د. عصام حسين عبد الرحمن - حنين.. قصة قصيرة

والصباح يملأ بالحروف والكلمات فجوات الليل كنت تكتبنى واصفا إياي بأنف طويل مغروس في زجاج سيارتك الأمامي , وكنت أضع يدي علي وجهي منصتا لأحلامك الحلوة وسارحا مع خيالك الرائع . ألسنا نحي الروح بهذا الخيال؟ الشيء الذي كان يدهشني فيك أنك كل صباح كنت تقص عليّ ما رأيته أنا في الليل من أحلام. لم أكن أنزعج من ذلك كما كنت تعتقد , كنت فقط مندهشا .
بالأمس هاتفتك كعادتى كل مساء,بينما كنت تحشر نفسك بسرعة في قميصك الأبيض الفضفاض كي لا تتأخر عن موعدك وكنت مقتضبا في حديثك , لكنك باغتني بسؤال اهتزت له أركان وجداني سألتني : لماذا لم تحلم ليلة أمس كعادتك؟ ثم أغلقت الهاتف لتتركني وقد تحولت الدهشة إلي قلق من هذا الاستحواذ علي أحلامي.فالحقيقة أنني لم أحلم بالأمس .
جئتني الليلة تشكو الشائعات . كان صوتك حزينا . وكنت استمع إليك بنصف عقل حيث كان النصف الآخر قلقا . قلت أنك تفكر أن تتجاهل هذا الأحمق ،الذي ظلّ يسعى لخراب ما عمرته أنت بجهدك من سنين .
قلت لك حدثني عن الموت ? فأفضت وثرثرت كثيرا لكنك أبدا لم تخبرني أن الموت الحقيقي يأتي مع موت الخيال فينا .
ولأني نسيت أن أسألك ،كيف كنت تري أحلامى ، وترويها لي باليوم التالى ،
قلت لك
فلنحكي يا صديقي. ولا داعي لأن تقص عليّ أحلامي لاحقا.. سأحكي لك الآن ما أراه أمامي،فلربما حظينا معا بالمشاركة فيها.
"
دخلت بالأمس بوابات المدينة القديمة , على أبوابها كان يقف الحراس وقد أشهروا كل أسلحتهم في وجهي , سألوني عن هويتي وعن سبب الزيارة , قلت لهم أنا كنت من سكانها , ابتعدت لفترة طويلة واليوم عاودني الحنين إليها .بعد وقت طويل واجراءات معقدة، سمحوا لي بالدخول، راقبوا كل تحركاتي ورصدت خطوات تتبعني طيلة وقتي بالمدينة. الحقيقة أنني لم أكن أرغب في العودة إليها إلا رغبة في المعرفة ، وطمعا فى التغيير. اشتد الزحام . كنت بينهم كالتائه في بحر الفكر , أبحث عن فكرة حلوة تنير ليلي الطويل وتحجب أحلامي عنك فلا تقصها عليّ في الصباح. أنا لا أحلم الآن بل أسير بلحمي وشحمي بطرقات المدينة وأدون ما أراه. في أقصي الجانب الشرقي من المدينة كانت هناك أكوام من الكتب التي أنارت الكون يوما ما, رأيتها وقد غطاها الكرب وسكن صفحاتها الموت , حاولت لمسها فهاجمتني أسراب من الغربان ظلت تنعق في وجهي وتصدر أصواتا جنائزية , بدت لي الغربان وكأنها نسوة متشحات بالسواد يولولن ويندبن ويشققن صدورهن حزنا علي سطور كتبت من نور واليوم تعتم صفحاتها. وقف الحراس يراقبون ما يحدث وعندما لاحظوا أني قد أطلت في الجلوس , جاء كبير الغربان وأراد أن يبعدني , انشقت السماء وخرج منها نسر رهيب وبكل قوته انهال بمنقاره علي وجهه، ففقأ عينه اليمني وفر بقطعة لحم بيضاء كانت تنزف في منقاره وفررت أنا أيضا خشية الهلاك وتركته يصرخ من آلامه .أخذت أنفاسا عميقة واستجمعت كل قواي ونظرت إلي آخر شارع طويل ممتد يقطع المدينة ويشطرها نصفين . وقفت . نظرت إلي أعلى. طالعت بعض نسوة المدينة يقفن في شرفات بلا نوافذ ويهتفن بكلمات بدت لي غير مفهومة ،كأنهن ثريات معلقات على الشرفات . فجأة انشقت الأرض وامتلأ الشارع بالباصات تقافزن فيها وهبطن إلي مكان في وسط المدينة حيث تجمعن هناك ورفعن الرايات الحمراء ، في جانب من المظاهرة سمعت امرأة تقول : لم يعد شرف المرأة في نصفها الأسفل ... شرف المرأة الآن في نصفها الأعلى !!
انفضت المظاهرة علي عجل بعد أن ساد اللغط حولها فانصرفت قبل الزحام
خلف الشارع الرئيسي , كانت مجموعة أخرى من النساء ، رايتهن وملابسهن كلها من السواد ،عقدن جلسة لمحاكمة الممثل عادل إمام وفي النهاية قرروا إعدامه . لم أستطع حينها يا صديقي الصمت ،فاعترضت وبشدة علي هذا الحكم
في تلك اللحظات كدت أن أهلك لولا أن انقض النسر الذي فقأ عين الغراب ? التقطني من بين أيديهن . رحت في سبات عميق بعد أن وضعني النسر تحت شجرة صفصاف علي ضفة النهر . أفقت علي صوت ينادي عليّ ... نعم صوت جاء من الأعماق ورأيتك هناك علي الضفة الأخرى للنهر تحمل تلك الكتب التي كان قد غطاها الكرب تحاول أن تزيل كربها .... انفرجت أساريري عندما رأيتك .. قلت : تعال أعبر النهر، أنا أنتظرك
: لا أعرف العوم فهل لك أن تأت لتأخذ بيدي
وبينما نحن كذلك لا نعرف من يأت للأخر جاء النسر العملاق وقد حمل بجناحيه حنين , جاءت كالحلم الجميل الجديد، تبتسم بجنون وتقول سأظل معكما للأبد فحملها النسر بمنقاره وحمل كل منا علي جناح من جناحيه و حلّق في السماء .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى