مفيد عيسى أحمد - مأزق رجل السلطة في المسرح الرحباني

أخذ المسرح الغنائي العربي طابعاً مختلفاً مع التجربة الرحبانية، فقد اتسّم نتاجهم بحيوية و تنوع أكبر، بفضاء و مناخ جديدين، و برؤية فنية مغايرة لمفهوم المسرح الغنائي، حيث حرصوا على تقديم ما يصل إلى أوسع قاعدة من المتلقين.

تخلّص الرحابنة من الحذلقة اللفظية و التقليدية الرتيبة للحوار، القائمة على الإلقاء في أغلب التجارب السابقة، و عملوا على نصوص أغان مختلفة تماماً عن تلك التي تقوم على قاموس ألفاظ استنفدت طاقتها الجمالية، أبدعوا لتلك الأغاني ألحاناً مجددة متميزة، كما واكبوا أجواء المسرحيات بموسيقا خاصة معبرة، فالموسيقا عندهم لم تقتصر على اللحن الغنائي فقط.

تنوعت مواضيع مسرحيات الرحابنة من الترفيهي المنوّع إلى التاريخي و السياسي. ففي المجال المنوع الاجتماعي عملوا على توظيف الموروث اللبناني الحكائي و الغنائي ( بياع الخواتم، ميس الريم) و قدموا ذلك الموروث برؤية جمالية جديدة، أمّا في المجال التاريخي، فقد قدموا شخصيات و أحداثاً تاريخية كانت ذات حضور كبير في المراجع التاريخية و الذاكرة الجمعية ( بيترا، فخر الدين) و قد وظفوا الحدث السياسي في مسرحيات عدة منها (يعيش.. يعسش، الشخص، جسر القمر).

حقق المسرح الغنائي الرحباني معادلة المشاهدة و السماع، و المشاهدة تعني هنا حضور العرض المسرحي، أو رؤيته مصوراً، و السماع هو سماع الناتج الصوتي لهذه العروض، و هي معادلة صعبة في المسرح و فن الصورة، فالسماع يعني في الجانب السلبي إمكان الاستغناء عن العرض، و هذا يعتبر ضعفاً ناتجاً عن طغيان الحوار و المؤثرات الصوتية الأخرى. أما الجانب الايجابي فهو أن يكون السماع فضاء لحضور المتخيل، في هذه الحالة يبني السامع مسرحاً في ذهنه، و هو بذلك يعمل على إخراج ما يسمع كأي مخرج يقرأ النص، إنها وفق أدواته الخاصة المكونة من ثقافته و فضائه التخييلي.

ثمة حضور واضح لرجل السلطة في الشخصيات الأساسية للمسرح الرحباني، و ذلك وفق معطيات كل مسرحية من ناحية الزمان و المكان و الحدث, ذلك ما يحدد سمات هذه الشخصية و درجتها السلطوية، ففي (بياع الخواتم) كان المختار، و في (ميســـــــم الريم) كان مختار المخـــــاتير، وكان الوالي في (صح النوم) و (حضرة الشخص في الشخص). كما كان الأمير في (فخر الدين) و الملك في (هالة و الملك) و في (يعيش.. يعيش) كان الإمبراطورمن العدد 730 من مجله الشبكه بتاريخ 19 كانون الثاني (يناير) 1970، هذا الخبر عن مسرحية فيروز الجديدة يعيش.... يعيش...الصوره اعدها ل… | Side d, Arabic proverb, Lebanon.

تختلف كل من هذه الشخصيات عن الأخرى و ذلك من ناحية الأداء السلطوي في المسرحية، و هو ما تفرضه سويتها السلطوية و بنيتها السايكولوجية، لكن الملاحظ أنه لكل منها طابعه الخاص كرجل سلطة.

فالمختار في بياع الخواتم ضحية كذبة أطلقها ليلهي أهل القرية بحدث مفزع, يجعلهم ينسجون عنه الحكايات (الأهالي بدهن حكاية) هذا ما يجيب به ابنة أخته ريما و يكمل (أنا اخترعت لهم الحكاية) و الحكاية عن (مجهول عليهم جايي) لكن الكذبة تصبح حقيقة مع و راجح الشرير، الكذبة، يصبح راجح الخيّر، بائع الخواتم و الفرح.

مأزق المختار أن الأمور كادت تفلت من يده، فالأشرار بدؤوا يستغلون الحدث، بعد أن عرفوا أن ما يحذّر منه و يرويه المختار كذب بكذب، لتنتهي الأمور بنهاية سعيدة تناسب السمة التراحمية للمختار كرجل سلطة، يقوم هنا بما يشبه دور الأب في رواية الحكايات التي تلهي أبنائه، تأسرهم و تخيفهم لكنها تنتهي على خير.

في (صح النوم) يستحضر الرحابنة شخصية سلطوية ماضوية، الوالي الذي يقضي أغلب وقته بالنوم و يمارس سلطته بتراخ مطلق، يدير حين يستقيظ مصالح الناس و الولاية وفق مزاجه الشخصي، هذا الوالي المتناقض الذي يبدو طيباً حيناً و ساخراً لئيماً حينا آخر، ما يلبث أن يقع في مأزق فقدان سلطته بضياع ختم الولاية، و هو ما يجعله عاجزاً عن اتخاذ أي قرار، و حين يستعيد الختم يعود كما كان، يختم ثلاثة طلبات و إلى النوم، بعد أن يحيل مسألة التختييم إلى من سرق منه الختم (قرنفل)، و كأنه بذلك يسلّم بطبيعة سلطته الشكلية.

الشخص هو ما يدعى به رأس هرم السلطة، في مسرحية الشخص (بياعة البندورة) و هو اسم و ليس اسماً. و كأن الرحابنة أرادو أن يقولوا لنا أنه لا قيمة للاسم بالنسبة للسلطة.

الشخص يبدو أنه لا علاقة له بكل الإجراءات التي تتخذها أجهزة السلطة، فهو لا يعرف ما يجري، ضعيف غير قادر على اتخاذ القرار، إلى حد أنه ليس هو من يقرر إن كان سيقبل عزومة الغداء، و في حال فعل ذلك يضيع قراره و أمره (يزورب لحالو).

حضرة الشخص متوجس، فحين تقابله بياعة البندورة و هو يتنزه تسأله من منطلق التصور الشرقي لرجل السلطة (حضرة الشخص إنت بتحكي) ليجيبها ذلك الجواب البليغ المتوجس (إي بحكي.. لما بيكونو الناس كتار ما بحكي لأنو كل واحد بيفهم على ذوقو... لما بيكون لحالي بحكي... ليش ما بحكي).

و خائف الذي يتكشّف خوفه حين يقول لبياعة البندورة (أنا مش رح اسمح يظلموكي أبداً يا بنتي... رح اعطي أمر يرجعولك العربية بالخضرة اللي فيها) لتجيب بياعة البندورة التي فهمت اللعبة قائلة (خايفة تعطي أمر... يقوم يزورب لحالو و يعملولي شي قصة) هنا يتكشف خوفه الآخر الذي لم يصرح عنه سابقاً فيقول (يعملولك شي قصة.. أنا من زمان ما تنزهت.. خايف يعرفوا إني عم اتنزه و يعملولي القصة إلي أنا..).

قامت مسرحية "يعيش يعيش" على حدث سياسي يتمثل بالانقلابات التي حدثت أواسط القرن الماضي، و قدمت ثلاثة نماذج لرجل السلطة، الإمبراطور المخلوع بفعل الانقلاب و الذي يبدو عاجزاً عن تدبير أموره، فكيف كان يدبّر أمور إمبراطوريته، و رجل السلطة الصاعد الذي يحافظ على الوضع كما هو إنما بتصريحات جديدة (حل القضايا المعلقة) و بطروحات فارغة و شعارات حماسية. النموذج الثالث هو رجل السلطة الخلفية المؤثرة، ملهب و أبو متعب اللذان يستوعبان اللعبة و يدبران انقلاباً جديداً يوصلان من خلاله برهوم إلى السلطة، و برهوم هو الاسم الذي أخذه الامبراطور المتخفي، و الذي خلع شخصيته السابقة بقوله (الامبراطور راح.. خلص) و تلبس شخصية سلطوية جديدة تبدأ بمحاسبة من ساعده بالتخفي و التنكر.

الشخصيات السلطوية التاريخية كانت نمطية في المسرح الرحباني، محكومة بالنص التاريخي و المرويات المتناقلة عن تلك الشخصيات، كشخصية فخر الدين المعني.

هناك نماذج أخرى من رجل السلطة في المسرح الرحباني، كالملك في مسرحية (جبال الصوان) المتعسف الذي يدفع كل شعبه للهروب و الهجرة، و هي شخصية تقليدية في الممارسة السلطوية.

محددات رجل السلطة في المسرح الرحباني بشكل عام، القصور عن الفعل، اللين أحياناً، التعسف في أحيان أخرى، الغفلة عما يجري، و الضعف في أحيان كثيرة إلى درجة تثير الشفقة.




1605715741379.png

1605715714340.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى