريد التأكيد على أن فاعلية السبعينيات الشعرية لم تكن مفاتيحها بأيدي الشعراء السبعينيين..وبالتالي فإن هذه التسمية التي يريد الكثير من الأصدقاء الشعراء الإحتفاظ بها لا تتعدى في فحواها الإشارة إلى مناسبة الظهور والبدايات، وحين نعتمد هذا المعيار كهوية جامعة لعدد من الشعراء، سنقع، وقد وقع الجميع فعلا، في مشكلات كثيرة من أهمهما نسيان شعراء وتذكر آخرين..لنتذكر مثلا إن أول مجموعة شعرية لشاعر سبعيني كانت لكاظم جهاد” يجيئون..أبصرهم”، ولكن كاظم لم يذكره كثيرون على انه سبعيني، لنتذكر أن ثاني أو ثالث مجموعة كانت” تفاصيل” لأديب كمال الدين، ربما بعد أو بالتزامن مع ” أصابع الحجر” لشاكر لعيبي، لنتذكر سبعينيا ناشطا في مجالس السبعينيات ودوائرها هو الصديق الراحل عدنان العيسى، من يتذكره؟، لنتذكر شاعرا آخر مثل علي عيدان عبد الله الذي اختار التخلي عن الأوزان مبكرا واصدر ديوانا مبكرا في السبعينيات ولم يدرجه جميع المتحدثين عن السبعينيين على أنه سبعيني، والقائمة تطول..
المفصل الأهم الذي يوحد السبعينيين، كما يرون، هو تكريس قصيدة النثر ( والكثير مما يكتب عربيا على أنه قصيدة نثر لا صلة له بقصيدة النثر كما هي عليه في مظانها الأوربية، وانما هو شعر حر، غير شعر التفعيلة الموزون الذي جرى تسويقه على أنه الشعر الحر). ولكن هذه الدعوى ستصطدم بجهد ستينيين نثريين كثر، سيظل في المقدمة منهم سركون بولص..فيما يصر (جيل تالٍ، الثمانينيون) على أن السبعينيين شاركوهم متعة اكتشاف تلك القصيدة.

لقد أضاع هذا الإنهمام بالهوية الجيلية على كثير من شعراء السبعينيات فرصة الاعتناء بالصفة الشخصية، فرصة تعميق النظر إلى الداخل، إلى الذات..وكان بين هؤلاء الكثيرين مَن كان قد توفر فعلا على انجاز تجارب مهمة في تاريخ الشعر العراقي، وبما سيغنيه عن تلك الهوية التي ستعبر، في أحسن حالات نجاحها، عن فاعلية ثقافية اجتماعية أكثر من تعبيرها عن قيمة شعرية.إن ما يهمنا الآن من الشعر الذي سُمِّي ستينيا أو سبعينيا هو نماذجه الكبرى التي قد تعود إلى شعراء لم يُمنَحوا شرف هوية الجيل..فيما ستغرينا النصوص المهمة التي أنجزها الشعراء من منظِّري الأجيال أكثر من جهدهم المهدور لدواعٍ تاريخية أو سواها في الكتابة عن جيل قد تجمعه صلات قربى كثيرة غير صلة الشعر النافرة.
إن الاصطفاف في جماعة هو وقوف مقصود أو غير مقصود ضد جماعة أو جماعات أخرى..ومثل هذا السلوك القائم على التكاره والاحتراب سيبدو غريبا على جبلة الشعر وطبيعة العمل فيه، انه مما انتقل إلى علاقات الشعر من أنظمة علاقات أخرى:سياسية أو اجتماعية أو سواها.الشعر العظيم اندماج بشعر عظيم سابق أو تال، لا فرق، بينما التجارب الضحلة وحدها التي تتنازع على فرص الشرعية والإعتراف والقبول بها.
الآن وفي هذا الفضاء المتاح، (أو الإضطراري، لا فرق) من الحرية والنضج والفردانية للشاعر، لا أرى مسوغا لإحياء اهتمام عفت عليه الحياة والثقافة والشعر..وأرى أن ظهورا متوقعا لمؤسسات مدنية ونوادٍ، وربما أماكن تجمع الكترونية سيلغي نهائيا تلك التصنيفات الزمنية العقدية التي حالت دون دراسة وتأمل الشعر العراقي على أنه تجارب متصلة ومنقطعة خارج السياق الزمني، تأمل يسمح فحص علاقة أو انقطاع شاعر ظهر في التسعينيات مع سلف له كان قد ظهر في الأربعينيات أو الخمسينيات، وهكذا، مما يسمح بتعقب دورة الشعر وتغيره أو ثباته.
يحتاج مثل هذا النشاط إلى فاعلية نقدية تتحرر من كسل الإتكاء على تصنيفات مسبقة وجاهزة، كالتصنيف الجيلي أو الوزني( شعراء عمود، تفعيلة، لا وزن، نثر)، كما يحتاج قبل هذا إلى شعراء متحررين من عقدة الخوف من الظهور الشخصي وبما يضطرهم إلى الإحتماء بجماعة عمرية أو فنية أو إيديولوجية أو أي تسمية..


أعلى