أمل الكردفاني- ازمة الخيال والإبتكار في السودان

هناك مناهج يتم تدريب التلاميذ الصغار بناء عليها، لتحفيز الخيال والابتكار في المدارس الغربية.
تعاني مؤسساتنا التعليمية من ضعف تحفيز الخيال والابتكار، وتحديداً، لا يوجد حتى منهج علمي لتحفيز العقل على الخيال والابتكار، مما جعل الكبار أقل ابتكاراً من رصفائهم في الدول الأخرى. فالنظام التعليمي، يؤسس للتعامل مع العلم كما هو معطى لا كما نريده أن يكون.
هذه الحقيقة، أي أزمة الخيال والإبتكار، سنكتشف عمقها كلما توغلنا في الصناعات في دول عريقة الماضي والحاضر كالصين. يبتكر الصينيون أدوات غريبة، لا يمكن للشعب السوداني بأسره أن يفكر في ابتكارها. سأضرب مثال لطيف على ذلك، فلقد اشتريت بربع جنيه مصري قبل قرابة عشرين عاماً، آلة بلاستيكية بحجم صباع بطارية الساعة، حيث تقوم أنت بإدخال الإبرة في الأنبوب، وتُدخل في حلقة واسعة الخيط ثم تجر الإبرة لتجد الخيط قد دخل في سَمِّها في أقل من ثانية وبدون مجهود. وهي صناعة صينية بلاستيكية رخيصة الثمن، لو اجتمع الانس والجن (الجن السوداني وليس الصيني) فلن يستطيعوا عمل مثل هذه الآلة التي لا تعمل بأي طاقة كهربائية بل ميكانيكية بسيطة جداً. وقد حاولت بشتى الطرق فهم كيفية نضم الخيط في الأبرة، ولم أتوصل لذلك حتى بعد أن كسَّرت الآلة حتت حتت. وفي بداية التسعينات، قام الصينيون بعمل معرض لألعاب الأطفال في اتحاد الصناعات السوداني ورأيت هناك العجب العجاب. كيف يستطيع العقل الصيني ابتكار هذه الادوات العجيبة، بهذه الطريقة البسيطة والجميلة في نفس الوقت، في حين أن اقصى ابتكار سوداني وربما اكثره تعقيدا هو شراب الحلو مر.
يتسع نطاق انعدام الخيال والابتكار ليشمل عالم القانون والإدارة والطب والهندسة والسياسة...الخ.
في حوالى عام ٢٠١١ حضرت ندوة عن الدساتير في السودان في جامعة الأحفاد، واخذ دكتوران في حقل القانون الدستوري، يتحدثان عن جلب النموذج الجنوب أفريقي لكتابة الدستور السوداني، وقد اندهشت جداً، لأن مسألة الدستور، لا تحتاج لتجربة غريبة عنا، بل تحتاج لابتكار سوداني أصيل، ولا يتم ذلك إلا بفهم حقيقة الدستور مبنى ومعنى. فاي طفل يستطيع ان يدخل على قوقل ويستخرج دستور اي دولة، ثم يؤلف دستوراً ممتازاً جداً مثل دستور ٢٠٠٥. ولكن بالرغم من ذلك فهذا لا يعني أن ما سيكتبه ذلك الطفل سيكون دستوراً فاعلاً، فقوة الدستور ليست في نصوصه بل في كونه تعبيراً عن تعاقد مجتمعي، ولذلك تحول الفقه من العقد الاجتماعي إلى العقد الدستوري، كإطار لتقنين التعاقد الإجتماعي، لأن فكرة العقد الإجتماعي بذاتها فكرة مثالية ومستحيلة التحقق.
والمضحك انه مضت قرابة عشر سنوات، ثم جاء وزير العدل وقال نفس الكلام، بل قال بأنه سيأتي بخبير دستوري من جنوب افريقيا لكتابة دستور (لما اعتقد انها دولة السودان)، التي بها مئات الجامعات، ومئات دكاترة القانون الدستوري. واعتقد ان هذا الخبير الجنوب افريقي سيلهف مبلغا ضخماً من حكومة القحاطة ثم يهرب بعد ان يؤدي مهمته الصفرية، فهذه الحكومة توزع اموالنا نحن الغلابة يميناً وشمالاً، توزيع من لا يخشى الفقر. وأبواب الماكلة فقط هي التي يتم ابتكارها في هذا البلد.دة ما موضوعنا.
المهم؛ فلنعد إلى موضوع ازمة الخيال والإبتكار في السودان، وهي ازمة عويصة، وفي الحقيقة لا يشعر بها غالبية الشعب، لأن الشعب غارق في نمطية تاريخية، ومستقر في مفاهيم لا يقبل تغييرها. أما القلة النادرة ممن يملكون الخيال، فيعتبرون مساطيل. ففي نكاتنا يسمى من يتعاطون المخدرات بأصحاب الخيال الواسع، وكأنما الخيال الواسع سُبة ووصمة عار. وهذا قلب للحقيقة. سنجد ضعف الخيال والابتكار عند الكافة، فالنجار نادراً ما يبتكر ابتكارات مخالفة للأنماط التقليدية في صناعة الأثاث، والموظف أو المدير لا يبتكر أي ابتكارات لحل المشاكل. ولذلك عندما تتعامل مع موظف، وتكون المسألة جديدة بالنسبة له، فإنه يشعر بالحيرة، ثم يرفض حتى مجرد التفكير في حل لمشكلتك، وإن كان مخلصاً في عمله فسيحيلك لمديره، والذي بدوره سيطلب تشكيل لجنة، واللجنة تجتمع (في الغالب لا تجتمع)، لبحث مشكلتك. وغالباً ما لا تستطيع إيجاد حل، لأنها ستؤكد بأنها تعمل وفق لوائح تحاصر سلطة خيالها وابتكارها، بالرغم من أن اللوائح تكون أكثر مرونة من التشريع فتعطي الموظف سلطة تقديرية واسعة من اجل التفكير والابتكار الخلاق. لكنهم يستخدمون تلك السلطة في ابتكار الفساد، او في تصفية الحسابات الشخصية، أو عرقلة مصالح الجمهور للحصول على رشاوي. وهذه بالطبع كارثة.
راقب الشعارات الخاصة بالهيئات والمؤسسات والشركات، ستجد أنها خالية من الابتكار، وتميل لإرضاء ذائقة جافة، وقارن بينها وبين الشعارات في الدول الاخرى، ستجد فارقاً كبيراً جدا. لاحظ الدعايات والإعلانات التجارية عندنا، والإعلانات والدعايات التجارية في الدول الاخرى؛ ستجد أن إعلاناتنا مباشرة جداً، وتعتمد على الشرح، والجمل الطويلة. في حين ستجد ان الدعاية لذات المنتج في الدول الأخرى لا يحتاج ثوى لعشر ثوان لينقل لك الفكرة.
دعنا نطرح مثالاً نموذجيا، لفوط الدورة الشهرية عند النساء. وهو مثال يمكن ان يعلق بالذاكرة. سنجد ان الإعلان عندنا، يتم عبر سرد مباشر لقوة الفوطة في امتصاص الدم، ويتم السرد في فقرة طويلة وصور متقطعة ومشاهد تتجاوز ست مشاهد، أما في التلفزيون الامريكي، فستجد ان هناك فوطة ملقاة على شاطئ البحر، فيمر عليها المد ثم ينحسر بالجزر، وتمتص الفوطة الماء ومع ذلك تبدو جافة جداً. الإعلان هذا يتم في مشهد واحد لا يحتاج لاكثر من خمس ثوانٍ. وهو شامل لكل مواصفات الفوطة. وبدون كلام. بل بصوت المد والجزر المريح للأذن وبشكل محافظ ومحترم أكثر من الحديث المباشر. وهذا هو الخيال والإبتكار الذي نحتاجه لتطوير كل أنشطتنا، سواء التجارية أو الحرفية أو المعرفية أو العلمية أو حتى علاقاتنا الإنسانية. يمكننا أن نكتشف ذلك الإنعدام في الخيال والإبتكار على مستوى البحث العلمي، فبمقارنة بسيطة بين رسائل الماجستير والدكتوراه، أو الابحاث في المجلات العلمية المحكمة، ستجد أن ابحاثنا (أتكلم عن حقل القانون) ليست سوى اجتراراً مملاً لما قتل بحثاً ولكن بتغييرات في العناوين، اما المحتوى فهو أشد فقراً من العناوين. فللنتقل إلى مجال السياسة (والشعب السوداني يحب السياسية وهو لا يفقه شيئاً في الواقع عن السياسة، لأن السياسة أضحت علماً منذ عقود، ولا زالت عندنا تمارس كفهلوة).. أيضاً ستجد ضعف القدرة على ابتكار حلول للأزمات السياسية عندنا. واضف لها الازمات الإقتصادية. دعونا نقارن ذلك بازمة امريكا عندما طالبت اوروبا بالذهب كمقابل للدولارات الامريكية. لقد وقعت امريكا في مطب كبير، ولكن العبقرية الامريكية وجدت حلاً غريباً، فقد ربط البترول الخليجي بالدولار. وهكذا اجبر دول العالم على التعامل بالدولار، فأضحى الدولار اقوى مما كان عليه حين كان غطاؤه هو الذهب فظهر مصطلح (البترودولار).
نعم؛ فالشعوب التي تمتلك الخيال والابتكار ليست شعوب مسطولة، بل شعوب تعرف كيف تحل أزماتها ومشاكلها، بل وتجعل من الأزمة مكسباً لها. وهذا ما حدث عندما ابتكر دينج حلولاً لم تخرج الصين فقط من ازمتها الإقتصادية بل وضعتها في طريق القوة والمجد. أصبح الإقتصاد الصيني الآن هو الإقتصاد الحقيقي الوحيد في العالم، لأنه يعتمد على انتاج حقيقي وليس مجرد مضاربات مالية، ولذلك فهو الأكثر قابلية لامتصاص أي أزمات إقتصادية عالمية.
فالعقل الصيني الذي صنع أداة ميكانيكية بلاستيكية بسيطة، لتسهيل دخول الخيط في خرم الإبرة، لن يعوزه ابتكار حل لأي مشكلة، فالأشياء الصغيرة هي التي توضح لنا إمكانية او عدم إمكانية حدوث الأشياء الكبيرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى