مياده إبراهيم قداح - الوليمة.. قصة قصيرة

كانت تتأمل الكأس القابع بجانب المدفأة التي لادفء فيها ولا أموات.
لمحتهم يعبرون بنصف الكأس الفارغ كالأحصنة برؤوس بشرية خالية من العيون والأذان، بينما ألسنتهم راحت تلهث في أفواههم."نادتهم"إذاك وجهت نظرها تتأمل الطاولة الواقفة بجانب المدفأة على أقدام شبه مخلعة، تراءآ لها خمسة من الأطباق والملاعق وأكواب ماءٍ مصفوفة بعناية كباقة ورد في آنية قديمة .
الأمعاء الخاوية تتجه إلى البيوت بخطوات واسعة، وسع الفراغ الذي راح يرتفع فيه صوتها الذي كلما ارتطم بنفسه ارتّد خائفا لنقطة البداية، وهي تعيد وتزيد تأهلاً وترحيباً مكررة: من الذي قال إنني مقطوعة من شجرة؟ هاهم إخوتي كالنسور تنقض على من يقترب نحوي، جاؤوا يلقون نظرة على نواقص بيتي، بيتي الذي يموت الفأر فيه لو جاء جائعا.
تابعت.. مالكم يا إخوتي؟ تفضلوا اجلسوا، وحوقلوا، فالبيت بيتكم.
مدَّ كلّ منهما يده، جرف شربة ماءٍ ليبلَّ ريقه، بعد ذلك تساءلوا: لم نادتنا؟
قالت: مدوا أيديكم على الميسور.
وأين هو الميسور رددوا؟
احمدوا ربكم على المقسومن فالله يبارك من يطعم مما يأكل.
همس أكبرهم:
- أختنا أصابها مسٌ, هل نأكل من الهواء؟
- ماله الهواء هل تستطيع العيش دونه قال أوسطهم:
ارتسمت ابتسامة على الشفاه، صفراء كانت بلون المرض والجوع .
تراءى لها أنهم يتهامسون.. حاولت أن تقرأ مايجول بأذهانهم ثم قالت: ما رأيكم بالجوع؟ شيءٌ لذيذٌ أليس كذلك؟ عندئذ توجهت لفريد مذكرة إياه بذلك اليوم الذي بكت فيه أمها، ماذا قال لها؟ أنا يا أختي اسمٌ على مسمى لا تخافي العوزَ والفاقة.
ثم التفتت الى غالي، وأنت ألا تذكر وصية والدَتِك؟ حين كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، وشهقات الموت تتأرجح بين السماء والأرض كأنها ترجو ملكة أن ينتظرها لتكمل وصيتها، يومها قالت: ودمعة تجول بمقلتيها فتحرقهما ألما ًوحسرة"لأنها تدرك أنك غير قادر على حمل الوصية" إلا إنها استسلمت للنفس الأخير، قالت :أختك يا غالي لا تُرَخِص بها، وبإشارة نصر غير محتم رفعت َ يدَّك إلى عينيك، والخوف بادٍ على وجهك من غضب يعتريك بلحظة موت محقق وهمست بهلع : هي في عيوني.
وماذا عنك أيُّها الأمين ؟ من المؤكدِ أنك تذكرُ وصية الوالد وهو يتمتم بكلمات مبهمة حين كان بحالةِ احتضار؟ وعيناه كانتا تنظرانِ نحوي، فأدركت ما يريد قوله، ولكي تهّون عليه موته "ربَّما"أوهمته:أ نني أمانة في عنقك، وأنني أغلى من حياتك، فاطمأن المسكين ورحل .
وأنت يا كريم.. كم مرةٍ باركت أمي أياديك الكريمة؟ اليوم لو كانت على قيد الحياة لقالت: الله لا يحرمني من هذه الأيادي النظيفة.
"ماذا أذكر لكم؟"
وبينما هي تتلو الوصايا ومحكمتها تقرر إصدار الحكم، سُفِكَ كأس الماء بإشارة عصبية غير مقصودة من يدها، تنهدت وقالت: بين موتهم ووصاياهم ضاعت حياتي، واليوم تضيع نتيجة جهلي .
متى تذكرون أنني أختكم ؟ حين يدخلُ رجلٌ بيتي !؟عندها أصير ضلعاً قاصراً بحاجة لحماية الرجال؟ أم عندما تأتي جارتي وفي يدِها لقمة زادٍ؟ إذاك يصير لكلٍّ منكم عيوناً ترى وأذاناً تسمع وأفواهاً تصرخ في وجهي : هل أنت مقطوعة من شجرة؟ أم حين تغيب الشمس، وينظر كل منكم في وجه أولاده بفرح وأمل ويندس كل منكم بحضن زوجته؟ لا لست مقطوعة أنا.. هاهي شجرةُ العائلةِ لها أغصانٌ وعليها أوراقٌ، إلا أن جذورها امتدت في الاتجاه المعاكس فشَرِبَت ماءً نتناً أفسد دمائكم.
الجوع كافرٌ ينخر في الأمعاء كالسوس لذا الأذان لا تسمع ما يُقال، بينما العيون تنظر للأطباق بأمعاء لعب الجوع فيها لعبته، فراحت تتوهم بداخِلها ما لذَّ وطاب من لحم وسمكٍ وفراخٍ... وحين يمدُّ أحدَّهم يدَه إليها لا يرَ إلا وجهه، فيذهل ويبسمل، أهذا أنا !؟ ترتد يده متناسياً جوعه .
الأطباقُ والأمعاءُ والعقولُ فارغةٌ، وصحوني كأمعائِكم وهذه كعقولِكم وعقولكم كالحياة يا إخوتي ..
شرفتم بيتي وآنستم وحدتي وشكراً لتلبية دعوتي .. هذه هي صلة الرحم، بارك الله بكم .
وكما تُرتَسم الدوائر في الماء حين تُلّقي فيها الحصاة، رسم اقتراب رؤوسهم من بعضهم شكل دائري، ومدَّ الصغير برأسه أكثر من إخوته ثم قال : ما رأيكم أن نعرض إختنا على طبيب الأمراض العقلية قبل أن يستفحل الأمر؟ الكل لوّح برأسه للأسفل والأعلى راسماً إشارة الموافقة متمتماً "لا حول ولا قوة إلا بالله"فتخيل لها أنهم يتناقشون للذهاب .. استوقفتهم : إلى أين ؟ لابدَّ أن نشرب القهوة، ثم اقتربت من الطاولة، تناولتْ عنها مملحة، ثم أعطت كلٌّ منهما ذرةَ ملح وقالت : تذكروا .. صار بيننا ملح ٌ وماء ازرعوا الملح في تربة عقولكم واسقوه ماءً إن نما كان خيراَ وان ذاب كان على الدنيا السلام.
ثم راحت تبكي وهي ماتزال جالسة قرب المدفأة ,لكنها لا تعرف من تبكي أولاً؟فكل الأشياء صارت تستحق البكاء.
نهضت من جلسة الذكريات، الى النافذة لتستنشق هواء رطباً فتّبرد جراحها، وإذا بنظرها يقع على البناية ذات الطوابق الأربعة حيث يسكن إخوتها، فتراها تعج بالحياة، ابتسمت من سخرية القدر وقالت:غداً سأدعوهم لمثل هذه الوليمة ولو اتهموني بالجنون .


كاتبة من سوريا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى