د. سليمة مسعودي - العزلة مرايانا التي عثرنا عليها بعد طول فقد

إنها العزلة فن مواجهة الذات في مرآتها..
ليس سهلا أبدا أن نعود إلى ذواتنا بعد طول غياب.. هذا العالم الممتد.. و على امتداده صرنا نخشى الغرق فيه.. كنا نحتمي منا بالجماعة.. و نخاف أن نفتح صندوق باندورا أو هذا الخفي الذي يسكننا.. و الذي كنا نخشاه.. العزلة مرآة مواجهة الذات.. حيث لا مفر من ذلك.. و الذات ليست وجها واحدا نخشاه و نهرب منه.. ثم نتشجع فنتأمله لبعض الوقت حتى نألفه و نمله.. إنها عالم من الوجوه و الأفكار و التجليات، عالم الآخرين فينا و عالمنا فيهم و عالم ما يحيطنا من أشياء فينا و ما نحن منه و فيه.. و عالم المفهومات التي تدير حيواتنا بإرادة منا أو بلا إرادة ..
أرأيت..؟!! الذات عالم مكتظ و واسع و معقد و مخيف... و الخطوة الأولى للدخول إليه هي أشد الخطوات صعوبة و أكثرها ترددا و ارتباكا.. لذاك كنا نهرع لنحتمي منه بعالم الجماعة و نواكب كل الأعمال و التطورات و الموضات الجماعية دون أن ندرس مواكبتنا لها بطريقة عقلانية منطقية.. ما الجدوى وراء قذف الكرة من لاعب إلى آخر مثلا..؟! ما الجدوى وراء اتباع آخر الموضات في فن العطور مثلا.. مع أن من العطور الكلاسيكية ما هو أكثر نفاذية و طيبة و أنوثة أو ذكورة و جمالا و جاذبية..؟! إنه الاندغام في قلب الجماعي و الخضوع التام له.. لننسى.. ننسى الكامن فينا و الذي نخشاه.. لما يفتح من أسئلة.. كسؤال الزمن بما يثيره من حس بالمحدودية و ضيق وقت الحياة و خاتمتها الموت ، و سؤال العجز عن إدارة الكثير من المواقف التذوتية كقناعات نرفضها ذاتيا، لكننا نؤمن بها و نتبناها وفق عقلية الجماعة الدينية أو الإيديولوجية.. و سؤال المعنى الذي يعني إما الخواء أو الامتلاء....
إننا ننغمس في الحياة الجماعية عن سبق إصرار منا.. و الجماعة عادة ما تثب نحو آخر ما يمكن أن تحصل عليه من تمظهرات الحداثة.. كجاهز للاستهلاك.. في مجتمع بشري قائم على الاستهلاك.. و على الآلة التي سجنت الوضع البشري في اشتراطاتها.. حتى أصبحت شرطا وجوديا لا يمكن مصادرته مثلما تقول حنة آرندت.. إننا نبتعد عن الطبيعة كل يوم.. لكن ها هي ذي الطبيعة تعيدنا إليها بأصغر كائناتها و أكثرها إدهاشا و تعجيزا لعقل ظن أنه بلغ مقام الإله خلقا و قوة.. لنعود عودا قسريا إليها و إلينا بعزلة فرضتها علينا..بكائنها المتناهي في الصغر هذا.. القادر على أن يفتك بنا.. إنه مبرمج من الطبيعة ليعيدنا إلى حجمنا الحقيقي و عالم ذواتنا لنرى ما فيه من شرور.. و نتأمل ما هربنا منه و كان يحفنا منه خوف غامض يسكننا فنحتمي بالجماعة و بوسائل الحداثة المختلفة.. إنه قلق الموت يستدعيه اللاوعي البشري في الأخطار الجماعية ليصبح الهاجس الفردي الجماعي الأكثر فداحة في وقعه و ارتدادات وقعه.. و هو ما يفسر حالة التخبط التي تعيشها مختلف المجتمعات الإنسانية.. و يعيشها الإنسان تذوتا في عزلته المرآة.. إن المرايا لا تعجز أبدا عن قول الحقيقة.. و لا تزيفها.. و لا مفر لنا مما تقوله لنا.. هذه العزلة المرآوية و نحن في مواجهتنا من جديد.. و هذا سبب يجعل العيش في عزلة مدعاة للحزن و الوحدة.. إن المرايا تؤكد لنا أننا وجود قائم بذاته..و كيان منفصل عما سواه .. و عمن سواه.. فهل حققت هذه الذات ما يعزز هذا الوجود و يجعله كينونة تستحق الحياة؟
هذا من الأسئلة التي تجعل الانعزال مع الذات و فيها انعزالا مخيفا.... إنه يجعلنا نرى أنفسنا في مرايانا بكل خوائها وأخطائها و شرورها و كوابيسها و عجزها.. و هو ما يجعلنا نحتمي بالآخرين كملاذ منه..
لقد اعتاد الأنبياء على التأمل.. و اعتاد الشعراء و الفلاسفة و العاشقون أيضا.. هؤلاء أكثر ولوجا لعالم الذات من غيرهم.. و أكثر قدرة على استبطانها و الاقتراب منها.. حيث يعجز العلماء و تعجز حساباتهم.. و تعجز أدواتهم و عقاقيرهم و تعجز آلاتهم.. و ها هم يؤكدون أن العزلة و الانعزال الحل الأمثل.. ليفتحوا المجال لا للحد من الوباء وحده.. بل.. للحد من وباء آخر يسكن البشر.. و هو تدارك حالة التلاشي التذوتي و الخواء التي بدأت تغمر السطوح بعد أن غمرت الأعماق.. حد الاختناق...
من يتأمل نصوصي من أحاديث المرايا التي نشرتها في هذه العزلة.. و نصوصا أخرى منها سأنشرها.. سيقف على حقيقة بعض من سيرة التذوت.. أو البحث عن الذات في مرآة هي العزلة ذاتها.. في غياب الآخربن الذين كانت تحتمي بهم كجماعة تشكل انتماءها...
العزلة الطويلة مرآة ترينا كل يوم حقيقة من حقائقنا.. نحن الكائن الذي يجهل نفسه.. و ظن أنه سبر أغوار الكون.. و ها هي الطبيعة تتحدانا.. لتثبت كم هي جميلة و قوية و قادرة و حية.. مقارنة بنا نحن الفنانين الذين نخشى بطش فيروس أو بالأحرى أصغر كائن مجهري.. هذا الكائن الذي لم يصب الكائنات الضعيفة.. و اختارنا دونها.. لغاية في نفس الطبيعة .. فالعصافير لا تكف عن الزقزقة بكل جمالها.. و تحليقها خارجا ما فتئ يذكرنا بخيباتنا حول مفهوم الحرية و التحرر.. و ها هي كل الكائنات تسعى في طبيعيتها جذلى بنفسها.. مرحة في حريتها و انطلاقها.. في تحد مشروع للكائن المنزلي الذي عاد لكهفه الأول و قد أرعبه خوف المرض و قلق الموت .. ها هي السماء أكثر زرقة.. و الهواء أكثر نقاوة و قد تخلص من عبء الكائن الصانع بكل قساوته و جبروته.. و ها هو وحده منفي من الخوض في غمار حياة شوهها...
إنه وضع بشري جديد ما نعيشه في زمن الكورونا.. وضع يفتح أعيننا على ما أغمضناها عليه و يجعلنا نفكر في باراديغم جديد لعالم اليوم، إنه تأكيد معنى ما للوجود البشري.. و يا طول ما افتقدنا هذا المعنى.. و بحثنا عنه.. و عشنا هذا الفقد و الافتقاد تشظيا نفسيا كهويات مرتبكة حائرة غير مكتملة و لا سوية، و بؤسا وجوديا حادا رغم التملك المادي الكثيف، و انغماسا وراء الاستهلاك المادي بكل قوة.. محاولة لدرء التفكير في خواء المعنى...




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى