حاميد اليوسفي - تجيء وتمضي.. اللوحة الأولى

اللوحة الأولى
السماء تُمطر في الخارج . فتح النافذة ، ووقف بجانبها يتأمل زخًات المطر ، وما تحدثه من إيقاع ، وهي تتساقط تارة بطيئة ورقيقة ، وتارة سريعة وقوية . لفحته ريح باردة . رأى في سن الشباب بأن الأمطار أولى أن تسقط في الأرياف والبوادي ، فهما أكثر حاجة إليها من إسمنت المدن . لكنه عشق أن يسير كالسكران بدون مظلة ، يغتسل بالمطر مثل الشجر . لم يسبق له أن فعل ذلك عن قصد . فقد ترك الأمر للصدف التي نادرا ما تجود بتحقيق ما نحب .
اللوحة الثانية
لم تكن الدروب في الماضي خالية من الأطفال مثلما هي عليه الحال اليوم . بالأمس كان الأطفال يحتفلون بسقوط المطر . يجرون في الأزقة برؤوس عارية ، يتلذذون قطرات المطر ، وهي تمتزج بعرقهم ، وتُبلّل شعرهم ولباسهم وأحذيتهم ، وتغسل وجوههم ، وهم يرددون بصوت عذب :
(الشتا تاتا تاتا ... أولادات الحراثة ... آصبي صبي صبي ... آولادتك في قبي ...
أمك تجري وتطيح... بّاك ادّاه الريح ... آ المعلم بوزكري ... طيب لي خبزي بكري ...
باشْ نْعشي وْليداتي ... وْليداتي عند القاضي ...)*
بعضهم يتوقف عند هذا الحد . لا يعلم بأن للأغنية بقية ذات حمولة سياسية أخفاها عنه الكبار ، تجنبا لأوجاع قد تجر عليهم مشاكل لا قِبَلَ لهم بها مع ممثلي السلطة .
وعندما يدخلون في المساء إلى البيوت يدفئون أيديهم وأرجلهم وينشفون ثيابهم المبللة فوق نار (المجمر)* . يسرقون أصغر حبات البطاطس الحلوة من المطبخ ، يشوونها ويتناولونها بتلذذ وهي طازجة .
اللوحة الثالثة
بعض الأطفال والشباب لا يحبون اليوم المطر . ينزلون من سيارات الأهل ويسيرون ببطء تحت مظلاتهم نحو الأسواق والمحلات الكبرى . يخفون أجسادهم البدينة بفعل الكسل وقلة الحركة في معاطفهم التي تمنع عنهم البلل . يقتنون ألبسة جديدة ، يعلمون بشكل مسبق أشكالها وأنواع نسيجها وأثمانها وألوانها ، فلا يأخذ منهم البحث عنها وقتا طويلا . ثم يتناولون أكلة سريعة في الخارج ، ويعودون إلى بيوتهم . يختبئون في غرفهم تحت الأغطية الناعمة ، أو يشعلون المكيف الهوائي . أغلبهم متجهم ، إذا حدثته ، ينبس بكلمة أو اثنتين مبديا عدم الرغبة في الكلام ، ثم يسرح بهاتفه في عالم ما وراء البحار . وإذا نزعته منه أخذته نوبة هيستيريا وملأ البيت صراخا . وفي صباح الغد تهيئ له ماما الفطور ، وتخاطبه بالفرنساوي ، وتأخذه إلى المدرسة .
يزرع الزوج كذبة خفيفة على مائدة الغذاء في منتصف النهار ، ليجني ثمارها في المساء . فهو معروض لحفل بمفرده . تقف سيارة (الرونج روفر) أمام ملهى ليلي تنشط به الشيخة الطراكس .
ابتلعت الرأسمالية الكثير من الناس ، وشوهتهم بعد أن حولتهم إلى صيادي همزات* ، ومدمني مؤخرات .
اللوحة الرابعة
يقف أحمد صحبة أطفال الجيران في الدرب تحت السقيفة ، يتابع لعبة (البينو)* ، وينتظر دوره . المطر يتساقط بشكل خفيف ، ويتسرب معه برد قارص ، قادم من جبال الأطلس المكسوة في هذه الفترة بالثلوج . وقت الغذاء لا يزال بعيدا . يعود سعيد صديقه من البيت ، يحمل قطعة خبز محشوة بحبات الزيتون الأسود بعد أن نزع منه النوى ، ويقدم لها جزءا منها ليتذوقه . أما علي فقد حشا خبزه بقليل من غبار السكر ، وزيت الزيتون .
يرتدي الأطفال ألبسة متواضعة ، ومتشابهة تقريبا . سروال (الدجينز الصحراوي الأزرق) وحذاء على قد الحال ، أو صندل من البلاستيك بجوارب مثقوبة في أغلب الأحيان ، وقميص صوفي تهدلت أكمامه . يلبسون عن طيب خاطر ما يُشترى ، ويُقدم لهم . والمحظوظ من يسمح له والده بمرافقته من أجل القياس فقط ، لا الاختيار . وعندما يرتدون قميصا أو حذاء جديدين ، يُقبّلون أيادي أو رؤوس آبائهم ، وهم سعداء يضحكون ، وينتظرون فرصة الخروج من البيت لاستعراض اللباس الجديد أمام باقي أترابهم .
اللوحة الخامسة
كبر الأطفال ، وذهبوا إلى المدرسة . في أقل من أسبوع حفظوا الطريق . تجندوا بعد ذلك للذهاب بمفردهم . حمّسهم الكبار بأنهم أصبحوا رجالا ، وعليهم الاعتماد على أنفسهم .
بدت لهم المدرسة جميلة وفسيحة ، تتسع لعدد كبير من الأطفال . يجلسون على مقاعد خشبية تنتظم بتناسق كبير داخل فضاء القسم . المعلم ببذلته الأنيقة يدون على السبورة تاريخ اليوم ، وعنوان الدرس بخط جميل ، ثم يجلس في مكتبه ، ينادي بالأسماء قبل أن يستهل الحصة . كل طفل يسمع اسمه يقف ، ويجيب : حاضر يا أستاذ .
المطر يتساقط في الخارج ، والمعلم في وسط الحصة ينشد داخل القاعة ، قطعة (يا إخوتي جاء المطر) ، ويطلب من الأطفال أن يُرددوا خلفه بنفس اللحن : (هيا نجلس تحت الشجر) . أحمد بوكماخ* يحتفل أيضا مع الأطفال بقدوم المطر .
اللوحة السادسة
تخلصوا من جحيم الفقيه سي العربي . عندما يدخلون المسجد يجلسون أمامه فوق الحصير في غرفة واسعة وشديدة البرودة تأتيها الرياح من اليمين والشمال ، وهو يتربع بجسده البدين فوق دكة عالية بجلبابه الصوفي ، ويضع بجانبه قضيب زيتون يانع . يرددون خلفه ما يتلوه من آيات من الذكر الحكيم بأصوات تصل إلى الخارج . ولا يبدأ الجحيم إلا باستحضار ما حفظوه .
جاء الدور على أحمد ليجلس أمامه . بدت له أذنا الفقيه طويلتان مثل نعلين من البلاستيك ووجهه أسمر عريض ، وقد نبتت فيه حبيبات صغيرة ، غطت الكثير منها لحية كثة ، بدأ يغزوها الشيب من الأطراف والوسط . يسهو على كلمات لا يفهم معناها ، فينفلت خيط الآيات من ذاكرته . يتوقف ! يُعيد من البداية علّهُ يتلقّف الكلمة الضائعة ، لكن بدون جدوى ، وكأن الشياطين تعمدت إخفاءها عنه . تمتد يد الفقيه خلسة إلى حنجرته ، يصطاد تفاحة آدم ، ويضغط على جلدتها بقلم من قصب حتى يرتفع الولد من مكانه ، وكأن طائرا جارحا يشدّه من حنجرته ويطير به إلى مكان عال ، ثم ينزل بالسوط على وَرْكِه . لا تعود إليه الروح ، حتى يرخي الفقيه أصابعه ، فتتحرر رقبته من اللّسعة التي تشبه في ختامها لسعة العقرب . أما آثار السوط فستبقى علامتها الزرقاء موشومة على الورك وأعلى الفخذ تحرق الجلد لأيام طويلة .
(أنت تذبح ونحن نسلخ) ، عرف مقدس يسمح للفقيه ، ثم المعلم فيما بعد أن يفعلا بالأطفال ما يشاءان . كابوس لم يستطع أحد في ذلك الوقت أن يتحرر منه .
استسلموا لقدرهم معتقدين بشكل جازم بأن جميع الأطفال في العالم يمرون من نفس الجحيم .
أه لو فعلتنها يا سي العربي اليوم لفضحوك في وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية ، ونشروا صورك ، واتهموك بانتهاك حرمة الأطفال ، وأضافوا إليها جرائم لم تخطر لك على بال ، وزجوا بك في غياهب السجون .
اللوحة السادسة
حل طائر (طبيبت)* اليوم باكرا يتجول داخل البيت بعد الانتهاء من وجبة الفطور . وقد نهى الكبار عن مسه بسوء . فهو طائر مقدس ، وفأل خير ، يعاقب الله كل من يعتدي عليه بالشلل أو العمى أو غيرهما من العاهات . لذلك يتركه الناس يلتقط بكل حرية فتات الخبز من فوق الموائد ، وحب القمح المنشور في الشمس فوق السطح ، أو في وسط المنزل . والبعض يعتقد بأنه سينال على ذلك أجرا كبيرا يوم القيامة . وإذا سقطت فضلاته على رأس أو ثياب أحدهم ، فهو يعلم بأن الله يعده بخير عميم سيناله في القريب العاجل من الأيام .
اللوحة السابعة
في الأمسيات الباردة يسير الأطفال في الأزقة بأجسام نحيفة مثل عود الخيزران . تلتصق الذراعان بالجسد لمنع البرد من استغلال أي فجوة بين الأطراف . قِدر من فخار أحمر اسْوَدَّ قاعه بالنار ، مربوط أسفل عربة يدوية صغيرة ، يقف خلفها رجل خمسيني ، وأمامه صحن أبيض كبير من ثمار البلّوط ، يتصاعد منه بخار يشد انتباه المارة . ثمرات بنية تميل إلى السواد ناضجة وهشة وحلوة مثل السكر . مُدٌّ مُعَلّب داخل قطعة وَرَق بريالين ، يُسيل لُعاب الصغار والكبار . وعلى بعد خطوات عربة أخرى تبيع الفول البني المسلوق ، ويُنثر فوقه الملح والكَمّون ، فيُصبح مع حاجة الجسم إلى الطعام في الأيام الباردة ألذ من الشواء .
اللوحة الثامنة
أغمض عينيه لفترة ، وأعاد فتحهما . صور تجيء من بعيد ، وتمضي مثل سنا البرق . أحس كمن يقبض على الماء ، وتخونه فروج الأصابع .
المعجم :
*أشتا تاتا : الشتاء / الحراثة / الفلاحون / صبي : تساقطي / قُبّي : قطعة الجلباب التي تغطي الرأس / تطيح : تسقط / باك اداه الريح : أباك أخذته الرياح / طيب لي : اطبخ لي / بكري : باكرا / باش : لكي .
*المجمر : فرن صغير من طين يوضع فيه الفحم ، ويطبخ عليه الطعام ، أو يغلى فوقه الماء لعمل الشاي .
*لعبة البينو : البينو قطع صغيرة ومستديرة من هوائي الدراجة تشد بخيط ويضربها اللاعب برجله إلى أعلى ولا يتركها تسقط على الأرض ، ويفوز في اللعبة من حصل على أكبر عدد من الضربات .
*همزات : ج همزة أي صفقة مشبوهة تدر أرباحا خيالية .
*أحمد بوكماخ : معلم ومؤلف سلسلة اقرأ التي اعتمدتها وزارة التربية ككتاب مدرسي بسلك التعليم الابتدائي بالمغرب في ستينات القرن الماضي .

* طبيبت : طائر مقدس يتواجد بكثرة في منطقة تانسيفت الحوز بالمغرب.

مراكش 12 / 11 / 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى