نصرت مردان - إلى متى يبقى البعير على التل ؟

وضعوا له اسما (خليل ) ولأبيه (لازم) وسموا جده (ابنيه ).فأصبح اسمه الثلاثي بالتمام و الكمال (خليل لازم ابنيه) .
اسم جر عليه حتى سنوات قريبة سخرية راح يعاني منها منذ أن بدأ يعي و يقرأ ( القراءة الخلدونية).. التي لم يعد يتذكر منها إلا عبارة (إلى متى يبقى البعير على التل؟).
سماه والده خليلا ، وسمى جده ، أباه (لازم) لأنه كان أول ذكر يرزق به بعد سبع بنات. وسموا جده (ابنيه)ليعيش فلا يختطفه الموت كما خطف أشقاءه الخمسة .. سموه (ابنيه ) على أمل أن يخدعوا السيد عزرائيل الذي اعتاد أن يقبض أرواح الذكور في عائلته .. وفعلا تمكنوا من تضليل الملاك الموقر الذي أناب إليه الخالق مهمة قبض الأرواح.
في المدرسة حينما قرأ المعلم اسمه لأول مرة (خليل لازم ابنيه ) ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة قائلا :
ـ هذا اسم لو جملة مفيدة . ثم ردد اسمه ،وكأنه نكتة سمجة .
منذ تلك اللحظة أصبح اسمه مادة لسخرية زملائه في المدرسة . لكم جر عليه هذا الاسم السخرية والإحساس بالمرارة لسنوات طويلة !

ـ إلى متى ستستمر ( تلزم الابنيه ) ؟
ـ ألست رجلا ؟
ـ انكحها .كافي عاد.

* * *

كان يفكر أحيانا بوضع جده المبجل (ابنيه ) . ترى كيف عاش بين أقرانه في الريف؟ كيف كبر وشب ،وهو يعاني مدى الحياة من وبال اسمه عليه ؟ . أحس في أعماقه بالإشفاق نحوه . بالنسبة له استطاع بعد زواجه أن يضع على الأقل حدا لمعاناته . بل و ينتقم لنفسه . فقد سمي أبناءه بأسماء لها صدى ورنة : ليث ، ضرغام ، ليث ، حسام ،يعرب . وهي أسماء جميلة حتى حينما تنطق كأسماء ثلاثية ( ليث خليل لازم ) . وحينما كان يترجم في مخيلته اسم ( لازم ) بـ (ضروري ) يصبح كمعنى لا بأس به ،( غضنفر خليل لازم ) ،( يعرب خليل لازم ).
هكذا قبر وطمس في سجلات الدولة في خانة الاسم الثلاثي لأبنائه اسم جده (ابنيه ) الذي لم يجر عليه إلا المرارة و الخيبة والسخرية . ولم يكتف بهذا الانتقام . بل أنه حينما كان يمسد شعر زوجته و يقبلها بصدق لتخليصها إياه من خلفة البنات . كان يعتقد أنه أيضا أحسن التصرف في اختيار مهنته كشرطي .فالشرطي بالنسبة له يحتل مكانة مرموقة في التاريخ القديم و الحديث .
كما أن أولئك الذين ظلوا يسخرون منه لسنوات طويلة ، ظن أنها لن تنتهي بل ستظل قائمة حتى قيام الساعة ، توقفوا فجأة عن سخريتهم بعد أن أصبح شرطيا .
أصبحوا ينادونه ( أبو ليث ) بدلا من اسمه الثلاثي الذي كانوا يصرون على مناداته به من باب السخرية لا غير .
في المقهى أصبحوا يدفعون عنه الحساب :
ـ شاي على حسابي لأبو ليث الورد .
في الحانة كان يحدث الشيء نفسه :
ـ عيني كوركيس .. حساب أبو ليث واصل .
لم ينته الأمر عند هذا الحد . بل إنهم اخذوا يقصدون بيته أحيانا ،حاملين معهم المنح و الهدايا :

ـ عيني أبو ليث .. ابني إسماعيل موقوف بالأمن منذ اسبوع . ممكن نعرف أخباره ؟
أحيانا كان هدف الزيارة يكون مختلفا . تلونت علاقات أهل الحي كتلون الحرباء :

ـ بيت أم كريم هل هو وكر للدعارة أم للسياسة ؟ لا أدري . نساء ورجال يرتادونه دون حساب .
كل ذلك كان كافيا لكي يرفع من مكانته في الحي ، وفي مهنته .
ـ عفيه عليك يا خليل يا لازم يا ابنيه .!
لم يكن يغضب لأن الوحيد الذي يقول ذلك هذه المرة مع ضحكة ساخرة هو آمره الذي يخاطبه كل صباح بسيدي . لا بأس. مسموح له وحده أن يرفه عن نفسه حتى لو كان السبيل إلى ذلك السخرية من اسمه . فهو سيده و تاج رأسه .أما الآخرين فلا أحد يجسر على أن يذكره بماضيه الذي سحقه منذ زمن طويل . ذلك الماضي الذي رأى فيه نفسه قزما و الآخرين غيلانا ومردة . الآن انقلبت الآية وحدث الانقلاب أو الثورة فكلاهما سيان في وطننا . اندفن ( خليل لازم ابنيه ) و عاش بدلا منه ( أبو ليث ) .

* * *
كما يحدث في كل يوم ،وقفت سيارة المديرية في الفناء ، ونزل منها رجال مقيدون تتراوح أعمارهم بين الشباب و الشيخوخة . وكما يحدث في كل مرة تم اقتيادهم بالصفعات والركلات إلى الداخل .
وبدا التحقيق معهم فرادى . في كل مرة كان الآمر ينادي أحد الشرطة إلى الداخل لتسهيل اعتراف المشبوهين بالصفع و الركل و بأساليب أخرى حسب الموقف والتهمة .
كان صبر ( خليل لازم ابنيه ) على وشك أن ينفذ . متى سيأتيه الدور ؟ . هذه خامس سيكارة
يدخنها و الآمر لم يستدعه بعد إلى الداخل . ثلاثة أمور كانت حياتية و هامة بالنسبة له : ضرب المشبوهين من أعداء النظام دون هوادة ،والثانية مضاجعة زوجته ، والثالثة أن يدفع الآخرون عنه الحساب في الحانة .
سأل زميله عن تهمتهم .
ـ أعضاء في حزب ( الطريق الصحيح ) .
ـ أين قبض عليهم ؟
ـ في مقهى يحضره المتعلمون .

لم يكن الأمر يهمه . متعلمون ، أميون ، بدو ، حضر . المهم إنهم مشبوهون وكفى .وعليه بعد أن يعطيه سيده الضوء الأخضر تأديبهم و ردعهم لحماية الوطن و الدولة من هذه الحثالات ..
أخيرا حانت اللحظة المرتقبة .اندفع إلى الداخل بحماس . كان يشعر أن كفه قد تنملت وتخدرت ، لأنها منذ الصباح عاطلة عن أداء مهمتها الرسمية ..
كان في الغرفة شاب أمرد ، يظهر عليه الرعب الشديد على ملامحه . فقد أصبح مع الزمن خبيرا في ملامح البشر .بمجرد نظرة يعرف من الذي يتحمل التعذيب ومن الذي يتهاوى من أول صفعة أو ركلة أو ضربة هراوة .
ـ ماذا كنت تفعل في المقهى ؟
ـ كنت انتظر زميلي .
ـ ومن هو زميلك ؟
ـ انه طالب مثلي في نفس المدرسة .
ـ ما اسمه ؟
ـ نزار صحن .
ابتسم و شعر براحة . إذن هناك من يحمل أسماء قد تثير السخرية .من يدري كم سخر منه زملاءه؟ . لكنه سرعان ما كف عن التمادي في التفكير .
ـ ما هو اتجاهك السياسي ؟
ـ سيدي أنا مجرد طالب .
ـ ولماذا ذلك المقهى بالذات ؟
ـ لأنني لا أعرف الحي .فقد انتقل بيت صديقي إلى هناك قبل فترة وجيزة ،ووصف لي المقهى كي انتظره فيه . لم أكن أعرف أن المقهى مشبوه .
ـ يعني مصر على الإنكار ؟
و هنا كان يعرف ما هو المطلوب منه . بعد هذه الجملة المشفرة عليه أن يبدأ محاولته الأولى في صفع و ركل المتهم . انهال على الصبي بصفعة قوية سقط على أثرها على الأرض .وظل ينظر مذهولا لفترة إليه .وكأنه يقول له ” وماذا فعلت حتى تضربني بهذه القسوة ؟ “
ـ ألا تزال مصرا على الإنكار ؟
و هذا يعني : المطلوب قسوة زائدة .أحس بحالة غريبة وهو ينهال على الصبي الغض بالضرب ، كأنها نوع من اللذة تشبه لذة الجماع .أو مثل حالة النشوة التي تأتي بعد الكأس الثالثة .من يدري لربما هو ابن أحد الذين كانوا يسخرون منه في المدرسة والحي في ذلك الزمن المقبور من عمره ؟

ـ سنعطيك مهلة للتفكير ..
دفع الصبي دفعة قوية إلى الخارج .حيث تلقفه آخرون كانوا يعرفون ما هو المطلوب منهم .
سعل مسؤوله ، هو يطلب منه إدخال مشبوه آخر ..
كان في أوج نشوته ، وتألقه الروحي .فهو سيد وسلطان و كل من يدخل هذه الغرفة يصاب بالذعر من سيده المكرش أولا ،ومنه ثانيا . لم يكن يحس بأدنى درجة من التعب والإنهاك .حتى لو شعر بذلك ، فان مهنته تتطلب أن يكون نشطا وكأنه لا يزال في بداية الدوام .
دخل الغرفة رجل مسن على أبواب الشيخوخة يلبس نظارات طبية .
ـ اسمك ؟
ـ محمد محمود شعبان .
ـ مهنتك ؟
ـ معلم متقاعد .
حدق فيه جيدا .أحس بأنه التقى مع صاحب هذه الملامح في يوم ما ربما في شارع من شوارع المدينة أو في حانة من حاناتها .أحس بنفسه فجأة بفعل قوة سحرية مجهولة يعود إلى زمن طالما تمنى أن تختفي من ذاكرته إلى الأبد . زمن كان جوقة من الطلبة يتحلقون حوله صائحين :
ـ خليل لازم ابنيه .. خليل لازم ابنيه !
كانوا يتلذذون بتعذيبه . وهو يحاول باكيا أن يطاردهم . في ذلك الزمن ألكابوسي ،في تلك الفجوة من ذاكرته التي حاول أن يغطيها بالإسمنت المسلح ، كان معلم العلوم في المدرسة هو الوحيد الذي يشغل نقطة مضيئة في تلافيف روحه البائسة آنذاك .كان يحس بألأمه و يخفف من أحزانه . كان معلمه الطيب القلب بنظاراته البيضاء وسدارته السوداء يواسيه :
ـ ميخالف ابني غدا تكبر و تنسى كل شيء . الناس تذكر بالأفعال لا بالأسماء .
انه الآن أمامه . معلمه الطيب محمد محمود شعبان . الذي لم يكتف بمواساته بل حضر إلى بيتهم المتواضع ليوصي أباه بمراجعة المحكمة مع جده لتغيير اسميهما . لكن والده اكتفى بأن يقول له :
ـ أستاذ نحن أميون . هكذا أسمونا أجدادنا .نحن لا نعرف طريق المحاكم ..
ـ ما هو اتجاهك السياسي ؟
ـ يابني ، أنا رجل عجوز . أية سياسة و أنا على حافة القبر ؟
ـ وماذا كنت تفعل في المقهى المشبوه ؟
ـ مشبوه !هذه أول مرة اسمع بذلك . أنا من ذلك الحي الذي يقع فيه المقهى ، وقد اعتدت على ارتياده و لعب النرد فيه مع أصدقائي من أهل الحي .
ـ يعني تصر على الإنكار ؟!
لأول مرة في حياته لم يجد في نفسه الحماس لأداء واجبه ، وتنفيذ ما هو مطلوب منه .كان يعيش في حالة غريبة . فالرجل الذي أمامه هو الوحيد الذي لم يسخر منه بل واساه دائما ، وعمل على تخفيف أحزانه و همومه اليومية في المدرسة . وبدون إرادة منه أخذت تطن في أذنيه الجملة الوحيدة المتبقية في ذاكرته من ( القراءة الخلدونية ):
” إلى متى يبقى البعير على التل ..إلى متى يبقى البعير على التل ؟”
ترددت أصداء العبارة في ذهنه خلال ثوان من الصمت عشرات المرات مثل اسطوانة مشروخة .
نظر إليه سيده بسخط و حيرة و كأنه يسأله من خلال نظراته الحادة “لماذا تتلكأ فيما هو موكل إليك ؟ “. رفع كفه مضطرا وهوى بها على وجه معلمه . لم تكن الصفعة بالشكل الذي تعود أن يهوى بها على وجه المشبوهين . رغم ذلك سقطت نظارة معلمه وتهشمت .
زجره سيده الذي استرعى انتباهه الصفعة التي لم يألفها منه قائلا :
ـ ماذا بك يا خليل .. هل أنت مريض ؟!


nasrat-mardan.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى