عبد الجواد السقاط - مدينة فاس في الشعر المغربي

تشغل المدينة حيزا واسعا في مجال الكتابة التاريخية عند العرب منذ عهد بعيد، وخاصة ما تعلق منها بالمدن المقدسة، كالمدينة المنورة، ومكة المكرمة، والقدس الشريف، (1) كما تحتل هذه المدينة مركزا مماثلا في الساحة التصنيفية لدى المؤلفين المغاربة – قدمائهم ومحدثيهم – سواء كانت الكتابة في هذا المجال مرتبطة بتشييد المدينة، أو عمرانها، أو جغرافيتها، أو تصنيف علمائها وأدبائها، أو استعراض أحداثها ووقائع تاريخها، أو ما إلى هذا وذاك من جوانب وآفاق تلقي من الإضاءة على هذه المدينة أو تلك، ما يبرز أهميتها، ويعكس فعاليتها في تشييد صرح الحضارة مغربيا، وعربيا، وإسلاميا، وإنسانيا بوجه عام.(2)
على أن هذا الاهتمام بالمدينة لم يقتصر في بلادنا على مستوى الكتابة النثرية وحدها، بل تجاوز ذلك إلى مستوى الإبداع الشعري، شأنه في ذلك شأن الشعر العربي عامة، إذ تطالعنا نصوص شعرية كثيرة أبدعها أصحابها من الشعراء المغاربة في موضوع المدن، سواء هذه المدن:
1) في بقاع تتجاوز حدود المغرب، وخاصة منها:
أ- المدن المقدسة، منذ أن قال القاضي عياض (3) متشوقا إلى المدينة المنورة باعتبارها مهاجر الرسول "، ومأوى قبره الطاهر (كامل):
يــادار خير المرسـلين ومن بـه
هــدي الأنـام وخـص بالآيـات
عنـدي لأجلـك لوعــة وصبابـة
وتشـوق متـوقـد الجمـرات(4)
ب- المدن التي تعتبر معبرا نحو الديار المقدسة، وممرا لركب الحجاج إليها، على غرار أبيات قالها الرحالة أبو عبد الله محمد العبدري(5) على لسان مدينة تونس، وهي إحدى المحطات في طريق الحجيج المغاربة نحو مهبط الوحي (طويل):
أنا الغادة الحسنـاء فـاق جمالهــا
فقالت يمينا لا خطبت علـى زوج
إذا الغانيات ارتـدن وصـل بعولـة
فما بي ولا فخر إلى الزوج مـن حـوج
أغادي إذا ما شئـت ظبيـا بقفـزة
وأطـرق نون اليـم في ظلـم المـوج
وفي لمكـدود الحجيـج استراحـة
فهم يردوني الدهر فوجا على فـوج
وإنـي إلى البيـت العتيـق كسلـم
بـه يرتقي من في الحضيـض إلى الأوج(6)
ج- المدن التي تثير اهتمام الشاعر المغربي، وتهيج وجدانه وقريحته، إما إعجابا بطبيعتها وجمالها، أو تحسرا على أوضاعها وظروفها، أو ما إلى هذا وذاك من ألوان العواطف البشرية المتباينة، سواء في ذلك:
• المدن العربية والإسلامية، كالأبيات التي نقرأها للشاعر أحمد الصبيحي(7) حول مدينة الجزائر، إذ يقول (وافر):
تبسم ضـاحكـا ثغــر الجزائـر
وأضحــى حبــه في كـل زائـر
بموقعـه الجميـل علـى الروابـي
بشاطي البحـر فـي أبهـى المناظر
ولا سيما بليــل حيـث يبـــدو
بأنـوار تحيــر كــل نـاظـر
وقــد زانتــه أشجـار علـتـه
كـحسنــا زانهـا سـود المحاجر
فـــواللــه لا أنسـى سنــاه
ولو سارت بي السفـن المواخـر(8)
• المدن الغربية، ونمثل لها لقصيدة للشاعر جعفر الناصري (9) في مدينة باريز نقتطف منها قوله (بسيط):
باريس قد حزت في ذا العصر منزلة
وتهت عجبا على الأحيـاء والمـدن
لازال ربعك مأهـول يطيـف بـه
أهل الخلاعـة والمجـون والدنـن(10)
2) داخل التراب المغربي، كما تشهد بذلك نماذج كثيرة تحتفظ لنا بها جملة من المصادر والمظان حول مدن مغربية كثيرة، خاصة منها مدينة فاس، وهي المجال الذي يعيننا في هذا البحث، والذي وإن كانت نماذجه كثيرة كما أسلفنا، إلا أننا سنختزل منها ما يغني عن غيره، وإلا لاحتاج منا الأمر إلى صناعة ديوان حافل ضخم يضم كل ما قيل في هذا الباب، ولا سيما إذا علمنا أن مدينة فاس تعتبر من أخصب المجالات التي اتجه إليها الشعر المغربي بدءا من الفترة المرابطية مع يوسف بن النحوي مثلا (تـ 513) إلى الفترة العلوية على امتداد مراحلها مع الحسن بن مسعود اليوسي (تـ 1102هـ) ومحمد بن زاكور الفاسي (تـ 1120هـ) ومحمد بن الطيب العلمي (تـ 1134هـ) ومحمد بن أبي بكر اليازغي (تـ 1238هـ) ومحمد بن التهامي بن حماد المكناسي (تـ 1249) ومحمد غريط (تـ 1364) ومحمد المهدي الحجوي (تـ 1376هـ) ومحمد القري (تـ 1930هـ)، مرورا بالمراحل الأخرى من موحدية مع عثمان بن عبد الله القيسي السلالجي (تـ607هـ) وأبي العباس الجراوي (تـ 609هـ) ومرينيه مع محمد بن عبدون المكناسي (تـ658هـ) ووطاسية مع أبي عبد الله المغيلي (تـ 909هـ) وسعدية مع محمد الوجدي الغماد (تـ 1033هـ).
وإذا نحن ركزنا على نماذج هؤلاء الشعراء أو بعضها على الأقل بدت لنا مدينة فاس من خلالها نابضة بالحياة والحركة، انطلاقا من ثنائية الطهارة والتشوه، أو قل ثنائية الجمال والقبح، وإن على الصعيد المادي أو المعنوي، والتي يغطي محورها الأول رقعة واسعة في ساحة الإبداع الشعري ببلادنا، في محاولة لإبراز العديد من الجوانب التي تميز هذه المدينة، والتي يمكن أن نصنف الأشعار المرتبطة بها إلى جملة عناصر نذكر منها:

أولا: العنصر الطبيعي:
ويبدو أنه الأكثر غزارة إذا قيس بغيره من العناصر الأخرى، ومرد ذلك، فيما نحسب، إلى ما تحظى به مدينة فاس من جمال في الطبيعة، وكثرة في المياه، وطيب في الهواء، ووفرة في الضياع والبساتين، الشيء الذي جعل الكثيرين من شعراء المغرب يرتبطون بها في هيام وعشق، ويلتقون في إفراز ما يعتلج بنفوسهم من عواطف وأحاسيس حول مفاتنها، ومظاهر روعتها وبهائها، مهما اختلفت طرائق تعبيرهم، وتباينت مستويات صياغاتهم، وتصويراتهم، ذلكم الاختلاف والتباين اللذان نلحظهما من خلال استعراض جملة من النماذج تتسع على المستوى الزماني لتشمل أكثر من عصر، كما أسلفنا، وكذلك على المستوى المكاني لتغطي أكثر من منطقة ينتمي إليها الشعراء المعنيون.
وإذا كان هذا العنصر الطبيعي، قد استهوى الكثيرين من شعراء المغرب في أكثر من مدينة، فإن مدينة فاس تقف في وسط هذا الزخم المتراكم لنظفر بنصيب كبير من الإعجاب والثناء، ونأخذ حظا واسعا من الشوق والحنين، على غرار ما نقرأ لأبي عبد الله المغيلي(11) في وصفها، والحنين إليها، حين ولي القضاء بمدينة أزمور:
يا فاس حيا الله أرضك من ثرى
وسقاك من صوب الغمام المسبـل
يا جنة الدنيـا التي أربـت علـى
حمص بمنظرها البهـي الأجمـل
غرف على غرف ويجري تحتـها
ماء ألذ مــن الرحيـق السلسـل
وبساتن مـن سندس قد زخرفـت
بجداول كالأيم أو كالفيصـل(12)
أو ما نقرأه لمحمد الوجدي الغماد(13) وهو يحن إليها بعدما فارقها مضطرا (طويل)
بعـاد وبـين كـل ذاك يـهـون
فهل عودة بعد النـوى وسكــون
هل أطأن جسر الرصيف وهل لنا
بمخيفـة بعـد الظعـان قطـون
هل أردن ماء المعادي على الظما
وهل يبدون لي سهلهـا وحـزون
وهل لي إلى تلك المنـازه نزهـة
وهل لي على وادي الجواهر جلسة
بلادي التي أصبو مقيما وظاعنـا
إليها قلبي منـذ نشأت حنيـن (14)
وكذلك ما نقرأ ليوسف بن النحوي (15) في مدحها، ووصف طبيعتها، ولاسيما ما يتخللها من مياه صافية عذبة (بسيط):
يا فاس منك جميع الحسن مسترق
وساكنون ليهنيهـم بمـا رزقـوا
هذا نسيمـك أم روح لراحـتنـا
وماؤك السلس الصـافي أم الورق
أرض تخللهـا الأنهـار داخلهـا
حتى المجالس والأسواق والطرق(16)
وربما كان وادي الجواهر بالمدينة، وما يحيط به من رياض ومنتزهات أهم ما جعل الأمير المولى محمد بن المولى إسماعيل(17) يتشوق إلى فاس، ويستعذب المقام بها، إذ قال وهو يرسم لوحة رائعة تلتقي فيها عناصر المتعة والجمال، وتتجمع فيها خيوط الفتنة والبهاء من زهر وطير ونوء وغصن وغيرها (طويل):
ألا ليت شغري هل أنزه ناظـري
وللنفس إقبال بوادي الجواهـر
أمتع طرفي فـي ريـاض أنيقـة
وأقطف أزهـارا بها كالزواهـر
بحيث نرى أسد العرين صريعـة
وقد فتكت فيهـا ظباء المقاصـر
وحيث نرى غلب الحدائق سلسلـت
حديثا صحيحا عن نسيم الأزاهـر
وقد نسجت كف النسيـم عشيـة
دروع مياه بيـن تـلك النواعـر
وأصبحت الأطيار فوق غصونهـا
فصاحا تقص فوق خضر المنابـر
سقى الله أدواحا بفاس غصونهـا
تغزل أنواء الغيوث المواطــر
ولا برحت عين تـراها قريـرة
وإن قذفت بالقلب جمرة حائر(18)
وكذلك الأمر بالنسبة للشاعر محمد بوعشرين (18 مكرر) الذي بلغ بع إعجاب بهذا الوادي إلى حد مقارنته بنهر النيل بمصر، بل إلى تفضيله على نهر الفرات بالعراق (طويل):
سلام على فـاس ووادي الجواهر
سلام محب مـن صميـم السرائر
إلا أيها الـوادي الرفيـع مكانـة
أتـذكر عهـدا مـن مودة زائــر
فإنك صنو النيل ذوقـا ومنظـرا
وأجمل من نهـر الفـرات لناظـر
وفي سهلك الباهي الرحيب مسرة
ومن شاطئيك الزهـر حيا بعاطـر
سلكتـك طـولا للتفسـح مـدة
وجزتك عرضا بالقطـار كطائــر
أحييـك تذكـارا لسالـف مـدة
وأهديـك أشعارا تحيــة شاعــر
وثق أنك المحبوب ماء مسلسـلا
ولازلت مقصودا لباد وحاضـر (19)
ويستمر هذا الوادي حاضرا في ذاكرة الشعراء المغاربة، يحتل مكانه من بين غيره من عناصر الطبيعة التي تزخر بها المدينة، والتي تجعلها فتنة المشاعر والعيون، وقبلة الآمال والأشواق، كما هو الحال بالنسبة للشاعر محمد غريط (20) الذي يملك عليه الوادي جوارحه ومشاعره، فيسلمه ذلك إلى الإفاضة في الإعجاب به، والتنويه بجماله وبهائه، إلى حد تفضيله على وادي أبي رقراق، المنساب بين عدوتي سلا والرباط (كامل):
وادي الجواهر متحق الأحـــداق
ومكـلل الأفكـــار والأذواق
واد جرى وسط البسيط مسلســلا
يروي غليل الوجد والأشـواق
واد له لون اللجين ونفحـة الــ
ـعطر النفيـس وخفـة الترياق
إلى أن يقول:
رقـت طبيعتــه وراق جمالــه
فغدا يتيه على أبي رقراق(21)
وتتنامى هذه العلاقة بين المشاعر المغربي ومدينة فاس، لتتجاوز مشهدا واحدا من مشاهدها، إلى كافة هذه المشاهد الطبيعة التي تملك عليه إحساسه ووجدانه.
فهذا الشاعر محمد المهدي الحجوي(22) يذوب فؤاذه حنينا إلى هذه المدينة، واشتياقا إلى مفاتن طبيعتها الأخاذة (كامل):
شوقـي إلى فـاس أذاب فؤادي
فمتـى تبـث حبائل الأبعــاد
ومتى أرى تلك المعاهد أنـها
نور العيـون وبرأة الأكبــاد
ومتى أحيي شاهقا مــن دورها
أو باسقـا من بأنها المتهــادي
ومتى أجيل الطرف في عرصاتها
وأمـده بهضـاب ذاك الـوادي
ما بين محمر ومخضـر علــى
نسق يجيز توافـق الأضــداد
والريح تنشر روحـها بحدائـق
قد جادها صوب الغمـام الغـادي
وجداول الماء المعيـن تخللــت
أغصانها وترقـرقت للصــادي
والظل ممدود على أرجائهـــا
والطير من فوق الغصون تنـادي(23)
ولعل هذا الشعور من الشاعر وأضرابه، سواء ممن عاصروه أو تقدموه، لم يزل متصاعدا متناميا إلى درجة أصبحت فبها المدينة جنة الآفاق، وفردوس الوجود، تسمو على كل مدينة غيرها، بل تسمو على أقطار بأكملها، كما يتضح من أبيات محمد الفاطمي بن الحسين الصقلي (24) وهو يعلي كعبها فوق الشام والأندلس، قائلا وهو عنها بعيد بمراكش (بسيط):
حي الحيا الواكف الأرجـاء من فاس
دار تطيب بهـا الطيـب أنفاسـي
قد أصبحـت جنـة الآفاق حيث بها
طاب النسيم ولـذ المـاء للحاسـي
تفوق أندلسـا والشـام نضرتهـا
كما يفوق بنوهـا جملـة النــاس
فارقتها جاهلا طيـب الحياة بهــا
والجهل يلقي الفتى في البؤس والباس(25)
ولئن وجدنا من الشعراء من يقلل من
شأن هذه الجنة، ويفضل عليها غيرها كما فعل محمد بن عبدون بن قاسم المكناسي(26) الذي فضل على فاس مدينة مكناس، وخاصة من حيث ماؤها وهواؤها قائلا (الكامل):
إن تفتخر فـاس بمـا في طيهــا
وبـأنهـا فـي زيهـا حسنـــاء
يكفيك من مكناسـة أرجـاؤهــا
والأطيبان هواؤها والمـــاء(27)
نقول: لئن وجدنا مثل هذا الموقف – وإن كان قليلا نادرا – فإنه لا يغير من نظرة العديد من الشعراء لهذه المدينة، واعتزازهم بما حباها به الله من جمال ورونق، ومن طبيعة فتانة تغنى بها الشعراء منذ القديم، ولا زالوا يتغنون، كما نقرأ من قصيدة للشاعر محمد بن الطيب العلمي(28) يستهلها (متقارب):
عرفـت البــلاد وأقطارهـا
كما تعـرف الطيـر أوكارهـا
فلم تصبني غيـر فـاس التـي
يهيـم بهـا كل مـن زارهــا
إلى أن يقول:
لئن كنت أخرجت من جنــة
فإنـي أحـدث أخبـارهــا(29)
وكما أفاض في التعبير عن ذلك الشاعر محمد المهدي الحجوي المتقدم، وهو منبهر أمام روعة المهدي الحجوي هذه الجنة، متحسر على رحيله عنها قصيدة أولها (مجزوء الرمل):
أغصــون البـان ميــلــي
واشـربــي مــن سلسبيــل
بيـــن جنــات ونهــــر
في حمــى ظــل ظليـــل
هــذه جنـــة فـــــاس
حـفهــا كــل جميــــل
هــذه جـنــة قـومـــي
كيــف أدعــى لـرحـيـل
إلى أن يقول:
أي أرض أرتـضيهــــــا
بعـــد فــاس لحـلولـــي
أي أرض أنتقيها هل لفاس من مثيل
هــل لفـــاس مــن مثيــل
مـا رحلنــا عــن حمـاهــا
لــو وجــدنا مـن سبيـــل
غيـر أن الـدهـر يشـهـــى
بـعـد خـل عـن خليـــل(30)

ثانيا- العنصر الاجتماعي:
وهو جانب لا يخلو من نصوص تبرز الشيم التي عليها أهل المدينة، انطلاقا من
ثنائية الجمال والقبح دائما، إذ يتفرع هذا العنصر إلى مستويين اثنين: أحدهما يعتز بأخلاق أهل المدينة، ويشيد بمحامدهم ومكرماتهم، بينما يطعن ثانيهما في هذه المحامد، ويرفع ضد الأهالي راية الشتيمة والقذف.
وهكذا نسجل في المستوى الأول قول محمد المهدي الحجوي المتقدم من قصيدة وهو يشيد بأهل مدينة فاس (كامل):
كلأ الإلــه أحبـة بربـوعهــا
صانـوا عهــود محبتــي وودادي
لا غرو قد ورثـوا المكـارم مـاجدا
عن ماجد موصـولــة الإسنــاد
وربوعهـم مـا قد عـرفـت فيا لها
أرضـا بهـا متقلـب الأمجــاد(31)
ولذلك فهو يأمل العودة إلى فاس ليلتئم شمله بهؤلاء القوم، ويسعد بلقياهم من جديد (كامل):
صحبـي رعـى الله الـمودة بيننـا
ورعـى حمـى قـد لمنـا لرشـاد
إنـا لتجمعنــا عـواطفنــا إذا
حالـت مدائــن بيننــا وبــواد
فعسـى يلـم الدهـر يومـا شملنـا
ويجـود بالإسعـاف والإسعـاد(32)
وإذا كان هذا الشاعر ينعتهم بالوفاء وصيانة العهد، ويجل فيهم أمجادهم ومكارم أخلاقهم، فإن محمد التهامي بن حماد الحمادي المكناسي(33) قد سبقه، فأفضى عليهم هالة الجود والعرف، ووسمهم بالفضل الأثيل، والكرم العريق (طويل):
أبى الجود إلا أن يكـون لكم عبـدا
ولا العرف إلا من أنـاملكم يسـدى
ملكتم ملاك الفضـل قدمـا وحـادثا
فأضحت إليكم كل مكرمـة تهـدى
ولو نسبـت يومـا لغيـر جنابـكم
لكان على وجه المجاز حوى بعدا(34)
وعلى غراره قال فيهم محمد بن أبي بكر اليازغي الزهني(35) (طويل):
خليلـي إن الفاسيـيــن لجوهــر
على جيـد هذا الدهر لاح وأبـرقـا
صغيرهـم للمجـد يسـرع يافعــا
وأكبرهم فوق السماك قــد ارتقـى(36)
على أننا في المستوى الثاني لا نجد كذلك إلا نصوصا قليلة تجرد أهل المدينة من كل مكرمة وفضل، فترميهم مثلا بالأنانية والتكبر، كما يفهم من قول عثمان بن عبد الله القيسي السلالجي(37) في أهل مدينة فاس (بسيط):
خذوا ضمانـي ألا تفلحـوا أبــدا
ولو شربتم مداد الكتـب بالصحـف
أنتـم صغـار كبـار عنـد أنفسكـم
هل يهتدي من يقيس الدر بالصـدف(38)
وقول أبي العباس الجراوي(39) (طويل):
مشى اللؤم في الدنيا طريـدا مشـراد
يجـوب بـلاد الله شرقـا ومغربـا
فلمـا أتــى فاســا تلقـاه أهلهـا
وقالوا لـه أهـلا وسهـلا ومرحبـا(40)
وكذلك من قول اليوسي المتقدم حين أتاهم عالما فلم يحفلوا بعلمه (كامل):
ما أنصفـت فــاس ولا أعلامهــا
علمـي ولا عرفوا جلالـة منصبـي
لو أنصفوا لصبـوا إلي كمـا صـبا
راعي سنين إلى الغـمام الصيـب(41)
وإن كان الشاعر محمد بن زاكور يطعن في هذا الموقف، ويؤكد احتفاء أهل فاس بمقدم اليوسي إليهم، ووفادته على مجالس علمهم وتدارسهم كما يفهم من قوله:
عن نـور هديـك ثغـر الدهـر مبتسـم
يا واحــدا وردت مـن بحــره أمــم
هشـت للقيــاك فـاس إذ حللـت بهـا
وفــاس لـولا سنـا وجـودكـم عـدم(42)
على أن هذه المواقف وأشباهها، لا تعدو – فيما نحسب – أن تكون مواقف شخصية تصفي حسابات خاصة، تصدر عن تجربة عاشها الشاعر مع شخص أو أشخاص معنيين، وفي ظرف معين كذلك، ومن ثم لا يمكن تعميم مثل هذه الأوصاف على كافة أهل المدينة، وإنما هي خواطر شاذة محدودة، وموقف يرتبط بظرفه وعلته، ولا ينسحب على ما سواه.

ثالثا: العنصر الثقافي:
وإذا تحدث شعر المدن في الأدب المغربي عن العنصرين الطبيعي والاجتماعي لمدينة فاس، فإنه إلى جانب ذلك لم يغفل عنصرا آخر له أهميته وشأنه، ذلكم لم يغفل عنصرا آخر له أهميته وشأنه، ذلكم هو العنصر العلمي والأدبي، أو الثقافي بوجه عام، الذي عليه أهل المدينة، الشيء الذي يؤهلهم لمضاهاة العلماء والأدباء في باقي البلاد العربية والإسلامية، ويرفع هامتهم عالية في المحافل والمنتديات.
فهذا محمد بوعشرين يؤكد أن (كامل):
فـاس السعيـدة أفـردت ببهائهـا
ودليـل ذلـك بيـن فـي مـائهـا
حاكى بقوتـه وصـوت خريـره
نبع العلوم يفيـض من علمـائهـا(43)
وعلى شاكلته يؤكد محمد القري(44) أن (كامل):
فـاس حديقــة زهـرة الآداب
فـاس مجـال تفاخـر الألبـاب
فاس بها مغناي إذ أغنـى بهـا
عن رشف صافية ورصف رضاب
ويجب ألا يغيب عن الذهن في هذا المجال أن هذه الأشعار ومثيلاتها إن هي إلا تعبير صادق عن حقيقة ملموسة، باعتبار أن هذه المدينة ظلت عاصمة ثقافية مزدهرة في أغلب فتراتها التاريخية، كما تشهد بذلك كتب التاريخ ومصنفاته.

رابعا- العنصر الحضاري والسياسي:
ويتجه اهتمام شعر المدن في الأدب المغربي، إلى جانب كل ما تقدم، إلى مجالات أخرى منها: العمراني والحضاري والتاريخي والسياسي، وما شكل هذا ذاك من جوانب واتجاهات، ولربما بشيء من التداخل بينهما في الكثير من الحالات.
وقد نكتفي في هذا المضمار بأبيات لأبي عبد الله المغيلي المتقدم في وصف جامع القرويين باعتباره معلمة عمرانية وحضارية إلى جانب كونه مقرا للتعبد والتعلم (كامل):
وبجـامع القـروي شرف ذكـره
أنـس تذكره يهيــج تبلبلــي
وبصحنه زمن المصيف محاسـن
فمع العشي الغرب فيـه استقبـل
واجلـس إزاء الخصة الحسنابـه
واكرع بها عني فديتـك وانهـل(45)
وهكذا تأتي هذه الشذرات لشعرية التي توخينا شيئا من الاختصار في تجميعها وتبويبها، لتقدم الدليل على حضور المدينة المغربية في شعر المبدعين المغاربة، واحتلالها مكانا ربحا بين نماذجهم ونصوصهم سواء في ذلك أكان الشاعر من أبناء المدينة نفسها، أم كان ممن استهوتهم بجمال طبيعتها، أو عظمة مجدها، أو ذماثة أخلاق أهاليها، وسواء في ذلك أيضا أكان الشاعر منتميا إلى أحد العصور المتعاقبة المنصرمة، أم كان من المعاصرين المحدثين.
على أن النصوص التي أوردناها لهؤلاء المعاصرين المحدثين، إن كانت كلها تسلك المنهج التقليدي للقصيدة العربية، فإنها لا تحجب عنا عددا من النصوص التي ارتبطت بشعر المدينة بالمغرب، ولكنها توسلت بالأسلوب الحديث للشعر، ذلكم التوسل الذي يوحي بضرورة إفرادها ببحث مستقل، لما لهذا الأسلوب من خصوصيات تختلف ولا شك عن الأسلوب الشعري القديم، وتميزه بجملة من الظواهر والسمات.
وأخيرا، لا أملك في نهاية هذا البحث الموجز إلا أن أردد ما تفجر به إحساس الفقيه الأديب حسين بن أبي القاسم الملولي الدرعي (46) مبديا شديد تعلقه بمدينة فاس مهما بعدت به الديار:
أعاذلتي في حـب فـاس وأهلهــا
ذريني فليس العدل يشفي من الوجـد
بلاد بها قد هـام قلبـي وإن نـأت
بجسمي عن أكنافهـا أنيـق البعـد(47)




1) انظر مثلا مقال: «عناية الأدب الجغرافي بالمدينة الإسلامية» لمحمد بن عبد الله (مجلة دعوة الحق)، عدد 278، شعبان 1410هـ مارس 1990.
2) من هذه الكتابات نذكر على سبيل المثال:
«الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ ومدينة فاس» لعلي بن أبي زرع الفاسي.
«العيون الستة في أخبار سبتة» للقاضي عياض.
«إتحاف أعلام الناس بجمال حاضرة مكناس» لعبد الرحمن بن زيدان العلوي.
«الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام» للعباس بن إبراهيم السملالي.
3) من شعراء العصر المرابطي، مات عام 544هـ.
4) «أزهار الرياض في أخبار عياض» لأحمد المقرئ التلمساني، (الجزء الرابع) تحقيق سعيد أعراب ومحمد بن تاويت، مطبعة فضالة – المحمدية / المغرب)، ص: 180.
5) من أدباء العصر المريني، عاش في النصف الثاني من القرن السابع الهجري.
6) «الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى» لمحمد بن تاويت، (الجزء الثاني)، مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء، 1403هـ 1983م، ص: 400.
7) من شعراء العصر العلوي، مات عام 1363هـ.
8) «الأدب العربي في المغرب الأقصى»، لمحمد بن العباس القباج (الجزء الأول)، مطبعة فضالة – المحمدية، 1400هـ، 1979م، ص: 63.
9) من شعراء العصر العلوي، عاش في القرن الرابع عشر الهجري.
10) «الأدب العربي في المغرب الأقصى»، ج: 1، ص: 111 – 112.
11) من شعراء العصر الوطاسي، مات عام 909هـ.
12) «الأنيس المطرب بروض القرطاس»، دار المنصور للطباعة والوراقة – الرباط، 1973م، ص: 34.
13)
14) «روضة الآس العاطرة الأنفاس فيذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس»، لأحمد المقري التلمساني، (المطبعة الملكية، الرباط)، 1383هـ 1964م، ص: 79.
15) من رجال العصر المرابطي، مات عام 513هـ.
16) «الأنيس المطرب بروض القرطاس»، ص: 34.
17) من أمراء الدولة العلوية وشعرائها، مات عام 1118هـ
18) «أتحاف أعلام الناس»، المطبعة الوطنية – الرباط، ج: 4، ص: 78.
18م) من شعراء العصر العلوي، عاش في القرن الثالث عشر الهجري.
19) «الأدب العربي في المغرب الأقصى»، ج: 1، ص: 53.
20) من شعراء العصر العلوي، مات عام: 1364هـ.
21) «الأدب العربي في المغرب الأقصى»، ج: 1، ص: 10.
22) من شعراء العصر العلوي، مات عام 1376هـ.
23) «الأدب العربي في المغرب الأقصى»، ج: 2، ص: 21.
24) ؟؟؟؟؟؟؟
25) «الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام»، للعباس بن إبراهيم (المطبعة الملكية الرباط) 1974 – 1983، ج: 7، ص: 95.
26) من شعراء العصر المريني، مات عام 658هـ.
27) «الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى»، ج: 1، ص: 330.
28) من شعراء العصر العلوي، مات عام 1134هـ.
29) «شعر محمد بن الطيب العلمي»، تحقيق عبد الرحيم الراجي، رسالة جامعية لنيل دبلوم الدراسات العليا للسنة الجامعية 81 – 82، مرقون بخزانة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ج: 2، ورقة 219.
30) «الأدب العربي في المغرب الأقصى»، ج: 2، ص: 23 – 24.
31) «الأدب العربي في المغرب الأقصى»، ج: 2، ص: 21.
32) نفس المصدر والقصيدة.
33) من شعراء العصر العلوي، مات عام 1249هـ.
34) «الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام»، ج: 6، ص: 229.
35) من شعراء العصر العلوي، مات عام 1238هـ.
36) «الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام»، ج: 6، ص: 177.
37) من شعراء العصر الموحدي، مات عام 607هـ.
38) الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، ج: 9، ص:6.
39)؟؟؟؟؟؟؟
40) «النبوغ العربي في الأدب العربي»، لعبد الله كنون، - دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر – بيروت، ج: 3، ص: 909.
41) «الأدب العربي في المغرب الأقصى»، ج: 1، ص: 54.
42) «ديوان الروض الأريض في بديع التوشيح ومنتقى القريض»، لمحمد بن زاكور الفاسي، تحقيق محمد بن الصغير (رسالة جامعية لنيل دبلوم الدراسات العليا للسنة الجامعية: 88- 89)، مرقون بخزانة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ج: 2، ورقة: 510.
43) من شعراء العصر العلوي، مات 1937م.
44) «تاريخ الشعر والشعراء بفاس» لأحمد بن محمد النميشي، (مطبعة أندري بفاس)، 1343هـ. 1924م، ص: 109.
45) «الأنيس المطرب بروض القرطاس»، ص: 34.
46) من شعراء العصر المريني.
47) «درة الحجال في أسماء غرة الرجال»، لأحمد بن القاضي، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور، (1971م، الجزء 1، ص: 249).


عبد الجواد السقاط

دعوة الحق - العدد 295 رجب-شعبان 1413/ يناير-فبراير 1993



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى