ثلاثة أسئلة مع القاص عبد الله البقالي.. أجرى الحوار: يوسف بخوثة

“بكل تأكيد أن من يعيش على لون وحيد شاحب فـي أرض معزولة قاحلة، لا يمكن أن ينصب وصيا يتولى تحديد مفهوم الجمال والفن لمن يعيش بين الغابات والثلوج.”

أولا: الكاتب والقاص المغربي عبد البقالي مرحبا بك في القلم الأسود، ونود في البداية أن تقدم لنا تجربتك الإبداعية التي تتمثل في ثلاث مجموعات قصصية؟

شكرا جزيلا للقلم الأسود على هذا الاهتمام الذي سعدت به…

بخصوص السؤال الأول أقول كجواب عنه: تجربتي مختصرة الآن في ثلاث مجموعات قصصية ورقية. وإصدار إليكتروني عبارة عن ترجمة لنصوص من العربية إلى الفرنسية. وقد أنجز هذه الترجمة المترجمة التونسية السيدة فتحية حيزم. والسيد مرتضى العبيدي. وللعلم فقد أصدرت مجموعتي الأولى” الخبز و الأحلام” في 2004. ثم ” أنفاس وهوامش” 2006. و أخيرا ” أصداف الدهور” في 2020.

باكورة التجربة كانت “الخبز والأحلام”. حاولت من خلالها رصد التحولات الإجتماعية الممتدة عبر أربعة عقود من الزمن. وهو رصد تحول سار تطوره عكس منحى تطور الحياة. إذ ابتدأ من الأعلى و انتهى إلى الحضيض. وكتجسيد للفكرة يمكن القول أن الكائن انتقل من محاولة فهم ما يجري حوله من خلال تعميق وعيه، إلى مجرد ربوت همه الوحيد البحث عن لقمة. وكل ذلك تماشيا وبتوازٍ مع تطور في مستوى أعلى انتقل فيه الفاعلون المؤثرون من محاولة تحقيق قفزة على مستوى نوعية حياة للمجتمع ككل، وذلك من خلال استنهاض الهمم وتحقيق الرقي، إلى مجرد مدبرين ما تفرزه الأزمات، والشيء الوحيد الذي حرصوا عليه في النهاية هو الحفاظ على مواقعهم. وهكذا نجد ذلك التراوح بين الجنوح لتقليص الفارق بين ما هو معاش، وبين الحلم كطموح لتحقيق ما يجب أن تكون عليه الحياة فعلا.

بخصوص” أصداف الدهور” فالفارق الزمني بينها وبين آخر إصدار تجاوز عقدا ونصف. و أظن أن الواقع كان قد حبل بمتغيرات كثيرة وصار واضحا بفعل المستجدات والتحولات أن مساءلة الحاضر للماضي صارت أكثر إلحاحا. و صار جليا أن الولوج للمستقبل يتطلب قِنًا لا يمكن استعارته من أحد. إذ أن ثقافة المجتمع المنقحة هي العامل الوحيد المؤهل الذي من شأنه أن يساعد في تركيب الشفرة المطلوبة. وحتى حين تحضر الذاكرة، فذلك ليس من باب تقديسها، بل من أجل تقديم ما يمكن أن تختزله من عبر من أجل اختصار ما تتطلبه الصحوة من وقت لأجل تدارك ما فات وتصحيح ما زاغ.


ثانيا: في مجموعاتك القصصية هاته وكذا النصوص التي تنشرها على صفحاتك على مواقع التواصل الاجتماعي تحضر الحكاية الشعبية، كيف وظف الكاتب عبد الله البقال الحكاية في إغناء القصة القصيرة بمقوماتها الأدبية؟ وهل للنوستالجيا دور وتأثير على مخيفة الكاتب ليعيد إحياء الحكاية القديمة؟

في عمل مميز لـ” إيف تولستوي” صدر في شكل دراسة تولت الجواب عن سؤال: ما هو الفن؟ يفيد أن الفن هو كل شكل تعبيري ينقل الشحنة إلى المتلقي. أكان ذلك الجنس شعرا أو نثرا أو تشكيلا أو تمثيلا أو موسيقى أو أي شكل تعبيري آخر. وهو يرفض أي وساطة بين المنتوج الفني والمتلقي، بما في ذلك ما يقوم به الناقد. شخصيا أتبنى هذا التعريف. ومن هذا الباب يصبح تصنيف “القديم و الجديد” متجاوزا. ليصبح معيار نقل الشحنة أو تحقيق المتعة هو المهم. كما لا يجب أن يكون مقياس ارتباط المنتوج بـ(الظرفي) هو أساس القبول أو الرفض. بل يجب ربطه بما هو أعم و أشمل، كالارتباط بالمثل الانسانية الخالدة المتمثلة بالسعي إلى تحقيق الحرية والكرامة و العدالة. ولذلك على سبيل المثال نجد أن ” ألف ليلة و ليلة” لا تزال تستطيع أن تمارس علينا فعل الإدهاش الذي مارسته على من عاصروا ولادتها، وستظل تمارسه حتى على الأجيال في قادم العصور. ومن هذا الباب أجد أن الحكايات التي تصنف ” شعبية” هي قبل كل شئ مجرد مقتطف مرحلة من مراحل حوار الإنسان مع ذاته أولا، ومع ما يحيط به ثانيا. وهي إن بدت متأثرة بأشكال فنية متجاوزة، فمضمونها يبيح لها أن تظل حاضرة و بقوة على أساس قيمة ما تقدمه. و لذلك فكل ما تحتاجه هو بعض الاجتهاد على مستوى تقني. ولا شك أن التجاوب الكبير الذي لقيته بعض المحاولات ك” الوردة الحمرا” و “عجين وفحولة” يثبت أنها لا تزال قادرة على حمل الإجابات عن كثير من الأسئلة.

هل هي للنوستالجيا دور تأثير؟ بكل تأكيد نعم. فالحكي كانت أجواؤه وطقوسه هي التي تصنع حميميته. و الراوي كان يتحول إلى ما يشبه قلبا يتحكم في تدفق الدم في الشرايين. فيبطئ أو يعجل و يشرع سريان الدم المشكل من الدهشة ومزيج من الفرح والخوف، مستمتعا حينا بأقصى حد من ذاك التشكيل الذي كان يصنعه حكيه رسوما على صفحات المخيلات. فيعمد إلى تلطيفها حينا أو جعلها أكثر قتامة أحيانا أخرى تماشيا مع ما كان يخطط له من أجل توظيفه في حياة الصحو. لكنه كان ينجح في أن يلهم ويلهب الخيال لحد كانت تصير فيه ليالي الحكي أهم ما كان يمكن أن يحدث في اليوم بأكمله.


ثالثا: غفساي القابعة في الجبل حاضرة أيضا في نصوصك الأدبية والآخرة، كيف يبرز لنا الكاتب الموروث الثقافي الجبلي؟ وماذا عن هذا الأخير وحضوره في الثقافة الشعبية المغربية؟

“غفساي” بالنسبة لي هي بغهمية وقائع “ماكندو” في رواية ” مئة عام من العزلة” أو “جيكور” بالنسبة للسياب. وهنا حين أتحدث عن غفساي، فأنا لا أقصد ذلك الموقع أو تلك القرية المحددة جغرافيا. بل كل ما يحيط بها كجغرافيا ممتدة وكتاريخ ضارب في القدم. وهذا يجرني إلى الحديث عن قبائل “بني زروال” والقباىل الأخرى المجاورة. و يكفي القول هنا أن “بني زروال” شاركت بـ 42 ألف مقاتل في معركة وادي المخازن. وشاركت بما يفوق هذا العدد في المعركة الفاصلة التي أوقفت زحف الأتراك. و ساهمت إلى جانب أربع قبائل أخرى في ملحمة ” اغزاوة” و معركة ” البيبان” في ماي 1925. هذا إلى جانب معارك متفرقة هنا وهناك. و لأنهم صناع مدنية، فإسهامهم الحضاري كان بنفس التوازي مع كفاحهم الحربي. ويكفي القول هنا أن الكتاتيب القرآنية بمنطقة “بني زروال” كانت محج طلبة العلم من كل جهات المغرب. وأن الطلاب كانوا يلقون كل الدعم الذي تحتاجه سنوات طويلة من الدراسة. وكان سكان الدواوير يتباهون بأعداد الطلبة المعتمدة لديهم. وقد نتج عن هذا الواقع طقوس عدة. وأسوق هنا كمثال أن من كان يرفض إعطاء ” التحريرة” للفقيه، كان يكسر قلم القصب على عتبة منزله. وهذا لم يكن يقل عن اللعنة في نظر عامة الناس. وليس صدفة أن يستقر بهذه المنطقة علامة وإماما بوزن ” الحاج الشطيبي” …

في الجانب الثقافي يكفي القول أن مفهوم الأدب العجائبي أو الغرائبي ظهر هناك قبل عقود من “جارييل غارسيا ماركيز” من خلال ” بايطرو” الذي كان يطوف القرى و الدواوير و لا يتوقف عن الحكي. والمجال الفني غني جدا لحد يمكن اعتماد ما قدمه لدخض مزاعم الوهابية في كونه بوابة الانحلال الخلقي ومحرض على الإنحراف للحد الذي وجب تحريمه. فالغناء الجبلي على سبيل المثال هو السجل التاريخي. و هو المرسخ للهوية. و المستنهض للهمم وقت الحروب. و هو الداعم للأخلاق ومحاربة الإنحرافات…

وبكل تأكيد أن من يعيش على لون وحيد شاحب فـي أرض معزولة قاحلة، لا يمكن أن ينصب وصيا يتولى تحديد مفهوم الجمال والفن لمن يعيش بين الغابات والثلوج. ويستمتع بخرير المياه وانسكاب الماء في الجداول مستمتعا بشدو البلابل والطيور.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى