أمل الكردفاني- التقييم

إن أكبر مشكلة واجهتني، هي التقييم؟
عندما أسأل في مقابلة توظيفية عن المقابل الذي أطلبه، فأنني لا أكاد أفهم السؤال! إنه يبدو مربكاً، فأنا استطيع أن أقيم الشيء نفسه بدولار وحتى بمائة ألف دولار.. يمكنني أن أقيَّم جهد العمل كذلك، واللوحة التي تباع. المسألة هنا لا علاقة لها بالندرة والوفرة التي تحكم قانون السوق. فالتقييم المالي للكثير من الأشياء لا يعتمد على ذلك.
أما صوابية أو خطأ التقييم فيعتمد أيضاً على مسائل متنوعة، كالجوانب النفسية، طموحاتك الشخصية، قوة شخصيتك، ضعفها، الجانب الجمالي، مقدرات الطرف الآخر المالية، القوة الشرائية للعملة، إقتصاد الدولة، فقر أو غنى المجتمع، ثقافة المجتمع. إن بيع مركوب من جلد النمر يمكن أن يبلغ ألف دولار في دولة وقد يدخلك السجن في دولة أخرى أو تنبذ إجتماعياً في دولة تقدس النمور، فليست المسألة متعلقة بوفرة النمور بل بالثقافة البيئية، والعلاقة النفسية المتعالية.
كيف يمكننا تقييم الفن مادياً، كالنحت والرسم؟ إن المسألة لا ترتبط بأي جانب مادي، فأغلى لوحة في العالم، ستظل في كل الأحوال لوحة، أي مجموعة أصباغ وألوان، ورؤى سيكولوجية وآيدولوجية مضمنة داخلها. مع ذلك فإنني شاهدت لوحات بدولارين فقط أكثر تأثيراً من تلك التي تباع بالملايين.
يندرج التقييم تحت سياقات متنوعة بدوره، كالنسق العام، والنظم المتحكمة، والمؤسسية، والشهرة الشخصية، والإرتباط بالسلطة (سياسية أو ثقافية أو دينية، أو علمية..الخ)، والمجتمع من حول الفنان، المجتمع الرمزي كالمجتمعات الفارسية والتركية، والمجتمعات الصوتية كالمجتمعات العربية، والمجتمعات الروحانية والإيقاعية كالأفريقية،..الخ.
يعتمد التقييم كثيراً على النضج الإنفعالي، فأحياناً تفضل بعض المجتمعات شراء السلع الغالية حتى لو كانت أقل جودة من الرخيصة، لأنها لا تربط السلعة بالجودة بل بالرفاهية. وفي المجتمعات العاملة يحدث العكس، إذ يتم التقييم على أساس الفعالية، فالمجتمعات البدوية والزراعية النشطة تفضل السيارات القوية كالبوكس الآيسوزو أو التويوتا على الفيراري التي قد يبلغ سعرها مليون دولار.
هذا بالضبط ما يحدث لي حين يسألني شخص عن قيمة متوقعة من شيء ما؛ إنني أتأمل أطول مما يجب، أطول من الوقت المتوقع لإجابة سؤال بسيط.
دعوني أكتب الآن قصة لشابة أعجبتها لوحات لرسام مغمور، رسومات وحشية وغير مفهومة. أخذت الفتاة تشتري بعض اللوحات وتخزنها، متوقعة أن هذا الرسام سيصبح مشهوراً يوماً ما. بالفعل ونتيجة لصدفة محضة، تنزلق قدم الرسام بسبب قشرة موزة أثناء عبور رئيس الدولة، فيسقط على الأرض، فيظن الحراس الشخصيون للرئيس بأن الرسام يحاول إغتيال الرئيس، وهكذا يردونه قتيلاً ويتم إكتشاف السبب التافه الذي قتل بسببه الرسام. يصبح الرسام مشهوراً، وتبدأ ملاحظة رسوماته التي - على نحو ما- كانت تتنبأ بموته على يد النظام، (تستطيع السلطة السياسية المعارضة للنظام أن تقوم بتأويل كل الرسومات لمصلحتها)، وهكذا يتحول الرسام المغمور إلى بطل قومي -وربما عالمي- فتخرج الشابة كنوزها وتتحول لمليونيرة.
هذا يحدث كثيراً، فأغلب الفتيات البائسات أشعلن الميديا العالمية بنشر رسائل الحب التي أُرسلت لهن من عظماء. نلن المال والشهرة على قفا هياكل الموتى.
لذلك فالتقييم ليس عملية بسيطة كما يصورها إقتصادي مبتدئ (وفرة وندرة). إن القيمة في الواقع يمكن (خلقها). يمكن أن يقوم الأعداء بتبخيس وتتفيه قيمة عمل ما أنجزه غريمهم، ويمكن أن يحدث تقييم عالي جداً من أنصار ذات ذلك الشخص.
تلعب الأنظمة السياسية الحاكمة، والمعارضة، اليسارية واليمينية، الليبرالية والتقليدية، على حبل التقييم. فيتم تقييم ذهاب فتاة إلى المدرسة في أفغانستان رغم إحتمالية إطلاق النار عليها من أحد بني جلدتها المتزمتين تقييماً أعلى من الطبيعي وتمنح الفتاة جائزة نوبل. في حين يذهب طفل إلى المدرسة وقد قتل جميع أفراد أسرته بسبب القصف ولا يعطى ذلك أي تقييم. فالمسألة لا تتعلق بالطفل ولا المدرسة، إنما بِ (من) الذي يطلق الرصاص أو الذي يقصف؟.
ولذلك فالتاريخ يكتبه الأقوى وكذلك القانون، وكلاهما تقييم لثقافة منتصرة وأخرى مهزومة. إن مسألة الإساءة لنبي المسلمين مثلاً، تقييم، والإساءة لليهود تقييم بدورها، تدخل الأولى في نطاق حرية التعبير، وتخرج الثانية من ذلك النطاق بل تصبح جريمة.
كتب أحدهم عن سيمون دي بوفوار وسارتر وعلاقاتهم المتعددة ومن ضمنها علاقة مع فتاة في الخامسة عشر من عمرها. ومن ضمن ما أورده خوفهما من المساءلة الجنائية بسبب الممارسة الجنسية مع قاصر.
في الواقع لم تحدد فرنسا الممارسة الجنسية بسن الخامسة عشر إلا عام ٢٠١٨، اي بعد وفاة سارتر وسيمون بعقود، أما قبل ذلك فكان بامكان أي بالغ ممارسة الجنس مع طفل مدام كان ذلك الطفل موافقاً اما إن لم يكن موافقاً فيعتبر البالغ مرتكباً لجريمة الإغتصاب. وفي عام ٢٠١٧، تمت تبرأة رجل مارس الجنس مع فتاة في الحادية عشر من عمرها فقررت فرنسا سن قانون يجرم الجنس مع من لم يبلغ الخامسة عشر حتى لو برضاه.
أنا أورد هذه المعلومات، في سياق الحديث عن التقييم، أذ أن الصديق تفاجأ بما أقوله وأنكره واستنكره، فالسائد أن الدول الأوروبية وخاصة فرنسا لا يمكن ان تسمح بممارسة الجنس مع قاصر ولو برضائه. وهذا ما يسمى في القانون بالمسؤولية المطلقة او الصارمة Strict liability ، ولذلك يسمى الفعل الجنسي مع القاصر حتى لو برضى الطفل بالإغتصاب القانوني في بعض الأنظمة الفقهية. تفاجأ الصديق، لأن الثقافة الأوروبية المنتصرة استغلت قصة زواج النبي محمد بعائشة وهي قاصر (وهي قصة تاريخية تحتمل الصواب والخطأ)، في تشويه سمعته، وبالتالي لم يكن يتوقع أن تكون ذات الممارسة غير ممنوعة في أوروبا على نحو مؤكد وليس مجرد قصة تاريخية.
هنا تتضح الهزيمة والنصر بين الثقافات. حيث يتأثر التقييم بعوامل خارجة عن مفاهيم الصواب والخطأ والبعد الأخلاقي والندرة والوفرة والعرض والطلب.
ولذلك ينظر لي من يسألني ذلك السؤال: (كم؟).
بقلق وهو ينتظر إجابتي.
حسنٌ..
إنني أستطيع أن أبيعك هذا الجهد بمائة الف دولار، أو بدولار، ويمكنني أن أعطيك له هدية...
إن كل ذلك صواب...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى