13 رسالة من محمد عبده

- رسالة من محمد عبده إلى كاتب

حضرة الفاضل المحترم...

أبطأت في إجابتك، وقصرت في الإسراع بشكرك، لما أتحفت به أهل لغتك من ذلك الكتاب، الذي تجلى فيه ذكاؤك واعتدال رأيك في أحسن صورة، لم تفتك فيه فضيلة الإبداع، ولم تحرم من حسن الاتباع، اقتفيت أثر سلفك من تجويد الرأي، واحترام مقام العقل، فلم يهبط بك التقليد إلى ما يحط بالعمل، ويسقط من قيمة الكد في الجد، ثم أبدعت في ترتيب كتابك على ما هو أقرب للفهم، وأدنى إلى التقريب من حقيقة العلم، وكأني بك وقد وقفت على ذلك السر الذي خفي عن الجمهور الأعظم ممن سبقك، وهو أن القرآن قد خط للعرب طرقًا للتعبير، ومهد لهم سبلًا جديدة لصوغ الأساليب، ليخرج بهم من ضيق ما كانوا التزموه، ويبعد بهم عن تكلف كانوا رئموه، ولهذا قوي عندك كل ما بُنِيَ عليه، وضعف لديك كل ما لم يستند إليه، جزاك الله عن نفسك خير ما يجزى به عامَل من عمله، وجزاك عن أهل لغتك خير ما يجزى به محسن عن إحسانه، والسلام.

كلمات

"الناس في عماية عن النافع، وفي انكباب على الضار، فلا تعجب إذا لم يسرعوا بالاشتراك في (المنار)، فإن الرغبة في (المنار) تقوى بقوة الميل إلى تغيير الحاضر بما هو أصلح للآجل، وأعون على الخلاص من شر الغابر، ولا يزال ذلك الميل في الأغنياء، قليلًا، والفقراء لا يستطيعون إلى البذل سبيلًا، ولكن ذلك لا يضعف الأمل في نجاح العمل".


***

رسالة من محمد عبده إلى أحد العلماء


حضرة الهمام الفاضل، بقية الأفاضل، وتذكرة الأوائل، العالم الفاضل، مولوي محمد واصل.

لم يسبق لي شرف معرفتك، ولا فضل مكاتبتك، ولكن تجلت لي أوصافك العلية، وفضائلك القدسية، في قول أصدق الناس لسانًا وأثبتهم بيانًا حضرة أستاذي السيد جمال الدين، أيده الله بعنايته، فكنت بذلك أشد الناس تعلقًا بمزاياك، وأشوقهم لنيل الحظ من مرآك، وقد كنت حفظ الله كتبت إلى "عارف أفندي أبي تراب" تسأله عن اختياري في زيارة البلاد الهندية، وأظنه كتب إليك بميلي إلى ذلك، وترقب الفرصة للمسير إليه، ورجائي أن يسعدني التوفيق الإلهي ببلوغ الغاية لما أرتقب، ولو لم يكن لي في بلاد الهند سوى رؤية مثلك، والأخذ بالنصيب من معرفتك، لكان ذلك أقوى باعث على السعي إليها، وأحث داع للإقبال عليها، وقد يلوح بخاطري أن أهيء نفسي لذلك في الخريف الآتي من هذه السنة، فمتى عقدت العزيمة بعثت إليك بالخبر، إن شاء الله.

إن ما دعوتني إليه في كتابك "لعارف أفندي" من كتابة رسائل في تنبيه الأمة الإسلامية إلى تلافي أمرها، ومبادرتها إلى جمع كلمتها، صوتًا لنفسها عن التهلكة، وحفظًا لما بقي لها من غول الفناء، فذلك عملي إن شاء الله، وقد رأيت أن أتقدم لك برسالة تبين حال العرب في الجاهلين، على وجه الإجمال، ثم ما ساق الله إليها زمن فيض الخير ببعثه النبي ، ثم أتقدم بعد ذلك إلى ذكر سيرة النبي وخلفائه الأربعة، ثم أختم الكلام، وبعد هذا نأخذ في نشر رسائل ندعو بها إلى الألفة، ونزعج بها عن الخلفة، ورجاؤنا في كل ذلك نجاح أعمالنا، وصلاح أحوالنا، إن شاء الله.

ورسالة "النيشرية" قد نقلناها إلى اللغة العربية، وبدأنا في طبعها، وقد ترجمنا كتابكم إلى السيد، وكتاب السيد إليكم، وقدمناهما في صدر الرسالة، ومتى تمت نبعث بها إليكم، إن شاء الله.

"ونهج البلاغة" قد تم والحمد لله طبعه، وسيرسل إليكم مائة نسخة على حسب طلبكم، نبعث بها إلى "بومباي"، ثم ترسل من "بومباي" إلى "حيد آباد" وثمنها يرسل إلينا، مائتان وخمسون روبية ورق "بنك نوط" هندي، حيث إنه لا يتيسر الإرسال بطريقة أخرى، ثم ليكن في علم حضرتكم أن أثمان هذا الكتاب مخصصة للإنفاق في طريق خيري، والإعانة على أمر عام إسلامي، لا نريد منها ربحًا، ولا نطلب كسبًا، والله الموفق ونرجو من حضرتكم دوام المواصلة، بتواتر المراسلة، والله يتولى رعايتكم، والسلام.


***

رسالة إلى أحد علماء الشام

أنصفني قومك إذ سُرُّوا بتناولي منصب الإفتاء، ولعل ذلك لشعورهم بأنني أغْيَرُ الناس على دين الله، وأحراهم بالدفاع عن حماه، وأدراهم بوجوه الفُرَص عند سنوحها، وأحذقهم في انتهازها، لإبلاغ الحق أمله، أو يبلغ الكتاب أجله، على أنهم مني بحيث لا يفسد نفوسهم الحسد، ولا يتقاذف بأهوائهم اللدد، وكل ذي دين يشتهي أن يرى لدينا مثل ما أحثُّ إليه عزيمتي، وأخلص في العمل لتحقيق نيتي، خصوصًا أن كُفِيَ فيه القتال، ولم يُكَلَّف بشد رحال، ولا بذل أموال.

أما قومي فأبعدُهم عني أشدهم قربًا مني –وما أبعد الإنصاف منهم- يظنون بين الظنون، بل يتربصون بي ريب المنون، تسرعًا منهم في الأحكام، وذهابًا مع الأوهام، وولعًا بكثرة الكلام، وتلذذًا بلوك الملام، أقول فلا يسمعون، وأدعو فلا يستجيبون، وأعمل فلا يهتدون، وأريهم مصالحهم فلا يبصرون، وأضع أيديهم عليها فلا يحسون، بل يفرون إلى حيث يهلكون، شأنهم الصياح والعويل، والصخب والتهويل، حتى إذا جاء حين العمل صدق فيهم قول القائل في مثلهم:

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
وأقول ولا من الخير.

وإنما مَثَلي فيهم مَثَل أخ جَهِلَه إخوته، أو أب عَقَّته ذريته، أو ابن لم يحن عليه أبواه وعمومته، مع حاجة الجميع إليه، وقيام عُمُدهم عليه، يهدمون منافعهم بإيذائه، ولو شاءوا لاستبقوها باستبقائه، وهو يسعى ويدأب، ليطعم من يلهو ويلعب.

على أني أحمد الله على الصبر، وسعة الصدر إذا ضاق الأمر، وقوة العزم، وثبات الحلم، وإن كنت في خوف من حلول الأجل، قبل بلوغ الأمل، خصوصًا عندما أرى أن العمل في أرض ميتة، لو ذابت عليها السماء مطرًا لما أنبتت زرعًا، ولا أطلعت شجرًا، أفزع لذكرى ذلك وأجزع، ويكاد قلبي ينقطع، ثم أرجع إلى الله فأعلم أنه مع الصابرين، وأنه لا يضيع أجر العاملين، فيثلج صدري، وأمضي في جهادي الدائم، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.

ممن أشتكي؟ لو أن ما ألقى كان من لغط العامة، ولقلقة الجاهلين، لهان الأمر، وتيسر المخرج، ولكنه البلاء كل البلاء أن أشد الناس عداوة لأنفسهم هم أولئك المعمَّمون، الذين يبعدون عن الدين مدعين أنهم دعاته، ويمزقون أحشاءه زاعمين أنهم حماته، وما منهم إلا أحد شخصين: شخص ركب هواه فأعماه، فهو يرى الحق باطلًا، والصواب خطًأ، وآخر غرَّته دنياه، وأضله جشعه، فران على قلبه ما يكسب، وامتنع عليه معرفة الصدق من كثرة ما يكذب، ولم يعد للحق إلى قلبه سبيل.

ليتني كنت أشكو إلى الله جهل العالمين وحمق المُعمَّمين في مثل الجاهلين التي بُعِثَ النبي  لمحو أحكامها، وإزالة أيامها، تلك جاهلية كان الضلال فيها بعيدًا، ولكن كان فهم القوم حديدًا، لذلك عندما لاح لهم ضوء الهدى أبصروه، وعندما قرع أسماعهم صوت الداعي أجابوه، كان القرآن يصدع أفئدتهم فيُلَيِّن من شدتهم، ويَفُلَّ من شرتهم، ويُفَجِّر من صخر القسوة ينابيع الحنان والرحمة، وما كان أهل العناد فيهم إلا قليلًا، عرفوا الحق فأنكروه، وطائفة كانوا يفرون منه خوف أن يعرفوه، ولو سمعوا لفهموا، ثم لم يجدوا بدًا من أن ينصروه. وإن الجحود مع الفهم كاليقين في العلم، كلاهما قليل في بني آدم، أما اليوم فإنما أشكو من قلة الفهم، وضعف العقل، واختلال نظام الإدراك، وفساد الشعور عند الخاصة، فلا تجذبهم فصاحة، ولا تبلغ منهم بلاغة، وغاية ما يطلبون أن يُحْمَدوا بما لم يفعلوا، وأن يوصفوا بالعلم وإن لم يعقلوا، وأن تُقْضَى حاجاتُهم إذا سألوا، وأن تُرفَع مكاناتهم وإن تنزلوا، وإنَّ استعداد السامع للفهم يستدر المقال، ويسدد الفكر للنضال في الجدال، أما عيشك فيمن لا يفهم، فإن يُنْضِب منك ينبوع الكلام، ويطمس عين الفكر، ويزهق روح العقل.

جعلني الشيخ "عبد الرزاق البيطار" ثالث الرجلين، وما أنا في شيء من أمرهما، إلا نزر من الهمة، وكثير من معرفة قدرهما.

الحمد لله لا أحصي ثناء عليه، وأشكره وأشكر نعمة مرجعها إليه، وأذكر من نِعَمِه أكبر نعمة أمدني بها، وأكرمني بأسبابها، إحسانه إليَّ بعطف قلب الأستاذ عَليَّ، وتقريبي من فؤاده، وإحلالي مكانًا من وداده، كَرُمَتْ نفسُ الأستاذ فَكَرُمَ فيها مثالي، وكملت سجاياه فتخيل منها كمالي، نسب إلي الشيخ الجليل شئونًا كلها من سرائره، وألبسني من الأوصاف ثوبًا نسجته مظاهره، جعل لي السيد من حسن ظنه معينًا؛ وأفادني بثقته ركنًا ركينًا، وسندًا أمينًا، فأسأل الله تحقيق ظنونه، وأن يمدني دائمًا بدقائق فنونه، وأن ينصرني بولائه، وأن يسلكني في عقد أوليائه، والسلام.
رسالة إلى مناضل سوري

ولدنا الفاضل..

تمنيت لو تمتعت بقربك، كما قُدِّر لي المتاع بأدبك، ولكن أحمد الله الذي يرينا ما نختار، في غير ما يقع عليه الاختيار، فأنت حيث أنت أنفع ما تكون لقومك، تجعل لهم حظًا من عمل يومك، تزحزح عن أبصارهم حجب الغفلة، وتعظهم بما أوتيت من الحكمة، وتهيء نفوسهم لقبول الحق إذا أقبل، وتُعدُّها لمدافعة الباطل إذا أظل، وأسأل الله أن يشد أزرك، ويخفف من ذلك وزرك، ويرفع بعملك قدرك، وأما صلتنا فصلة آمال وأعمال، وهي خير صلة وأوفقها عند الرجال، بارك الله لك في أيامك، ورزقك الخير والسعادة في أعوامك، والسلام؟.

كلمات

* هلاك العامة فيما ألفت.
* إنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه.
* من عرف الحق عز عليه أن يراه مهضومًا.
* لا يكون أحد صادقًا ومخلصًا حتى يكون شجاعًا.
* الذل يميت الإرادة.
* من لا صديق له فهو عدو نفسه وعدو الناس.
* الشباب يحمل ما حمل.


***


* رسالة إلى أحد العلماء

حضرة الأستاذ..

كَأن القدر يريد أن يكون ما بيني وبينك سرًا مكتومًا، ومضمرًا يأبى أن يكون مرقومًا، فقد حاولت مئين من المرات أن أكتب إليك، وكانت تأتي العوائق تحول دون ذلك، كأنني كنت أحاول فتح قلعة، أو محو بدعة، وها أنا اليوم "الجمعة"، عقدت العزم على أن لا أقوم من مجلسي هذا حتى أكتب إليك، أشكر لك صنيعك على ما تدخله علي من السرور، بما تعلم من كثرة الشواغل، وأرجوك أن لا تحرمني من ذلك الفضل الذي بدأت به، وأن لا تجعل لفضل في ذلك نهاية، والسلام.


****

* رسالة إلى أحد الكرماء

لو كان في الثناء، وملازمة الدعاء، وحفظ الجميل، والقيام بالخدمة جهد المستطيع، ما يفي بشكر من يفتتح باب المحبة، ويبدأ بصنائع المعروف، لكنت والحمد لله من أقدر الناس عليه، ولكن أنَّى يكون في ذلك وفاء والمحبة سر نظام الأكوان، والإحسان قوام عالم الإمكان، والقائم على كنه جميعه قيوم السموات والأرض، والمفتتحون لأبواب الغرف على هذه النسبة الجليلة منه، فليس لي إلا أن ألجأ إلى الله في مكافأة فضيلتكم على ما كان منكم أيام الإقامة بينكم ثم أُسَلِّي نفسي عن عجزي بما أخيل أن كرمكم سيروي.

سيكفي الكريم إخاء الكريم
ويقنع بالود منه نوالا

وبعد هذا، أرجو عفوكم عن التقصير في المبادرة إلى المكاتبة، لأني شُغِلت بما شغلني عن نفسي، ولكن زالت العوارض والحمد لله، وفاتني لهذا العذر تهنئتكم بالعيد، وإنما للمؤمن كل يوم بربه عيد، فنهنئكم برضاء الله عنكم، وتقبل صالح الأعمال منكم، وسلامي على نجلكم ومن ينتمي إليكم، والله يحفظكم.


***


* رسالة إلى أحد الأصدقاء

سيدي العزيز..

وافاني كتاب سيد الأحباب، وصفوة الأنجاب، مبتسمًا عن الدر النظيم، وراويًا الذوق السليم، متهللًا بسناء مُنْسيه معجبًا ببهاء مُمْليه جاء بعد ما حل منازل الجلال، ودار دورة الإقبال، ولولا رسل من شوقي إليه، تزاحمت أقدامها لديه، فساقته يد الأقدار، وقادته قود الأوطار، لطال به التسيار "وبرح بي" الانتظار. وصل إليه بعد اثني عشر يومًا من تاريخ كتابته، وإني أقسم به لو زاد في غيبته، وجاء زاهيًا بحليته، تائهًا في جلالته، متقلدًا حسام حجته، مستشهدًا بعدول من حاشيته، على ما نسبت من المطل إلى مودته، لما أقنعني دليله، ولا ألزمني تعليله، لقابلته بحسابه، وسكنت من ضبابه، ولحاكمته محاكمة الود، بين يدي حبي المستبد، ولجازيته جزاء نافر أتعب في الطلب، وشارد أوغل في الهرب، ثم عني بحكم الغلب، أو معشوق بديع الجمال، بالغ في الدلال، حتى أعيا المحتال، ثم ابتلى بغرام العشاق، فابتغى -وهو البغية- وَصْلَ المشتاق، ولعملت له من أشعة البصر حبالًا، أوسعه بها احتبالًا، فيعز عليه الخلاص، ويمتنع المناص، فلا يبرح عن ناظري، ما دام ناظري، ولأبرمت له مبارم العقل عقالًا، أوثقه به اعتقالًا، وأزيد في قيوده سلاسل من الفكر خفافًا وثقالًا، حتى لا يغيب عن الذهن انتقالًا، ولا عن الخيال زوالا، وما أشده من جزاء يكون عبرة لما يليه، فيخشى من نوائبه.

علمني كتابك كيف تناحي الأرواح أشباحها، والجراثيم أدواحها، أو كيف تحادث العقول أفكارها، والقلوب أسرارها، تباينت أجسامنا في عالم الكون والفساد، وتباعد ما بيننا في كون التضارب والعناد، وترفعت نفوسنا عن معارك الأضداد، فتعالينا في جوهر الوداد عن الأنداد، فاتحدنا وليس بعدُ اختلاف، وامتزجنا ولا عن افتراق، وكان واحدنا من صاحبه في مكان الشرف من الفتوة، والكرم من المروة، والقوة من العدل، والكرامة من الفضل، والعلم من الرشاد، والحكمة من السداد، وأستغفر الله أن أكون منك في مقام الأستاذ، متفاوتِ النسب نوع من الجُذاذ، لم يزدني كتابك يقينًا بما أعلم من كرم طبعك، وامتيازك بفضيلة الوفاء بين قومك، ولم يذكر ناسيًا لسابق ودك، ولم ينبه غافلًا عن ذكرك، ولكن كان نورًا على نور، وفصلًا من كتاب عملك المبرور، وسعيك المشكور، ونعمة تشتهي النفس دوامها، ونغمة يلذ للسمع تكرارها.

سرني ما دل عليه كتابك من كمال صحة والدك الماجد، وأخوتك الأماجد، وأعضاء عائلتك الكريمة، وأنجالك بضعة كمالك.


***

* رسائل إلى بعض الأصدقاء

-١-

مولانا الأستاذ العلامة، نفعنا الله بمحبته..

وصل إلي كتابك، تسطع فيه آدابك، ويفيض منه العقل، ويضيء منه الإخلاص والصدق، وما أعظم فضل الله عَلَيَّ، في توجه عنايتك إليَّ، تُعينُ إظهارَ الحق بعد خفائه، وهدم الباطل بعد شموخ بنائه، ولقد أوسع مولانا في التفضل على العاجز عن شكره، المقيم على نشر فضله، وإعلاء ذكره، وأسأل الله أن يتكفل بإثابة مولانا الأستاذ على ما يغمرنا به من نعمة الخطور بباله، وجريان ذكرنا فيما يخط قلمه أو ينطق لسانه.

-٢-

تناولت كتابك، ولم يُذَكِّر مني ناسيًا، ولم ينبه لذكرك لاهيًا، فإني من يوم عرفتك لم يغب عني مثالك، ولا تزال تتمثل لي خلالك.

لو كُشِفَ لك من نفسك ما كُشِفَ لي منها لفُتِنْتَ بها، ولحق لك أن تتيه بها على الناس أجمعين، ولكن ستر الله عنك منها خير ما أودع لك فيها، لتزينها بالتواضع، وتجملها بالوداعة، ولتسعى إلى ما لم يبلغه ساع، فتكون قدوة لإخوانك في علو الهمة، وبذل ما يعز على النفس في نفع الأمة، زادك الله من نِعَمِه، وأوسع لك من فضله وكرمه، ومتعني بصدق ولائك، وجعلك لي عونًا على الحق الذي أدعو إليه، ولا أحيا إلا به، وله، والسلام.

-٣-

لو عُرِضَت علي نعم الله، وفيها عزة الأمراء، وبِزَّة الأغنياء، ووفاء الأولياء، لما اخترتُ منها غير الوفاء، ولعددت نفسي به أسعد السعداء، هذه خِلَّتي -تقبلها الله- وفيها لمهجتي إحياء، بهذا تعلم ما أدخلتَ من السرور علي، فيما كتبت إلي، ولو جعل الله للمحبة شكرًا أوفى بحقها منها لبذلته، ولو قدر لها أجرًا أجزل عائدة منها نفسها لالتمسته وقدمته... نعم كنتُ وجهت كتابي إلى شيطانك، فلاقى الكتاب أكرم نَفْس فيك، فانصرف والحمد لله عنك إلى حيث لا أراه، فاهنأ بكرم محتدك، وزكاء مَنْهاك، والسلام.


****

* رسالة، في الشكر، إلى صديق

لك في قلوبنا من المودة ما يزكيه سناؤك، وفي مناطقنا من الحمد ما يوجبه كمالك، وفي صدورنا من الإجلال ما يرفعه بهاؤك، وما بيننا من المودة لا تحده مده، ولا تخلق له جِدّه، نعيذه من حاجة للتجديد، واستدعاء للمزيد، فلا المواصلة تُربيه، ولا المجاهلة توهيه.

نعم، إن ما يحفظ لك في الأنفس هو تجلي فضلك، ومثال علائك ونبلك، وذلك الخالد بخلود الأرواح، الباقي في تفاني الأشباح.

وبعد، فقد تلقيت منك كتابًا يبوح بسر المحبة، وينشر طي الصداقة فيه تبيان وجدانك مما وجدنا، وتأثّرك على ما فقدنا، فكان نبأ عما نعلم، وقضاء بما نحكمُ. ولكن شكرنا لك فضل المراسلة، وأريحية المجاملة، والله يتولى إيفاءك مثوبة تكافئ وفاءك.


***


* رسالة جوابية

ولدنا الفاضل..

أشكرك لما كتبت إلي أولًا، ولما كتبت وأهديت ثانيًا، وأحمد الله على نعمته الجديدة في معرفتك، وفضله العظيم في إخلاص مودتك، وأسأله أن يجعل ذلك كله في سبيله، وأن يجعل ثمرته خيرًا للإسلام والمسلمين، والسلام.


***


* تهنئة بالترقية

ولدي النجيب..

أنت تعلم ما مازج قلبي من السرور بترقيتك، وليس عندي من عبارة تفي بما تعلم من ذلك، وهذا -إن شاء الله- أول سلم ترقى به إلى غاية ما يسري إليه استعدادك، والسلام.

سنة ١٨٩٣

*****


* رسائل في التعزية

-١-

أعلام. السيادة، وأصحاب السعادة، حضرة سعادتلو الأمير محمد باشا، وحضرة سعادتلو الأمير محيي الدين باشا.

هذا ما وعد به الرحمن وصدق المراسلون، ألا إلى الله تصير الأمور، "إنما الصبر عند الصدمة الأولى".

اليوم غشيتني غاشية الغم، ودهتني داهية الهم، اليوم بلغنا ما أصابنا وأصاب المسلمين ولم يخص الأقربين حتى عم جميع الموحدين، ولم يمس ذوي الأرحام حتى زعزع مجد الإسلام، اليوم شاع على الألسن، وتحدث الكافة أن جناب الأمير الشهير صرف نظره العالي عن مظاهر الحياة الدنيا، واستقبل بتمام وجهه ملكوت ربه الأعلى، وسار بروحه الشريفة عن عالم الفناء، إلى ما أُعِدَّ له من منازل الكرامة في دار البقاء، قد اختار لنفسه ما اختاره الله له، من الاختصاص بجواره الكريم، والاتصال بنور وجهه العظيم، نظر الله إلينا بعين الجبروت، ليصعد بجناب الأمير إلى أعلى الملكوت، سار الأمير إلى ربه، وترك المؤمنين بلا قَيِّم عليهم، ولا وصي يعيد مجدهم إليهم، ولولا اليقين بأنكم أشباله، ولم تفتكم مزاياه وخلاله، لما تعزت الأنفس في البقاء وحده، وللحقنا به اختيارًا لما عنده، كل قول يقال فهو دون محيط الفكر والنظر، ومقام الأمير أجل من أن تصل إلى سرادقاته أشعة البصائر والفِكَر، وليس من كلمة أجمع لكلماته، ولا قول أوفى بفضائله، سوى أنه الأمير عبد القادر الجزائري، فهي منتهى وصف الواصفين، وغاية مدح المادحين، وكفى في مصيبة أهل الإيمان يقال: أصبحوا بلا أمير، وحسبهم تعزية عن مصابهم أنكم بنوه، وورثة فضله ومعززوه.

-٢-

إن كان للحادثات غالب من الهمة، ودافع من العزيمة، ففي همتكم ما يَعْرك أُذُنَ الدهر، ويضرب ناصية الزمان، وإنما أنتم بمكانٍ مِنْ مَنَعَةِ النفس، تمرُّ الملمات، دون أدناه، تتهيب النظر إليه، فضلًا عن الوثبة عليه، فلا يفزعكم جائشها، ولا يستفزكم طائشها، هذا الذي يعزيني بعض التعزية، إذا طاف علي طائف الكدر مما ألم بكم من فقد صاحبة العصمة عقيلتكم.

على أن يقينكم بالله، وتسليمكم لقدره، هو أعلى وأكمل من أن يخالطه جزع من الفراق، وإن كان مر المذاق، فإنَّ من سار عنكم، أقْبَلَ على رحمة من الله ورضوان، فهو في جوار ربه متمتع بلذة قُرْبِه، وإن له لفخرًا بين السابقين، ورفعة بين المقربين، بما أسستم من مجد شامخ، وشرف باذخ، فضاعف له النعمة في حياته الأبدية جنة بالصالحات، وبهجة بالباقيات، واختار الله له دارًا لو خُيِّرَ بين ساعة فيها والتخليد في هذه الدار الفانية لفضل ذلك اليسير على هذا الكثير. نعم يأسف لما أسفتم، ويألم بما ألمتم، فعزوا أنفسكم تسروه وطيبوا بالقضاء نفسًا تفرحوه، واذكروا منزلته في الصديقين تغبطوه.

هذا ما أقدمه إليكم، وهو نزر مما تطويه معارفكم، غير أنه مما أناجي به نفسي تصبرًا وأحدثها به تجلدًا، والله أعلم بما شعر به وجداني عندما بلغ إليَّ الخبر، ولقد كان من الفرص أن أبادر بعرض إحساسي قبل هذا الوقت، إلا أن عقابيل العلة كانت تمنعني النظر في الأخبار، حتى انقشع عني حجابها من مدة قريبة، وما أنا بالناسي وإن أنست الحوادث ذكري، وما أنا بالقاطع وإن زينت الأيام هجري، فصبر جميل، وما العفو عن تقصيري عليكم بعزيز، ومأمولي عرض تحياتي على مقام دولة الباشا، والله يحفظكم للمحبة ويبقيكم للشرف.

-٣-

بسم الله المحمود في السراء والضراء..

هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون. لا حيلة في القضاء ولا أنجع في تلطيفه من الرضاء، وإن في قوة إيمانك، وسطوع يقينك، وكمال عقلك لكفاية في الإنابة إلى الله تعالى، والرغبة فيما لديه من عظيم الأجر، وجزيل الثواب، والتطامن لأحكامه، بقلب شاكر، ولسان ذاكر، وإن مصيبة الفقد وإن جل خطبها، وعظم على النفس خطرها، إلا أن الله تعالى أعد عنده للصابرين أكرم المنازل وأرقى مراتب القرب لديه، وكفى بالصبر فضلًا أن يخص صاحبه بما اختص به النبيون والملائكة المقربون، يقول الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴿١٥٥﴾ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿١٥٦﴾ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴿١٥٧﴾﴾، والموت سبيل تزاحم عليه السابقون واللاحقون، ومورد ينهل منه الخلائق أجمعون:

وما الدهر والأيام إلا كما ترى

رزية حر أو فراق حبيب

ولقد كان حضرتكم في غنى عن تعزية الأحباء، وتسلية الأصدقاء بما آتاكم الله من عزم يُصَدِّع حوادث الأيام، وثبات يهزم غوائل الزمان، وكان يمنعنا الحياء أن نُذَكِّر سيادتكم بما أنتم أعلم، وأن نُقَدِّم إليكم ما هو لديكم أعلى وأرفع، ولكن هذه كلمات نسلي بها خواطرنا على ما ألم بها، من الاشتراك في هذا القضاء الذي امتحن الله به صبرنا وصبركم، وابتلى به إيماننا وإيمانكم، ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴿٧﴾﴾، ونسأل الله تعالى أن يجعل لكم من مثوبته عوضًا على ما أخذ منكم وأن يفرغ عليكم الصبر، وأن يدر غيث الرحمة والرضوان على فقيدتكم الكريمة، وأن يرفع مقامها أعلى عليين، وأن يطيل بقاءكم، ويديم عزكم ومجدكم، وعليكم مني مزيد السلام، وإلى جنابكم الرفيع فائق الاحترام.
رسالة جوابية

لم يلاقنا الدهر إلا بما ألقناه، وما أنكرنا عليه شيئًا عرفناه، وقد جبل الله هذه الحياة من الشوب، وأقام حوباءها من الحوب، فلا تخلص لها منفعة من مضرة، ولا تخلو لها مبرة من معرة، سيطت فيها الحسنات بالسيئات، ومزجت الطيبات بالخبيثات، وإني الزمان عركني وعركته، وضرسني وضرسته، فلئن ضعفت عن كسر شوكته، فلا والله ما فَلَّني بقوته، ولئن صَدَعني فما صَدَعني، وماذا يصنع بمن يُنْزِل أرزاءَه حيث يُنْزِل الناسُ نعماءه، لا يلاقي الرضا عندي إلا ما يرضيه، ولا ينال الجزع مني إلا ما يرديه، أُعْطِيتُ من اليقين مذبة أطرد بها ذباب الهموم، ومن العزيمة جُنَّةً لا تخترقها الغموم، هذا إذا لم أجد من المصيبة خلفًا، ولم أملك لها من العوض طرفًا، فكيف وقد وفر الله عَلَيَّ النعمة في بنوتك، وأجزل لي الخلف في أخوتك، وأسأل الله أن يطمس عين السوء أن تصل إليك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى