مجدي حشمت سعيد - نظرات في القطار.. قصة قصيرة

هَدّأ القطار من سرعته استعدادًا للمحطة القادمة، وقف على رصيف المحطة، تداخلت الأصوات والهتافات مع ما يصدر من حركات الجموع الصاعدة والنازلة لتصنع صورة صوتية حية من صور الحياة، انخفض الضجيج شيئًا فشيئًا وابتلعت حركة القطار ما تبقى منه، أخذ كل واحد من الرُّكاب يواصل ما كان فيه وما انقطع عنه وعادت صورة العربة كما كانت سوى بعض الرفاق الجدد الذين دخلوا في إطارها. دارت العيون المُنَقِّبة تحصي الرفاق الجدد ثم استقرت على فتاة كالزهرة المتفتحة اليانعة يشع من تكوين جسدها الفاتن موجات تجذب القلوب والعيون وتنطق كل قطعة من وجهها وبدنها بآية من آيات الجمال تمجد الخالق القادر. سكنت الفتاة في مكانها يعقد أطرافها الخجل العذري وتسلِّط عينيها إلى لا شيء في أرض القطار، ألفت المكان بعد فترة قصيرة ثم دارت بعينيها نصف دورة تستكشف ما حولها.

راحت تهز رأسها بشدة في محاولة منها لقذف ذلك الصداع اللعين الذي يكاد أن يفجر رأسها كلما ارتفع الضجيج مع كل محطة يقف عليها القطار، عاد الهدوء فالتقطت أنفاسها من جديد إلا أن الصداع يأبى أن يرحمها ويتركها هذه المرَّة فعادت تحرك رأسها يمينًا ويسارًا فسقطت نظراتها على شاب هادئ وسيم يجلس في نهاية عربة الدرجة الثانية وهو ينظر إليها وقد التصقت عيناه بوجهها، يقابل اهتزازات القطار بانقباضات بسيطة في عضلات وجهه تزيد من وسامته ولا تطرد مظاهر الوداعة التي رقدت فوق ملامحه. أغمضت عينيها استجابة لطرقات الصداع ثم فتحتهما فهربتا من طغيان الصداع لتسقطا فريسة لنظرات ذلك الشاب الذي لا تبرح عيناه وجهها.

تكرَّر ذلك منها هروبًا مما تعانيه ثم واتتها الجرأة وراحت عينا الأنثى فيها تمسحان بغريزية حوَّاء وجوه المسافرين حولها لاستكشاف مدى تأثير جمالها على خلق الله، لم يدهشها أبدًا تعلُّق عيونهم بها وبجسدها فهي تتوقع ذلك بل وتنتظره واعتادت عليه. فلتت منها نظرة خاطفة نحو نهاية العربة وعلى بعد الثلاثة مقاعد ذاتها لتصطدم ثانية بوجه ذلك الشاب فراعها تلك النظرة المستقيمة منه المُسَدَّدة إليها مرفقة بابتسامة رقيقة اشتركت فيها كل تقاطيع وجهه، تململت في جلستها قليلًا حتى تتمكن من أن تلقي نظرة خلفها فدُهِشَتْ لعدم وجود أحد فأيقنت بأنه ينظر إليها دون سواها، لم يضرها ذلك أيضًا إلا أن كل ما أدهشها هو ابتسامته تلك التي شغلتها وجعلتها لعبة تتقاذفها الظنون والأفكار.

أغمضت عينيها لحظات لم تصمد طويلًا فأعادت فتحهما ثم ارتفعت بعينيها في نظرة متسللة بطيئة إلى هناك لترتد أمام نفس نظراته المثبتة عليها والمرفقة بابتسامته الساحرة. سقطت نظراتها ليس إلى أرضية القطار هذه المرَّة بل إلى أصابعها المتشابكة يهزها الاضطراب، أحسَّت بقشعريرة تسري في أوصالها لتشمل كل بدنها، ضغطت أصابعها المرتعشة وعصرتها ببعضها حتى تدفن توترها فيما بينها لتهدأ دون جدوى، أخذت تؤنب نفسها على كل هذا، إنها لا تبالي نظرات الرجال الولهى الجائعة لكن ما بالها يضطرب بدنها ويتزلزل كيانها من نظرة وديعة وابتسامة رقيقة لشاب وسيم يجلس بعيدًا عنها؟! ألأنها تفتقر إلى ما تراه في عيون الرجال من بهيمية وشهوة حيوانية؟ ألكونها نقية مثبتة على وجهها دون أي جزء آخر من جسدها؟ ربما.

أوهمت نفسها بعدم الاهتمام وراحت تهرب منه حتى تُوقِف عنوة تفكيرها فيه، نظرت خلال نافذة القطار إلى الخارج لتهرب من نفسها وصداعها لكن عبثًا فبعد لحظات عصتها عيناها شاردة منها لتسقطا في نظرة مضطربة إلى ذلك المكان من العربة فتجده على حاله بنظراته المسدَّدة إلى لا شيء في وجهها، لم ترتد عيناها سريعًا هذه المرَّة ولم تخف بل صمدت لحظات وكأنها الساعات الطويلة خُيّل إليها خلالها أن جميع الرُّكاب بالعربة يتطلعون إليها ويحاسبونها بنظرات اللوم التي تهوي على بدنها كالسياط، ارتدَّت بعينيها لا بفكرها بعد أن انطبعت صورته في عقلها، راحت تبحث جاهدة في حياتها تقلِّب صفحات الماضي منقبة عن لحظة تكون قد جمعتهما معًا فلم تجد وأيقنت أنها لم تعرفه ولم تره من قبل. حاولت مرَّة أخرى ألا تهتم فلم تستطع، سيطر عليها شوق جارف لكشف المجهول ولإزاحة النقاب عن سرِّ هذا الشاب. أودعت كل شجاعتها في نظرة أخرى فوجدت بجانبه صبيًا صغيرًا في حوالي الثانية عشرة من عمره يلتصق به وقد سرقت عينيه مشاهد الطبيعة الريفية الجميلة خارج نافذة القطار، خمَّنت وجود صلة قرابة بينهما تكتبها وتنطق بها ملامحهما المتشابهة.

القطار يسرع ثم يقف في محطة تلو أخرى وقلبها وفكرها وصداعها لا محطات لهم حتى يستريحوا فيها ولو لالتقاط الأنفاس والشاب ثابت كتمثال راسخ بديع التكوين ونظراته المستمرة إليها تشغلها لكن العجيب أنها لم تعد تضايقها الآن لكنها تجعل الدماء تفور في قلبها لتصل إلى وجهها فيلتهب ويصطبغ بلونها الأحمر فيزداد الصداع المقيت.

اقتربت المحطة السابقة لمحطتها الأخيرة فهَدَّأ القطار من سرعته وعادت الضَّجة داخل العربة، استعدَّ الهابطون للنزول، دخل القطار المحطة ووقف على الرصيف فارتفع الصَّخب كالعادة ثم خيَّم الهدوء ثانية، انكمشت الفتاة في مقعدها وأحسَّت برجفة تسري في بدنها تصاحبها شهقة انطلقت دون إرادتها حين نظرت إلى هناك حيث نفس الموضع فلم تجد أية مقاعد.

عاد الصداع يفتِّت رأسها من جديد وأخذت تتلفت حولها بريبة وهلع ثم تركَّزت كل حواسها في أذنيها في انتظار لحظة فارقة تلتقطان فيها صفيرًا منقذًا يثبت لها إذا ما كانت مسافرة حقًا في قطار.



مجدي حشمت سعيد

مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى