خليل حمد - فالج لا تعالج -1-

فالج لا تعالج: في انتظار الموت

لم يعد هناك مجال لفعل شيء، نعم ...علينا انتظار الموت والذي نأمل ان لا يأتي قريبا، لكنه سيأتي فكل المؤشرات تشيء بذلك وبقرب وصوله.
كيف لا ونحن نعيش في ظل جائحة معلنة من قبل منظمة الصحة العالمية منذ عام تقريبا، وقد قتلت هذه الجائحة حتى الان مئات الالاف في مختلف دول العالم التي اظهرت عجزا تاما عن وقف هذا الهجوم الفيروسي، وهو مستمر في الفتك بالمئات بل الالاف يوميا، حتى في الدول الأكثر تقدما، والتي تمتلك من الإمكانيات ما يجعلها قادرة على رد هجوم فضائي كاسح مثل تلك الهجمات التي كنا نشاهدها في أفلام حرب النجوم، لكن هذه الدول وقفت عاجزة امام هجوم، لفيروس حقير ولعين لا يرى بالعين المجردة.
وهذا الفيروس اللعين - كوفيد – 19 - ليس كائن حي أصلا، ولا يمتلك جسدا ولا روحا ولا عقلا ولا سلاحا، لكنه تمكن من استخدام أجسادنا نحن البشر كحاضنات ليتكاثر في جوفها وينتشر على حساب أجساد وارواح البشر فيعش هو وأبناء جلدته ويموت الناس.
والعجيب ان العلماء والاطباء عرفوا الكثير من اسراره منذ بدء انتشاره، وعرفوا صفاته وسماته، وطرق انتشاره، وكان بإمكانهم عمل الكثير لوقفه او ابطاء انتشاره، على الأقل الى الحد الأدنى، وبحيث يتم حرمانه من الحاضنات البشرية (حلوقهم وانوفهم) التي يحتلها ليتكاثر، لكن الناس بجهلهم وغبائهم وقلة وعيهم تركوا الفايروس يرتع في أجسادهم، وصار يسرح ويمرح معلنا انتصاره، وهم مشغلون في مسالة وجوده، وما زالوا يبحثون ويناقشون ويجادلون ويتفلسفون حول قضية ان كان موجود فعلا ام هو كذبة كبيرة؟ وهل هو حقيقة ام خيال؟ وهل هو عدوى ام مؤامرة ماسونية؟ وهل هو ابتلاء إلهي ام عدوى مرضية؟ وهل هو مخلوق ام مصنوع في المختبر؟ وهل هو صيني ام امريكي ام من صناعة المافيا الصقلية؟
لقد توصل العلماء في مرحلة مبكرة من انتشار العدوى الكورونية الى توصيات محددة لرد الهجوم الفيروسي، لو اتبعها البشر بصرامة والتزام منذ بدء الهجوم لتمت حتما محاصرة الفايروس وانحساره، وربما التخلص منه تماما، وانكساره.
كان المطلوب عبارة عن أربع خطوات بسيطة، تتمثل في التباعد الاجتماعي، والتعقيم واتخاذ إجراءات وقائية مثل لبس الكمامة وعدم التسليم والتقبيل وغسل الايدي، لكن بعض الناس اعتبروا هذه الإجراءات اعتداء صارخا على حريتهم الشخصية وابدو استعداد للموت دفعا عن حق الفايروس في العيش في حلوقهم ليتوسع في انتشاره، ورفضوا الالتزام بها. واخرون استهجنوا هذه الطلبات واستخفوا بها وغرهم طول الامل، وفضلوا الاستمرار في أعمالهم خوفا على ارزاقهم ولقمة العيش، وقدموا الاقتصاد على الصحة ونسوا قول الشاعر الحكيم:
يا مَن بِدُنياهُ اِشتَغَل... وَغَرَّهُ طولُ الأَمَل
المَوتُ يَأتي بَغتَةً... والقبرُ صندوقُ العَمَل
كما ان البعض لم يصدق أصلا ان الفايروس موجود فكيف يلتزم بتلك الإجراءات، والبعض قصر واستهتر فاستثمر الفايروس خلافات الناس وجهلهم وقلة وعيهم وقلة التزامهم وتوانيهم عن حربه بان وسع من انتشاره حتى فقدت البشرية السيطرة عليه، وأصبح الموت يأتي بغته، وأصبح هو سيد الموقف بلا منازع يصيب هذا ويفتك بهذا والجميع تحت رحمته وسطوة سيفه.
هذا هو الحال وهذا هو الموقف الكارثي البائس الحزين على المستوى الدولي، رغم ما اعلن من توصل الى لقاح قد يغير قواعد اللعبة لكن حتى هذا الفتح العظيم هو موضوع خلاف وصراع وخوف ويبدو انه سيلقى مقاومة اقوى من مقاومة الفايروس نفسه.
والموقف للأسف اسوأ من ذلك بكثير على المستوى الوطني والمحلي. الوضع كارثي. الأرقام لا تكذب والشواهد كثيرة وجلية.
كنا قبل فترة نستكثر ان يصل عدد الإصابات الى 500 إصابة يوميا، اليوم تضاعف الرقم ثلاثة او أربعة مرات. وارتفع عدد الأموات وصرنا نسجل كل يوم ارقام قياسية جديدة. صار النظام الصحي قاب قوسين او أدني من الانهيار، ونحن مشغولون في كمامة الوزير، وقضايا ثانوية، لا تسمن ولا تغني من جوع.
كان الرهان على وعي الشعب بالالتزام بالإجراءات التي توقف زحف الفايروس وتغير اتجاه المنحنى وتكسر حدة الانتشار، لكن المنحى ظل صاعدا، والذي انكسر هو إرادة الناس في مقاومة الفايروس، وتساقط الأطباء جنود الجبهة الامامية، وافراد الطاقم الطبي، واحدا تلو الاخر واصابهم الإرهاق والتعب.
واتسع الانتشار وامتلت المستشفيات ولم يعد لديها اسرة وأجهزة لعلاج أي مريض جديد ممن تتطلب حالته العناية المكثفة، وهذا يعني دخولنا على السيناريو الإيطالي أي المفاضلة بين من يعيش ومن يموت، لكن ذلك لا يبدو ان له أي أثر في الجمهور، فردة الفعل هزيلة والجمهور مكانك سر.
نعم...وصلت الأمور الى نقطة حرجة معلنة، وصرنا قاب قوسين او ادني من السقوط الكارثي. فارتأت الحكومة في قرار جاء متأخرا ومترددا، انه لا بد من فرض إجراءات التباعد الاجتماعي قصرا وجبرا، وفرض الاغلاق الذي يحد من انتشار الفايروس ولو لمدة أسبوع او خمسة ايام، فاتخذت قرارا مبتورا مثل نصف حل لأنه اقتصر على اغلاق أجزاء من الوطن الجريح وترك أجزاء مفتوحة للريح.
لكن حتى هذا القرار المبتور قوبل بعاصفة رافضة، تحت شعار "لن يمر ولو على دمنا". ثارت الحمية والعصبية القبلية، واختار الناس الاقتصاد على الصحة، وحدث ما يشبه التمرد هنا وهناك، وأجهض القرار وولد الاجراء ميتا.
واليوم صرنا نعيش في ظل فوضى عارمة ومرعبة وفقدان للأمل والسيطرة، وتأصلت حارة غوار الطوشة كل من ايدو اليه.
وبينما نبدوا نحن عاجزين تماما يستمر الفايروس في هجومه الكاسح الحارق الخارق المتفجر، يفتك بالكبار والصغار، وما عاد الانسان يشعر بالأمان لا في الدار ولا في الجوار.
وتبدو أي محاولة لتغير اتجاه المنحى محاولة عبثية لا طائل منها ما دام الجمهور يرفض الالتزام بالحد الأدنى من الإجراءات، والحكومة عاجزة عن فرض ارادتها على الشارع، رغم انها تظهر وكأنها تقوم بالكثير.
لكن الكثير هذا لا جدوى منه والدليل على ذلك استمرار ارتقاع الأرقام. وهي كما هي معلنة مخيفة، لكن المرعب مخفي وهو أعظم. فلا أحد يعرف حقيقة مدى انتشار الفايروس الصحيح. وهناك فوضى في إجراءات الفحص. واغلب المصابون ممن لا تظهر عليهم اعراض يرفضون الالتزام بإجراءات الحجر، ويستمرون في ممارسة عملهم ونشر الفايروس.
صرنا نعيش في ظل خوف دائم، خاصة نحن فئة كبار السن والمرضى المعرضين لخطر الانقراض على شاكلة الديناصورات.
وانتصر الفايروس انتصارا مدويا سافرا كاسحا.
لكل ذلك وغيره الكثير ، لم يعد امامنا سوى انتظار الموت القادم لا محالة من لمسه او بوسة او سعلة او عطسه من قريب او غريب عدو او حبيب مقيم او عابر سبيل.
فلا مجال لفعل شيء لوقف الموت الزاحف على ظهر فايروس حقير لا يرى بالعين المجردة ، يسترشي ويعلن الانتصار، وما علينا نحن الا الترقب والانتظار.

****

- الوصفة السحرية في القضاء على العدوى الكورونية: العنطبيخ

اذكر انني وأثناء دراستي الجامعية في جامعة بيت لحم عام ١٩٧٦ ، ان الجامعة قامت يومها بمشروع بناء مكتبة، وقد وجدتها وأنا البائس الفقير عندها ، فرصة للعمل واكتساب بعض المال، وكان عملي يتمثل في تكسير وتنظيف ارضية المكتبة من الحجارة والتي كان بعضها ضخما ويحتاج إلى جرافة للتعامل معه.
وكان من ضمن العمال شاب خليلي قوي الشكيمة مفتول العضلات يتعامل مع الصخرة الضخمة وكأنها صرارة صغيرة.
لا ابالغ ان قلت انه كان ماكنة حفر بقوة ٦٤ حصان، بلدوزر على شكل إنسان . كان اشبه بحفار كاتربلر بيديه العاريتين.
وكان يستمتع بتكسير الصخور الضخمة وتحطيمها وتفتيتها إلى حصى صغيرة ، وذلك باستخدام المهدة الضخمة ، الثقيلة ، التي كنت اجد صعوبة حتى في حملها .
وكان إذا رأى صخره ضخمه تحمس وهمهم ودمدم واقبل غير مدبر ، وصرخ ونفخ في يديه ورفع المهدة عاليا فوق رأسه ليسقط بها على قلب الصخرة الصلدة فتنهار تحت عنف ضربته وقوة صرختة ودمدمته.
تعجبت من قوة ذلك العامل البسيط وتوجهت اليه عندها بالسؤال : من أين لك هذا يا هذا ؟ !؟!؟
فكان رده انه العنطبيخ وقرن قوله بهمهمة مدوية.
طاقة هائلة كأنها البرق والرعد اذ يجتمعان .
وحيث انني لم اكن اعرف ما هو العنطبيخ، سالته وما هو العنطبيخ ؟!؟ فأجابني انه طبيخ العنب الخليلي .
لم انس أبداً سر قوة ذلك الشخص العجائبية ، ومنذ أيام ذكرت القصة لأصدقاء لنا من الخليل ، فما كان منهم الا ان ارسلوا لنا في اليوم التالي هذه العبوة الشاحنة من العنطبيخ الخليلي الأصيل والذي هو عبارة عن حب عنب كامل مطبوخ من دون سكر والمغرق بزيت الزيتون.
شكرا ابو فادي القواسمي والعائلة على هذه الهدية التي اظنها وصفة سحرية في مقاومة العدوى الكورونية.💕👍🌹
تحذير : قمت منذ قليل بعمل كاس من الزنجبيل والقرفة ، وتناولت ملعقتين صغار من هذه الوصفة السحرية ، والآن اجدني على وشكل عمل فتحة في الجدار ، أو تحطيم الكراسي. تناول الخلطة بحذر . هداك الله

***

- فالج لا تعالج: ربع الساعة الأخير، والشيطان يكمن في التفاصيل

الأرقام لا تكذب. والارقام تقول لنا الكثير.
فايروس الكورونا اللعين ينتشر ويتسع انتشاره. يتغول وينتشر بصورة انفجارية. الفايروس يحب التجمعات ويحب الحفلات. الفايروس يكره الاغلاق ويكره الكمامات. الخارطة الوبائية مخيفة وتفاصيل ما يجري مرعب. تردد المسؤول في اغلاق محافظة جنين فجابها في بضعة أيام في حوض نعنع. جنين تتصدر قائمة الاصابات اليوم وتحصل على المرتبة الأولى. يعلق الدكتور احمد حمارشه DrAhmad Hamarsheh
"لنا الصدر دون العالمين او القبر"!! الإصابات الجديدة : جنين (362)- أعلى رقم في فلسطين !!
جنين اليوم 362 اصابة. رقم مخيف يعني الكثير، ويقول لا بد من اغلاق الاسواق.
والمسؤول توانى عن اغلاق رام الله والبيرة فحصلت على المرتبة الثانية. 300 بالتمام والكمال عدد الإصابات هناك، والحبل على الجرار.
الخليل محافظة رفضت الاغلاق تأتي في المرتبة الثالثة، وعدد اصابات 256 والأيام القادمة حبلي بالمزيد، ذلك لان الفايروس يتغول من خلال التجمعات، وحصاد ما جرى من تحشيد لم تظهر بعد.
إذا الحالة الوبائية مرعبة حتى دون الدخول في التفاصيل، لكن ماذا لو تعمقنا فيما قاله الدكتور باسل بواطنه مدير مستشفى شافيز حسب ما هو متداول على النت؟!
إذا صح ما قال بواطنه وهو عالم ببواطن الامور، لكل انسان من اسمه نصيب، وصح المقال، فان كلمة مرعبة لم تعد مناسبة لوصف الحال، وصار لا بد من اختراع كلمة جديدة تصف تردي الحال وصعوبة المآل.
يقول الحكيم العالم ببواطن الامور" نواجه حالات غير قادرين على تفسيرها وسيناريوهات مخيفة لبعض مرضى كورونا" نكتفي بهذا الاقتباس من التصريح ولا داعي للدخول في التفاصيل في هذا الخصوص فالشيطان يكمن في التفاصيل.
ويضيف الدكتور بواطنه "لم يعد الكورونا يقتل كبار السن فقط، فقد تم تسجيل حالات وفاة عديدة في أوساط الشباب، ومصابين لم يكن لديهم امراض مزمنة"، يعني أصبحت الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات، وما حدا يا جماعة يحط ايده في مي باردة.
الأرقام لا تكذب. عدد الحالات في المستشفى المذكور لوحده على أجهزة التنفس 75 حالة حاليا...فماذا سيفعلون في المستشفى إذا جاء المزيد من الحالات والاصابات مرشحة حتما للازدياد؟
فهل تكفي كلمات مخيفة، ومرعبة في وصف الحال؟ لا والله.
على كل حال...ما دامت الأمور قد وصلت الى ما وصلت اليه، وأصبح الحال على هذا المنوال فما العمل؟
ان كنت من عشاق الحياة، وتختار الحياة على الموت فلا تقف مكتوف الايدي. ولا تتسمر امام الطوفان:
قال تعالى: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ* قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود: 42- 43].
لا عاصم اليوم من امر الله. ولا بد من بذل الجهد للنجاة. صار العيش اشبه بالسير في حقل الغام. اقل خطأ قد يعصف فيك ويعجل في آخرتك.
الأرقام لا تكذب. عندما كنت اعمل في شركة التأمين قبل سنوات، اطلعت على معلومة إحصائية مهمة ومثيرة للاهتمام. نسبة عالية جدا من الحوادث تقع في اخر 100 متر الى مكان الوصول اثناء قيادة السيارة.
هذا مؤشر ان الانسان قد يظل شديد الانتباه خلال القيادة لمسافة طويلة، حتى إذا اقترب من المنزل تشتت ذهنه وقل تركيزه، ووقع ضحية لحادث سير لا على البال ولا على الخاطر في ربع الساعة الاخير.
هذا على ما يبدو يحصل مع الحريص من العدوى، ويبذل جهده من اجل الوقاية، ويلتزم بالتعليمات لكنه كمن يسير في حقل الغام، يظل شديد الانتباه حتى إذا كاد يصل الضفة الأخرى وقع في مطب فتناثر. الغفلة لا ترحم الشطار. لا بد من الانباه حتى الخطوة الأخيرة.
أيضا قد تلتزم بكل إجراءات الوقاية وترتدي الكمامة وتمتنع عن التسليم و.و.و لكنك في لحظة غفلة تتهاون في تطبيق الإجراءات فتكون مثل السائق الذي يتبع قوانين السير ويظل شديد الانتباه حتى اذا اقترب من المنزل أعمت عيونه الغفلة فتسبب في وقوع حادث.
اننا في ميمعة الجائحة نحتاج إذا أردنا النجاة ان ننتبه للتعليمات خاصة في ربع الساعة الأخير. يعني لا مجال للتراخي ولا مجال للغفلة ولا مجال لوضع السلاح قبل انتهاء المعركة. لا بد من الحرص الكامل والمستمر والا على الاغلب أنك سوف تصاب ويصبح ما بقي من عمرك في مهب الريح.
أيضا نقتبس من علم الإدارة هذا الاصطلاح " الشيطان يمكن في التفاصيل". نسمع الكثير من الناس بأنهم أصيبوا وهم لا يعرفون كيف! ومن اين جاءت الإصابة! والاغلب ان هؤلاء الناس لا يهتمون بالتفاصيل التي يكمن فيها الشيطان.
قد ترتدي كمامة وقد تتباعد اجتماعيا لكنك في لحظة غفلة او حياء ترتكب خطا في تفاصيل ما هو مطلوب منك من إجراءات، قد يكلفك حياتك.
لا بجوز ان تهتم بالخطوط العريضة فقط وتترك التفاصيل ليعبث فيها الشيطان. لا بد من الاهتمام بأدق التفاصيل والا عليك توقع المصير.
انها عدوى فيروسية يا الحبيب ولا ينفع معها الدواء ولا الطبيب.
قاسية ونار حامية، وقد تكون قاتله وفايروس لعين يتحين الفرصة لينقض على جهازك التنفسي فلا تتركه يصل اليك.
اهتم بكل تفصيل قد يودي الى وصول الفايروس الى خشمك او حلقك، والا فعليك ان تتوقع بأنه سيصل اليك ذلك لان الشيطان يكمن في التفاصيل والفايروس ايضا.
وسلم علي يا ولدي سلم على ... وجابلي الدور.

***

- فالج لا تعالج: فضفضة وتأوهات حرب الكورونا

ربما يلاحظ المتابع لصفحتي انني دأبت منذ هجوم الكورونا للتحذير من خطورة الإصابة بهذا الفايروس اللعين، وانني كثيرا ما استخدم عبارات قاسية قد تستفز المتلقي ويعتبرها البعض تهويل وتخويف ورسم صورة قاتمة سوداوية للوضع، واعتبرها انا عاجزة عن رسم صورة حقيقة لتبعات الإصابة بالجائحة اللعينة. حتى ان البعض يطالبني بأن ابشر ولا انفر، وقد احتج اليوم الدكتور محمود زغيري مثلا على استخدام عبارات تصف الحال بأنه كارثي وطامة كبرى كونه يعتبرها مبالغات غير مناسبة وغير لائقة، لكن بعد سماعي لمكنونات صدر صديقي التي دونتها ادناه اجد باننا لم نستوعب حجم المصيبة التي نحن بصددها. وقد يكون افضل وصف لها من واقع المعطيات بحرب دمار شامل .
وقد لجأت منذ مدة لتدوين حكايات عن إصابات أصدقاء لي، وحاولت ان أقدم وصف موجع تصويري وتفصيلي لإصاباتهم وذلك بهدف تقريب صورة الألم التي يشعر به مصاب الكورونا للناس، لعل ذلك يخدم في ردع المستهترين والمنكرين، وبالتالي يخفف من الم الناس ويساهم في كسر حدة انتشار الوباء.
لكن واضح ان كل ما يقال مهما احتوى على عبارات رنانة وتخويف وتهويل، فانه لا يكاد يكون له أدني تأثير على الناس، وصدق من قال ان "الذي يده في النار ليس كمن يتفرج عليها". وللأسف الطريقة الوحيدة لمعرفة معنى ان يصاب الانسان بالعدوى هي ان يختبر الانسان بنفسه تلك التجربة المؤلمة والمميتة أحيانا.
اليوم اريد ان تصحبوني في رحلة في ثنايا عقل وقلب صديقي العزيز اياد دويكات، وهو أستاذ وانسان واسع الثقافة، وشجاع، ويدرك تماما الابعاد الجسدية والاجتماعية والنفسية للإصابة. وقد ابّتُلي هو ومجموعة من احبته بالعدوى منذ مدة، وقد تطوع للحديث بصراحة وعمق، لأنه يدرك من ناحية أهمية ان يفضفض المصاب وصاحب المصيبة بما يجول في صدره من الم ومشاعر مصاحبة للإصابة وثانيا لأنه يرغب في نقل تجربته والمه للآخرين محذرا ورافعا علما احمرا للتحذير لعل حديثه يلقى اذان صاغية، رغم قناعته بأن الوصول الى الوعي بمخاطر المرض لا يتم الا بالمرور بالتجربة شخصيا والاكتواء بالمها ونارها.
سألته عن حاله وعن الوضع وطلبت منه ان يقترح على موضوع من واقع تجربته لأستخدمه كمادة لحديثي التوعوي شبه اليومي حول الجائحة، فأرسل لي رسائل نصية مسجلة قمت على تفريغها بأمانه دون تحريف او تعديل في النص الا لمقتضيات اللغة والتعبير بالفصحى.
وجاء في رده:
- الصورة يا أبو احمد سوداء، سوداء، سوداء. عنوانها الكورونا حرب. هذا ليس وباء. هذه حرب حقيقية، حرب مخيفه، حرب دموية، تأكل الأخضر واليابس، الي موش واصله لعنده النار طبيعي ما يقتنع، لكن عندما تصل النار لمنطقته تدب النار في الهشيم، كيف في الهشيم؟ بتبلش تحصد مرضى، آلام، قتلى، علل دائمة، الشعور أسوأ من شعور الحرب. جربنا انتفاضات، جربنا احتجاجات جربنا الدبابات على البيوت، لكن الوضع لم يصل ابدا الى هذه السوداوية.
- الوضع يا أبو احمد ينذر بكارثة حقيقية، ورح اتشوف الناس على أبواب المستشفيات يتقاتلوا على سرير، وإذا ما تقاتلوا رايحين يقبلوا الموت بصمت، يدفنوا موتاهم بصمت، يقولوا للمريض تألم الى ان تأتي الرحمة. الوباء سيء جدا، الي عنده شوية اعراض ما بنام الليل، فكيف الى عنده اعراض قوية؟! وكيف الإصابات التي تحتاج الى تنفس، الالام التي لا توصف.
- الوباء رح يدخل على كل بيت، نعم كل بيت، الكل رح يجرب. الناس الي مش مقتنعين طبيعي، معذورين، ولكن لما يجربوا، لما يصل عندهم ويجربوا الم الصدر، والقحة الناشفة، الاختناق، آلام المفاصل، النوم المتواصل مع الم شديد، فقدان شهية، القحة، المراجعة...وهذه اعراض الناس الذين يتعافون فما بالك في الأشخاص الذين لا يتعافون؟
- تكون كمصاب مسكون بمشاعر قاتله، نعم قاتله، يعني تشبه الموت، ويلك حزنك على الي ماتوا ولا على الي بعانوا، ولا على الي في حالة مخطرة، ولا على المصابين ويتألموا، ولا على الي بدهم ينصابوا. الألم مركب وشديد، واشي غير مختبر من قبل، هذا النوع من الشعور ما اختبرناه.
- احكيلك اشي في السيكولوجي، في صديق الي طبيب فلسطيني من مخيم اليرموك في سوريا، راح السويد، هرب من الموت، اتشتت عائلته في عدة دول. بعد اربع سنوات من حصوله على جنسية سويدية، حصلوا هو وزوجته على فيزا لزيارة أقاربهم في ال48، واجاوا زارونا. خلاصة الحكي لما زارونا في السنة الماضية قالت لي زوجته احنا في الحرب ما عرفنا نحزن، ما اعرفنا نحزن، ظل الحزن غصة في قلوبنا، لأنه الموت كان متتالي، ماتت امي، وماتت حماتي، ومات ابوي، ومات حماي، وما تعد كم واحد مات. كنا لما نروح على المقابر ما نعرف نبكي، لأنه ما كان عندنا وقت نبكي لما ندفن الموتى، الموتى يتلاحقوا وراء بعض. هذا الشعور، وهذا الوصف انه ما عرفناش نحزن يعني كلام ما قدرت افهمه في حينها، وإذا به من كثر الحزن ما بتلاقي وقت تحزن وتعبر عن حزنك لان الحزن متتالي والفقدان متتالي.
- وإذا به يا أبو احمد انت لازم تعبر عن حزنك اول بأول، تعترف فيه، توعى عليه، لأنه إذا انت ما عبرت عن حزنك اول بأول رح تكبته في صدرك، رح يتحول الى سواد والم ما بطلع الا في وقته. كل وقت إله المه الخاص به، كل وقت إله آذانه، ما بزبط اذآنين في وقت واحد. انا مات خالي ما حزنت عليه، وما اعرفت اشعر انه مات، مات ابن خالتي من جيلي كمان نفس الشيء، وما بتعرف شو الي بستنا كمان.
- الشعور بانك مش عارف تحزن لأنه في اشي أكبر منه، يعني بتعرفش تحزن على اشي لانك بتستنى في اشي أكبر منه، مشغول بالك على الي بعده، هذا الشعور في حياتي ما جربته، هذا شعور حروب، هذا شعور من مشاعر الحرب.
- يا ريت ، يا ريت لو الناس تعرف، يا ريت لو الناس الي ما عندهاش إصابات باي ثمن يحبسوا حالهم يوكلوا خبز وزيت وملح. يكلوا ورق شجر، يوكلوا أي اشي متوفر، بس ما ينصابوا بالفايروس.
- الي عنده فرصة انه يتجنب لو بوكل ورق الشجر لو بوكل اعشاب، لو بوكل خبز لحاله، لو أي اشي، يعني يعيش على قطعتين خبز في اليوم ومعلقة زيت يكفي، المهم لا ينصاب العدوى.
- الوضع اقسم بالله، اقسم بالله، انه الم فوق الوصف وشعور يعني لا يمكن يستطيع الواحد يصفه، لانه فعلا لا يتكرر، ولا يعرف هذا الشعور الا بالاختبار. الى ما اختبر الإصابة ما بعرف، مهما وصفته إله. هلا الي بسألني شو يعني كورونا؟ بقوله شعور قاتل شيء، ما حدا بعرفه، ما حدا جربه. على الفاضي لازم يجربه- ان شاء الله ما بتجربوه.
- انا أحيانا بقول انه ربما لو كانت إصابتي قوية بجوز ان كان انشغلت عن الي حوالي في نفسي، ان كان الألم أخف، لانه قوتك الجسدية وسيطرتك على الفايروس بتعطيك فرصة إنك تصحى على إصابة الى حواليك، لما توعى على إصابة الي حواليك إذا كانوا عزيزين، المك رح يكون مضاعف.
- اخر ما بتوصله يا أبو احمد الاستسلام. تستسلم للموت. تستسلم وانت ترى اعز الناس عليك يفلت من بين ايديك. بروح بهدوء.
- هذا هو الشعور بالعجز، احنا عاجزين.
- وللأسف يا أبو احمد بدي اخبرك اليوم انصابت خالتي، ست كبيرة ومريضه وانا اطلاقا مش متفائل، رغم اني قديش اتصلت فيها، وأكدت عليها تحبس حالها في غرفة بس فيها اكل وشرب، وما حدا يدخل عليها، بس للأسف أصيبت.
- وسكت اياد عن الكلام الموجع، والذي دفعني للبكاء وانا الذي قلما ابكي.
- يا لها من كارثة، يا لها من طامة كبرى، وتلك هي عدم إدراك الناس بان حربا قاتلة شرسة مؤلمة تشن عليهم من عدو مجهول وفايروس حقير لكنه قاتل وقد يتسبب في النهاية بفناء البشرية.
-يا الهي .

***

- فالج لا تعالج: مذهل.

"لا وعي من دون الم" هذا ما يقوله عالم النفس كارل يونج. ويبدو انه مصيب في ذلك، فان دققت ستجد ان أكثر الناس ابداعا اشدهم الما. ولا ابداع بدون الم، بينما ستجد ان العلاقة بين اليتم والعبقرية هي علاقة السبب بالنتيجة.
انا كنت محظوظا من هذه الناحية، حيث فقدت امي وتيتمت وانا في السنة الثانية من عمري، ولم تترك امي البيولوجية صورة، ولذلك فانا لا اعرف أي ملامح لها، وكأنها السراب، ويمكنني ان ادعي ببساطة أنني ابن شجرة او ابن الجبل او ابن السحاب او ابن الالم.
وعملا بقاعدة كارل يونج أعلاه، وجدت نفسي، وانا ابن اليتم والألم، عاشقا للأدب، قراءة، وكتابة في سن مبكرة.
وفي سن 16 عثرت على عامل مشترك أعظم بيني وبين ليو تولستوي، العبقرية الروسية الاستثنائية والاسطورية، وأقول اسطورية من واقع إنجازاته واحداث حياته المعروفة...يا للعجب! ذلك العامل المشترك هو انه أيضا فاقد الام مبكرا ولم ير صورة لها ابدا. لكنه تميز عني، ولا مجال للمقارنة من حيث الانجارات، لان حياته كانت اشد مأساوية، فكان تلقائيا أعظم الما وعبقرية وإبداعاً. فبينما وجدت انا اما بديلة، وهي خالتي اخت امي خففت علي المي وقد ظننتها امي، فقد تولستوي الاب والام وعاش في ميتم، وكان في طفولته شبه مشرد ومات مشردا.
هذا العامل المشترك أوحى لي بفكرة عجيبة، اظنه الهام جاءني من السماء او من وادي عبقر او من نار الألم، وانا في تلك السن المبكرة، وهي ان هناك علاقة بين الابداع الادبي وفقدان الام.
هكذا ولدت الفكرة في صفحتها الاولى. لكنها، أي الفكرة، ما لبثت ان تطورت الى فكرة أكثر اتساعا، أي ان هناك علاقة بين اليتم والابداع الادبي وعلى اعتبار ان كل مبدع في مجال الادب لا بد انه يكون قد اختبر اليتم. ثم تطورت الفكرة مرة أخرى عندما اقترح رئيس لجنة رسالة الماجستير في جامعة سان دياجو في كاليفورنيا، توسيع الفكرة لتشمل الفقد بشكل عام object loss وعلى أساس ان هناك ما يؤكد بأن بعض الادباء المبدعين أمثال همنجوي لم يختبروا اليتم وكان ساردا سحريا.
المهم انني احتفظت بسر تلك الفكرة في قفصي الصدري، لكي لا اتصف بالجنون او الهرطقة، وبدأت منذ تلك اللحظة بالبحث والتمحيص وجمع المعلومات، فأول شيء اقرأه عن أي كتاب سيرة حياة المؤلف لمعرفة ظروف حياته المبكرة وهل هو يتيم ام لا؟!
استمر هذا البحث وتطور خلال دراستي الجامعية الأولى في جامعة بيت لحم، وهناك وحيث توفرت بيئة ثقافية غنية أعلنت الفكرة لبعض المقربين، لكنني لم أجد أحدا يصفق لها او يصدق ادعائي ولا عتب في ذلك فلم أقدم الدليل على صحة الطرح حتى ذلك الحين. وتخرجت من الجامعة ولم أتمكن فيما اذكر من اقناع أحد بالعلاقة المفترضة بين اليتم والابداع الادبي في ذلك المحيط. وفي تلك الفترة تطورت مواهبي الكتابية حيث كتبت مذكرات طالب جامعي نشرتها جريدة الشعب المقدسية وقد سمعت ثناءا عليها من رئيس التحرير الذي أبلغني بأن الجريدة توزع اعداد أكثر في اليوم التي تحتوي على مذكراتي الجامعية.
بعد التخرج، انتقلت مباشرة للعمل في الكويت، وهناك وجدت بيئة ثقافية مزدهرة، فعملت على تطوير مهاراتي الإبداعية أكثر فأكثر، وكتبت المزيد من المحاولات الأدبية، وهناك كتبت اول قصة قصيرة متكاملة الأركان بعنوان " ليلى والبحر" وقد وافق الاديب محمود الريماوي على نشرها في جريدة الوطن، ونشرت فعلا.
لم تطل اقامتي في الكويت في تلك المرحلة، لذلك سافرت الى الولايات المتحدة مدفوعا بشغف البحث والدراسة والعثور على إجابات بخصوص فكرتي التي تطورت الى نظرية لم يقتنع بها حتى ذلك الوقت احد غيري.
كانت الغاية من السفر الى الولايات المتحدة دراسة الماجستير في الادب الإنجليزي في احدى الجامعات هناك. وفعلا بعد ستة اشهر في برنامج اللغة المكثفة في جامعة رفرسايد الاتحادية، التحقت بجامعة San Diego state University في ولاية كاليفورنيا. وهناك تكثف بحثي حول نظريتي الواعدة، خاصة ان أحد أساتذة برنامج اللغة نصحني بكتابة رسالة ماجستير بدلا من الجلوس لامتحان الشامل للحصول على شهادة الماجستير وبهدف تسهيل مشواري نحو الدكتوراه.
المهم انني أنجزت المتطلبات الاكاديمية لشهادة الماجستير وصار لا بد من مواجهة الحقيقة وهي اختيار موضوع لمشروع رسالة الماجستير، وحيث انني كنت مهوسا بالفكرة، قررت ان اكتب رسالة الماجستير حول العلاقة المفترضة بين اليتم والابداع على الرغم من مخاطر الفشل، وهنا تدخل الأستاذ رئيس اللجنة واقنعني بأن أوسع الفرضية وبحيث يتم الحديث عن فقدان جسم object loss وعدم تحديد الفقد بالأب والامparental loss.
لكنني تمكنت من إقناعه لاحقا بضرورة تركيز البحث في تلك العلاقة ولذلك كانت هذه الفكرة هي محور رسالة الماجستير الأساسي ضمن الإطار العام. وقد وافق الدكتور نكولز على ذلك الطرح على مضد كبداية. واذكر انه كان مترددا في البداية، وكنت أخشى ان يرفض العمل على تلك الفكرة، لكن والدته ماتت لسوء حظه وحسن حظي، اثناء النقاش، فعاد متشجعا على بحث الموضوع من واقع ما الم به من الم الفقد على ما يبدو.
فاختار لي ثلاثة كتاب هم بابلو نيرودا، ورالف السون، وسلفيا بلاث، وهم الثلاثة ايتام إضافة الى ان الأول من أمريكا اللاتينية والثاني من أصول افريقية، والثالثة امرأة بيضاء من أصول المانية.
والصحيح ان العثور على ادلة تربط بين ابداع ويتم الثلاثة المستهدفين لم يكن سهلا. لكنني تمكنت من اقناع اللجنة بطرحي وذلك لوفرة الأدلة على تلك العلاقة لدى المذكورين، واظنني كنت شديد الحظ في ذلك الاختيار فلم أكن شخصيا اعرف منهم سوى الشاعر العالمي بابلو نيرودا.
المهم في تاريخ 3/3/1983 وقعت اللجنة بكامل أعضاءها بالموافقة على رسالة الماجستير وكانت بعنوان creativity and the search for fulfillment “ " وكان رقم الملف في المكتبة 13 ، ومن يومها صار الرقم 3 رقمي المفضل.
وبذلك كنت اول شخص على الاطلاق يضع نظرية تتحدث عن علاقة محتملة بين اليتم والابداع الادبي، وبنيت على أساس التحليل النفسي لحياة واعمال الكتاب، معترف بها اكاديميا على الأقل حيث أدرجت ضمن مراجع رسائل الماجستير في الولايات المتحدة dissertation abstracts .
تخرجت من الجامعة، وعدت الى الكويت وعملت وتزوجت وانشغلت في كل شيء لكنني لم انشغل عن تلك الفكرة. ظل موضوع اثبات صحة النظرية يشغلني، فانا كنت مقتنع تمام الاقتناع بها لكنني لا املك الأدلة، المناسبة، وقد وجدت ان من سبقني من الباحثين حاولوا العثور على سر الابداع وهناك أبحاث عديدة تطرقت للموضوع لكن لم يتمكن أحد ابدا من اثبات ان اليتم سبب أساسي في خلق الابداع، وتبين لي لاحقا ان ذلك بسبب خطأ في اختيار العينات الدراسية.
المهم في وقت لاحق وقع بين يدي بمحص الصدفة كتاب the listing of the most 1oo influential person in history للكاتب الأمريكي مايكل هارث، ومترجم من قبل انيس منصور تحت عنوان " اعظم 100 شخصية في التاريخ".
وكأنني شعرت لحظتها بأن الكتاب ألقاه علي طائر الهدهد ، على شاكلة كتاب بلقيس. فقد حسم محتوى الكتاب الامر، وصار لا بد من مواجهة الحقيقة بتأكيد او نفي النظرية من خلال بحث العلاقة المفترضة عند افراد هذه العينة. ومن خلال البحث التفصيلي تبين ان 54% من أعظم 100 ايتام في الطفولة التي تمتد الى سن 21 سنه حسب علم النفس. وبذلك حصلت على دليل احصائي يتعدى عامل الصدفة ويرتقي الى الدليل العلمي، ويؤكد بما لا يدع مجالا للشك ان اليتم سبب في خلق الابداع. لكن ليس أي ابداع وانما الابداع العبقري، وعلى اعتبار ان اليتم أعظم مصدر للألم بينما قد تدفع مصادر أخرى لا حصر لها من الألم الى ولادة الابداع في حدود لا تصل الى العبقرية كما هو الحال عند افراد العينة.
خلاصة الحديث، وهذا هو المهم، لقد امضيت عمري وانا ابحث بين أروقة المكتبات وفي بنوك المعلومات، وادرس واعمل واناقش، حتى انني سافرت الى حدود العالم الغربية شاطي المحيط الهادي للحصول على المعرفة، ثم لاحقا الفت كتاب بعنوان " فلنهدم اصنام القرن الحادي والعشرين" مستهدفا نقد الفكر العربي الحديث الذي يرتقي الى عبادة الفكرة. ثم بعد ذلك الفت كتاب اخر استنبطت فكرته من واقع نظريتي التي اسميتها ب" النظرية البوزيترونية في كشف سر الطاقة الإبداعية" والتي لا مجال للحديث عنها هنا بتفصيل وربما نغطي هذه التفاصيل في مقال اخر.
المهم حتى تلك اللحظة لم تلق فكرة النظرية البوزترونية سوى اعتراف محدود، ولذلك لم أتمكن من العثور على دار نشر تتبنى طباعة ونشر الكتاب الذي قدمت فيه الدليل الإحصائي على صحة النظرية وطبعت منه عدد محدود من النسخ وزرعتها صدقة عن أرواح والدي للأيتام. حتى انني عزفت عن استكمال تأليف كتاب النظرية المذكورة، والذي أتصور انه يمكن ان يتصدر قائمة المبيعات best seller لو انجز، كونه يطرح نظرية مدعومة بالدليل الاحصائي في غاية الأهمية من حيث القيمة في مجال للعلوم الإنسانية، ولها انعكاسات على كل جوانب الحياة.
لكن بالأمس تغير كل شيء فجأة. فقد نشرت على صفحتي مجموعة مقالات على شكل يوميات كورونية، وقد أعجب الأستاذ الدكتورعادل الاسطه مشكورا وهو أستاذ النقد الادبي الأسطوري لمن يعرفه، بآخر مقال والذي كان بعنوان " فالج لا تعالج: فضفضة وتأوهات حرب الكورونا". فعلق بكلمة واحدة على المنشور هي " مذهل ".
فأحدثت هذه الكلمة اثرا مدويا، وكأن زلزلا عنيفا وقع تبعه تسونامي، وصلت امواجه الى المغرب العربي، فاتصل بي من هناك الاستاذ مهدي ناقوس من ادارة انطولوجيا السرد العربي يطلب الاذن بنشر مجموعة من كتاباتي على صفحتهم، ووافقت بلا تردد مشكورا متوقعا ان يكون ذلك من صدى تعليق الدكتور عادل الاسطة.
ثم تواصلت انا لاحقا مع دكتور هناء علي البواب صاحبة دار نشر خطوط وظلال في الاردن، والتي ذكرها الأستاذ عادل في احدى خربشاته التي تناولت الادب في زمن الكورونا، وقال ان ما كتبته يذكره بما كتبه بمقدمة ( الديكامرون" ل ( بوكاشيو) و" يوميات سنة الطاعون" ل ( دانيال ديفو)، فوافقت على عرض فكرة تبني نشر الكتاب على اللجنة الدارسة لديهم.
حقا انه لشيء "مذهل" كيف يمكن لكلمة واحدة، ان تفتح لك أبواب السماء. ولا اظن ان أمواج هذا التسونامي الرائع الذي احدثته الكلمة المذكورة قد وصلت الى منتهاها.
مذهل

***

- زمن الكورونا والعرس الجنائزي..

اعراس قليلة حفرت لها مكانا عميقا في الذاكرة من زمن الطفولة المبكرة الجميل، زمن ما قبل الاحتلال عام 67. منها عرس المرحوم جارنا الأستاذ يوسف عبد القدار، والتي أقيمت احدى حفلاته تحت شجرة السدرة وسط البلد، وعرس ابن العم تيسير سالم، وأقيمت حفلته امام الجامع الكبير. وقد شهد هذان العرسان تحديدا احتفالات اسطورية، ما يزال صداها يتردد في اذناي، رغم مرور كل ذلك الزمن. وكانت تمثل نموذجا للأعراس الباذخة والعاصفة الجميلة.


واذكر ان اعراس ما قبل الاحتلال بشكل عام، كانت أقرب الى المهرجانات الضخمة الصاخبة، وكأنها صفحات من حكايات ألف ليلة وليلة، وكانت طقوسها تمتد أيام وايام، تقام فيها الافراح، والليالي الملاح، ولا يتبقى أي شكل من اشكال الفرح، الا ويقام بمشاركة شعبية واسعة من الصغير والكبير. حتى إذا حمي الوطيس واقترب اليوم الموعود، يوم الدخلة المشهود، أقيمت الولائم واستقدم العجاوي، وربما اثنين او ثلاثة، او اربعة، وأقيمت حفلات الزفة التي يتبارز فيها الشعراء، العجاوية، وكان من موضوعاتها السيف والقلم، والبيضه والسمرا وغيرها من المواضيع التي تثير حماس الجمهور وتطرب الحضور فينقسم الناس صف مع هذا العجاوي، وصف مع ذلك العجاوي فيعلو الهرج والمرج، ويشتد تصفيق الايادي وتهتز الخواصر على إيقاع الطبل الرهيب، والذي تهتز له القلوب وتغني له الحناجر. وغالبا ما كانت تبدأ أي زفة بافتتاحية تقول " صار اول القول نمدح بذكر النبي...".
وفي تزامن مع الزفة كانت تعقد حلقات الدبكة على أنغام الشبابة، وكان أشهر عازفيها في ذلك الزمن الجميل المرحوم محمد الشريف الذي تربع على عرشها دون منافس، والذي اتقن العزف الى حدود مذهلة، رغم عدم معرفته بالنوتة الموسيقية، وكان إذا عزف والى جواره قووييل يقول الشعر الجميل، أطرب الحجر والشجر وارقص البشر. وكان من العتابا المرافقة لنغمة الشبابة اغنية " لظل أغني واظل أغني تا أخلى الأرض ترقص من فني"، وكانت الأرض فعلا ترقص وتهتز طربا لذلك الفن الأصيل.
اما إذا ما عَزف المرحوم محمد الشريف نغمة "الطيارة" تحديدا وهي احدى السمفونيات الراقصة، فتجد الشباب يتراقصون وقد طاروا طربا ونشوة وحماسة. وكان أبرز العارفين بفن للدبكة يتحلقون، وكان على راسهم حسن المسعود، وطعيمة الحسن، ووجيه الجبر، ومحمد سعيد الصلاح، ومحمد عبد الجليل، وقاسم الشراري، وغيرهم الكثير من شباب القرية، الذين كانوا في معظمهم يتقنون تلك الرقصة الشعبية بمهارة تسلب الالباب.
وكانت حفلات الدبكة والزفة تقام على الاقل في ليلة الحناء وفي اليوم التالي يوم الزفة العظيم، حيث يبلغ الفرح منتهاه. اما الزفة فكانت أبرز احداث ليلة الدخلة، وتبدأ من امام بيت العريس، حيث يتم زفة العريس زفة قصيرة يشارك فيها أقاربه وأصدقاؤه احتفالا بانتهاء طقوس حمام العريس، استعداد لليلة الكبيرة، وغالبا ما كانت هذه الزفة تبدأ بأغنية "طلع الزين من الحمام". ثم يسير موكب الزفة من وسط البلد الى مفرق الصفراء، او امكان أخرى مثل شجرة السدرة او ساحة المدرسة، وهناك يحمى وطيس الزفة ويصل الى الذروة، ثم يسير الموكب مرة أخرى الى حيث يدخل العريس على عروسه بعد ان يشبعه أصحابه ضربا بمطارق الرمان الا من تمكن من الإفلات وهرب ولم يضرب.
وأحيانا كان يقام بالتزامن مع الاعراس مهرجان سباق خيل في ارض لقنه لصاحبها المرحوم أبو عارف والتي كانت خلة أي ارض واسعة، ولم تكن مزروعة بالأشجار. ومن طقوس ذلك المهرجان ان يتمكن الخيال من التقاط جلد خاروف عن ارض السباق، واذكر تماما ان أبرز الخيالة في ذلك الزمن الجميل كان عيسى الخليل، وقد شاهدته بام عيني وانا قريب من المضمار وهو يميل على فرسه ليلتقط ذلك الشيء عن الأرض من على ظهر فرس بيضاء جميلة ورشيقة مسرعة.
المهم ان طقوس العرس قبل الاحتلال كانت طقوس مذهلة، وهي مصدر فرح لا ينضب، ومهرجان تراث شعبي، وبمشاركة شعبية واسعة.
وما ان سقطت الضفة العربية وبسط الاحتلال سطوته، حتى انتهت تلك الاعراس الجميلة بطقوسها الأسطورية الجميلة الى غير رجعة. وحلت الكآبة محل الفرح، وانتهت معظم طقوس الزفة، والدبكة بهيبتها المذهلة، وتبدل الحال وصارت الاعراس مناسبات يجتر الناس فيها الفرح اجترارا، ذلك إذا لم تتحول الى مناسبات يندبون فيها الحظ والتباكي على ما جرى وكان.
وعزف الكبار عن المشاركة في الاعراس، وصارت معظم الاعراس اشبه بتجمعات للأطفال، فارغة في معظمها من المحتوى الجميل وطقوس الفرح. فمن اين يأتي الفرح، وقد جرح السقوط الكبير كرامة الرجال فلم يعد في قلوبهم مكان للفرح، ولم تعد ارجلهم قادرة على ان تتراقص فرحا لشيء وقد سحقتهم مشاعر الهزيمة. كما توقفت مهرجانات سباق الخيل تماما ولم تقام ابدا بعد الاحتلال. ولولى قانون العيب والرغبة في مجاملة الأقارب والاصحاب لربما عزف الناس عن أي مشاركة في أي زفة عريس. لكن الزمن كان كفيلا بأن يبدل الأحوال وتعود الافراح، وتقام الليالي الملاح، واستعاد الناس طقوس الفرح، من طقطق الى سلام عليكم، لكنها ظلت مسخا، ابنا مشوها، وحدثا مببتورا، مقارنة بما كان يجري من طقوس قبل الاحتلال. وظل الحزن ملازما للأعراس. وأصبحت مناسبة لتذكر مأساة النكبة أكثر منها للفرح.
واذكر انني حين تزوجت في الكويت في عام 1988 كتب اخي مصطفى خليل على بطاقة العرس، وهو مدير مطبعة هناك، عبارة تعكس المزاج الذي ظل مسيطرا على عقول الناس بعد النبكة. فقد روس بطاقة الدعوة الى العرس بعبارة " افراحنا عودتنا" وهذه العبارة تقول الكثير.
ومع الزمن حلت الدحية الشبابية محل الزفة الشعبية التراثية، وأغاني الطرب الأصيل، ومحاورة الشعراء العجاوية ليرقص على أنغام الدحية الشباب حتى دون معرفة معاني كلماتها غير المفهومة.
والحق يقال لقد ساهمت القاعات الواسعة، التي أصبحت مسرح احتفالات الزواج، في إقامة حفلات جميلة على أنغام الدي جي والاغاني الراقصة، لكن الفرق بينها وبين طقوس العرس قبل الاحتلال كان وسيظل كالفرق بين الثرى والثرية.
وظل الامر مقبولا ومعقولا بشكل عام والى حد بعيد، الى ان حل علينا على حين غرة زمن الكورونا اللعين. وصدرت عن الجهات المسؤولة تعليمات بالتباعد الاجتماعي، وإلغاء التجمعات والاحتفالات، واعتبرت الاعراس واحدة من اسوأ مصادر انتشار العدوى. وصارت الاعراس تقام على حين غرة، وفي الخفاء، لتجنب مخالفة القانون والعقاب ودفع الغرامات وربما السجن، قبل الاهتمام بصحة الناس وسلامتهم من العدوى...
وكان ان عقد ابني امجد في مطلع هذا الزمن الاغبر عقد قرانه. أي زمن الكورونا اللعين. وقبل اتساع انتشار الوباء الذي دفع الى اعتماد إجراءات قاسية لمنع انتشار العدوى. والابناء فلذات الاكباد. ويود الاب والام والاهل والأحبة جميعا ان يشاركوا العريس فرحته، فمثل هذا الحدث ينتظره الاهل طوال العمر، ولا يمكن تصور ان يتم عرس من غير طقوس زفاف مدوية، وحفلة طنانة رنانة.
لكن الجائحة عطلت الحياة بكافة مظاهرها، وصارت التجمعات بؤر لنقل العدوى ومخالفة للقانون. فما العمل؟ خاصة ان وجود امجد الموظف في شركة اتصالات في الأردن الحبيب، يشكل مشكلة إضافية، فالجسور مغلقة والحركة شبه مستحيلة وقد يترتب عليها تبعات صعبة ومؤلمة.
وكنت في وقت مبكر قد استشرفت المستقبل وتوقعت من واقع المعطيات الكارثية، ان تسوء الأحوال شيئا فشيئا، فحاولت مع مطلع الصيف الدفع باتجاه انجاز العرس ضمن طقوس معقولة اثناء فترات السماح بإقامه الاحتفالات. لكن ظل حضور العريس يشكل مشكلة لوجستية، بل أصبحت الأمور أكثر تعقيدا من قبل، خاصة بعد الانتشار الواسع للعدوى في الأردن، والتشديد على الحركة اكثر فاكثر. وانقضت اشهر الصيف ونحن مكانك سر.
وحيث انني استشرفت المستقبل من جديد، وتوقعت ان يتأزم الموقف الكوروني بصورة كارثية، مع دخول فصل الشتاء، وبما يحمله ذلك الواقع المرير من احتمالات مخيفة، فربما يصاب أحدنا انا او ام العريس او العريس او العروس او اهل العروس بالعدوى القاتلة، وتحل الكارثة، صرت اسعى بكل ما اوتيت من حيلة وأدوات اقناع لاستعجال الزفاف، مهما تيسر من طقوس ضرورية لإشهار الزواج حسب الشرع والعرف دون الالتفات الى طقوس الزواج التقليدية. لكن ذلك كان يعني في زمن الكورونا الامتناع عن إقامة اية طقوس احتفالية، يمكن ان تؤدي الى نقل العدوى، وبالتالي التسبب بالضرر لنا وللناس ونصبح قصة على كل لسان.
تصور معي ان يتم زفاف حبيب دون طقوس فرح ودون حفل ولو بصورة هزيلة؟ كم هو مؤلم ان تتخلى عن حلم الاحتفال في زفاف فلذة كبدك. لكن المخاوف من الاحتمالات المفتوحة كانت كبيرة وتدفع باتجاه انجاز العرس بل والاستعجال في ذلك دون ان يتسبب هذا الاجراء باي اذى ولو على حساب فرحة الاهل والاحباب.
وما ان فتحت نافذة امل حتى سعيت لاستثمارها، فقمنا على تسجيل اسم العروس في المنصة للسفر. وما ان تحصلت الموافقة، حتى صرنا امام خيارات قاسية ومؤلمة، لكنني اصررت اصرارا متطرفا على ان سلامة الناس ونحن والاهل من الناس، واعتبرت ذلك اهم من طقوس العرس التقليدية، ورفضت إقامة حفل زفاف سيكون مبتورا أصلا لعدم وجود العريس، والذي لو أقيم سيكون مخالف للقانون وفي الخفاء وقد يتسبب بالمرض والموت للأحباب.
ولما جاء الموعد المحدد للسفر، سافرت العروس بعد حفل وداع محدود من قبل اهل العروس، والذين وافقوا مشكورين، لكن على مضد واستحياء، على استكمال طقوس العرس دون إقامة افراح وليالي ملاح، وجريا على ما صار طقوسا بديلة عند الناس، وعلى ان يتم الاشهار عبر الإعلان عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي. وقد حصل وتم إتمام الزفاف فعلا دون ان تطلق الحناجر ولو زغروته واحدة، وربما بكت العيون خلف الستار دموعا حارة، وتحسرت القلوب على موت الفرح وأزمان ما قبل الكورونا.
اما الاستياء فجلة تجمهر عند أميرتي ابنتي شروق وأظن انه لو كان فايروس الكورونا اسدا والتقته شروق لقتلته بأصابع يديها لشدة استيائها منه لإفساده فرحتنا. وكذلك عند زوجتي وشريكة حياتي ام العريس، وعند جناحي الاخر الى الجنة أميرتي ابنتي شذا لكنه كان عندهن اقل صخبا وضجيجا.
فكان زفاف زمن الكورونا وللأسف الشديد خالي من أي فرح، او حتى طقوس فرح. بل والحق يقال كان اشبه بطقوس جنائزية، وليس عرسا وفرحا، وترك ذلك غصة في حلوقنا وقلوبنا لن تزول منها ابدا الى يوم القيامة.
يا له من زمن لعين زمن الكورونا.

***

- فالج لا تعالج: مؤشرات تفتح الأبواب على كل الاحتمالات.

وصلت رسالة نصية لصديقي الاديب إبراهيم جوهر وهو من سكان جبل المكبر، تقول انت "مخالط عليك بالتزام الحجر" استغرب الاستاذ إبراهيم الرسالة وكتب مستهجنا على صفحته على الفيس، انه لا يمكن ان يكون مخالط فهو لم يغادر المنزل منذ اندلاع الحرب الكورونية، ويقدم الدليل على ذلك طول شعر ذقنه وشعر رأسه.
حتما وصول رسالة عن طريق الخطأ لشخص لم يغادر المنزل منذ اندلاع غضب الرب الكوروني مؤشر على تخبط الجهات المسؤولة كنتيجة لضخامة البيانات التي بين يديها، والاحتمال الاخر ان السلطات تلك اصبحت تعود في تحديد المخالطين الى المكالمات التلفونية الصادرة والواردة من و الى هاتف المصاب وتعتبر ان أي اتصال مع شخص يعني احتمالية ان يكون ذلك الشخص مخالط، وهذا يعني ان قواعد الاشتباك مع الكورونا قد تغيرت وان الانتشار الوبائي لم يعد مزحه وهو حتما خارج عن السيطرة حتى عند أجهزة متطورة ولديها كل الإمكانيات، فكيف يكون الحال لدينا ونحن نعتاش على الفتات.
لا بد ان هذا كان مؤشرا واضحا على تبدل قواعد اللعبة، وبدء الانتشار الانفجاري او فقدان السيطرة. لكنه ليس المؤشر الوحيد، فبالأمس القريب كنا نتلصص لسماع اخبار المصابين ومعرفة اسمائهم، ونادرا ما كانت القوائم الصادرة تشتمل على اسم شخص قريب او معرفه او زميل. ومرة واحدة صارت قوائم الأسماء الكورونية تشتمل على العديد من أسماء الناس الذين نعرفهم شخصيا او نخالطهم ونتعامل معهم. وتدريجيا انكسرت الحواجز النفسية، وكودات العيب والخجل السخيفة، والتي كانت تمنع الناس من التصريح بإصابتها بالفايروس وتستعر من ذلك، وتبدل الحال وصار كل مصاب يعلن ويجاهر بإصابته طوعا وأحيانا قصرا على صفحته على الفيس، وانه يطلب ممن خالطوه اجراء الفحص اللازم.
وازدادت اعداد الناس الذين صارت تظهر عليهم الاعراض حتى ان تجاربهم مع العدوى صارت حكايات تروى للناس لعلهم يتعظون، وقد ساهمت شخصيا بكتابة ونشر بعض هذه الحكايات للموعظة كان اخرها يوم أمس حكاية زميلي وليد دويكات الذي أعلن اصابته واخاه وبعض افراد العائلة.
واليوم صباحا شعرت بان سيل الكورونا الخفيف قد أصبح فجأة طوفانا، فقد أرسل لي صديقي محمد الردايدة يخبرني ان الفايروس اللعين تسلسل لابنه المهندس عدي وزوجته وهم من سكان عمان الأردن. وفي نفس الوقت كتب لي صديقي عدي أبو عمشه ابن زواتا، وهو صديق مشترك مع الردايدة، ليخبرني بأن ابنه عادل قد أصيب هو وزوجته أيضا، حتى انني كتبت مقولة على صفحتي متأثرا بهذه الاخبار التي تشي بانتشار انفجاري قلت فيها " اشعر بأنني شجرة في بستان تشتعل فيه النيران".
نعم الكورونا أصبحت مثل نار تنتشر بقوة متسارعة، وأصبحت خارجة حتما عن السيطرة، لتصيب الذي لا يرتدي كمامة، ولا يتباعد اجتماعيا ولا يأخذ بأسباب الوقاية، لكنها تصل أيضا بقدرة قادر الى ابو كمامة، فمعظم الذين يعلنون اصابتهم يدعون انهم أصيبوا على الرغم من حرصهم الشديد واتخاذ كافة أدوات الوقاية، واليوم كان من بينهم زميل اخر من زملاء الدراسة في جامعة بيت لحم أبو أشرف الذي غرد على صفحته بان "ليل مصاب الكورونا طويل"، وهو ما يشي باصابته بالعدوى، وقد تواصلت معه على الخاص حيث بين لي انه يعتقد بأنه مصاب رغم اتخاذه كافة الإجراءات الضرورية للوقاية.
هذه العبارة " ليل مصاب الكورونا طول" كان الأستاذ حسن حمودة، ابن عمتي، قد قالها لي منذ أيام رغم ان اصابته كانت خفيفة مقارنة مع ما نسمع من اعراض عند البعض تصل بهم الى حافة الموت. لكنه اعترف بأنه كان يشعر بالرعب، وهو كما اعرفه ذلك الرجل الصلب قوي الشكيمة، خاصة في ساعات الليل حتى انقضت أيام الحجر.
حتى لا نطيل، اليوم أيضا وفي مؤشر اخر جلي كعلم على رأسه نار يؤشر الى تردي الوضع الكوروني، كتبت احدى الصفحات على الفيس بأن فلسطين دخلت طور "الانتشار المجتمعي" للكورونا؟؟؟!!
صراحة لم يسعفني كل ما تعلمته وقرأته وتراكم لدي من معارف عن المجتمعات، ومن ذلك ما تيسر من مقدمة ابن خلدون، معرفة ما المقصود "بالانتشار المجتمعي" للكورونا، لكنه حتما يبدو شيئا مخيفا، حتى دون ان نعرف ما يوحي اليه من حيث انتشار الوباء وما يرتبط بذلك من الام ومخاطر واحتمالات مقاسة بالأرقام والبيانات الدقيقة.
وعندما طلبت مساعدة الأصدقاء على صفحتي لمعرفة المقصود من العبارة " الانتشار المجتمعي" جاءت الردود ساخرة عبثية، لكن واضح ان اصحابها استشعروا ما استشعرت به انا أيضا من مخاطر ومعاني واحتمالات كارثية تحملها العبارة المذكورة.
اما التعليق الساخر المدوي من بين تلك التعليقات فقد جاء من صديقي، دكتور رامز الخياط، طبيب الانف والاذن والحنجرة والذي يقف على رؤوس أصابعه منذ اندلاع الجائحة ويشاهد الفايروس اللعين وهو يقتحم أجساد مرضاه كنار كاوية، والذي عبر فيه عن احباطه لما الت اليه الأمور وجاء في تعليقه " بهنيكم، الله أكبر، والنصر صار قاب قوسين او أدني" ليؤكد على تعليقي، وهو الطبيب العليم بأمر الفايروس ويراه رؤيا العين كل يوم أكثر من مرة بان الأمور "ولعت " فعلا من زمان "بس ستر الله هو الي مانع وقوع الكارثة".
رغم سوداوية الموقف وقتامة الصورة و"الانتشار المجتمعي" للفايروس، بغض النظر عن معنى هذه العبارة المخيفة، وعلى الرغم من طوفان الإصابات المعلن بشكل رسمي، ونيران الالم والاعراض الرهيبة التي صرنا نرى ونسمع لهيبها من الأصدقاء والأحبة، الا اننا نجد بان الاستهتار ما يزال سيد الموقف، فحين طلبت اليوم من شاب في الفرن ارتداء الكمامة رد بقوله " وكلها للله يا مواطن".
وقد أكد على كلامي هذا صديقي عزام خلف والذي علق على العبارة أعلاه بأنه لم يجد وهو في طريقه الى الصيدلية والسوق حتى شخص واحد يرتدي كمامة مضيفا و"كان الناس تعيش في كوكب اخر حيث ان اللامبالاة سيدة الموقف".
الوضع كارثي وحالة ميؤوس منها وافضل ما يمكن قوله هو عبارة " فالج لا تعالج". للاسف فان الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات لكنها احتمالات كارثية حصرا . والله يستر من الجاي.
يا بتاع النعنع يا منعنع

***

- فالج لا تعالج: وفتحت أبواب جنهم الاعلامي.

يا لها من ليلة مرعبة. موت مزلزل، واخبار تصب الزيت على نار الخوف والالم.
المتابع لصفحتي منذ اندلاع الجائحة اللعينة، يعرف انني كنت من أوائل من حمل لواء التحذير من مخاطر الجائحة، ودعوت مرارا وتكرار لضرورة الالتزام الصارم بالإجراءات الوقائية لكي لا نصل الى وضع كارثي ينهار فيه النظام الصحي بسبب خطورة ما يمكن ان ينتج عن مثل ذلك الانهيار من مآسي وآلام.
وحاولت بكل ما اوتيت من حيلة، ومعرفة، وقوة، اقناع الناس بضرورة التعامل مع خطر الجائحة بجدية مطلقة، وعدم الاستهتار او التهوين منها، ومن احتمالات الإصابة ونقل العدوى. وكنت بكل تأكيد من القلائل الذين طالبوا بكل شجاعة وإصرار وباستمرار بالإغلاق الشامل، ما دام مؤشر ومنحنى الإصابات يتجه نحو الأعلى وبهدف كسر سلسلة الانتشار، والإبقاء على عدد الإصابات تحت السيطرة.
وقد تعرضت لكثير من الانتقاد من الأصدقاء والاحباب واتهمت من قبل البعض بأنني احمل لواء التشاؤم والتهويل الإعلامي والسلبية، رغم انني صاحب مدرسة تعلم الناس الإيجابية، والتفكير الإيجابي.
حتى ان البعض اتهمني بإضعاف مناعة القطيع، بسبب حديثي الدائم عن ضرورة الالتزام بالتعليمات والتخويف والترهيب من الجائحة. واقترح صديقي الدكتور محمود زغيري التوقف عن استخدام كلمات رنانة تثير الفزع لدى الناس. وقد وصل الامر الى ان اتهمني صديق من العالم الافتراضي في وقت مبكر من اندلاع الجائحة وقبل تراكم الأدلة على كارثية النتائج المترتبة على انكار العدوى، بأنني وان كنت أدرى او لا أدرى، ناطق باسم من خطط ودبر ونفذ تلك المؤامرة العالمية، وعلى اعتبار ان الفايروس كذبة تهدف الى غايات سياسية واقتصادية، وأننا لا يجب ان ننساق وراء تلك المؤامرة.
وكنت استغرب ردود فعل الناس المهونة من مخاطر الجائحة، في ظل وجود ادلة عارمة على تلك المخاطر. وكنت أحيانا اشعر بالاشمئزاز من طروحات البعض، ولكنني كنت دائما اقتدي بالرسول الكريم في هذه واردد في نفسي " اللهم اهدي قومي فانهم لا يعلمون" فالمعرفة تجعل الانسان أحيانا يشعر بوحدة قاسية.
وانا ما أزال أرى ان الجائحة خطيرة جدا، وان لها تبعات كارثية، خاصة إذا ما استمر الناس بالعزوف عن الالتزام باتباع الإجراءات الضرورية كما هو حاصل الان، والتي اوصت بها الجهات الصحية العالمية. وحتما أرى بان الوضع خطير ويزداد خطورة بسبب ارتفاع نسبة الإصابات الى حدود تفوق قدرة المستشفيات على الاستيعاب والنظام الصحي على التحمل.
وقد شاهدنا اليوم مقابلة مع الأستاذ المحامي وائل الحزام مع تلفزيون المدينة، والذي قص فيها على الناس حكايته مع المرض اللعين، وكيف انه لم يجد، بينما كان على حافة الموت ويعاني من آلام لا تطاق وارتفاع حاد في درجة الحرارة وصلت الى 40.6 درجة، لم يجد له سرير في المستشفى العسكري ولا أي مستشفى، رغم انه لجأ، وكما قال، الى واسطة نائب المحافظ للمساعدة، واضطرت الطواقم الطبية الى علاجه في المنزل مرارا وتكررا الى ان شفي وعاد من الموت.
وفي كل يوم نسمع صرخات مكتومة من الطواقم الطبية تحذر بأن النظام الطبي على حافة الانهيار. نعم كل ذلك صحيح. والدعوة الى الحذر والاستمرار في اتباع الإجراءات امر في غاية العقل والوعي والإنسانية، لان أي اهمال قد يتسبب في الألم والموت للناس.
لكنني لاحظت هذه الليلة، حالة غير مسبوقة من الياس والإحباط والخوف والرعب والذعر، فيما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي. وعزز وللأسف الشديد أجواء الخوف والرعب تلك وفاة اثنان فاضلان من شباب المدينة، رحمهما الله، عرفات والنابلسي. ويبدو ان كثيرين تفاجأوا بوفاتهم إثر اصابتهم بالعدوى اللعينة. فما يزال عدد هائل من الناس للآسف ينكر وجود الجائحة، او على الأقل يهون ويقلل من مخاطرها. اما ان تتسبب في وفاة شابين بهذه السرعة، والفجائية، وهم شباب، فقد أدى ذلك الى هزة وجدانية وعصبية هائلة، انعكست على شكل تسونامي من البوسات المخيفة والمحزنة والنادبة والمهولة والمحذرة مما هو ات.
والصحيح انني لا أجد مبرر لهذا الضجيج الهائل، وكأن أبواب جهنم قد فتحت على مصارعها، والذي ترافق مع انتشار الاخبار العاجلة من أوروبا، وخاصة من لندن إثر انتشار سلالة جديدة من الفايروس. وانا، مرة أخرى، لا اقلل من خطورة الفايروس كوفيد -19 ، فكيف لي ان اقلل من خطورة الفايروس المتحور والذي لم يجد له اسم بعد وعلى الاغلب سيمنح اسم كوفيد -21؟!.
انا اعرف تماما خطورة وسائل الاعلام، وأثرها الرهيب في التأثير على عقول وقلوب ومعنويات الناس. لقد درست الاعلام في الجامعة، واطلعت على اسرار لا يطلع عليها غير الدارس لخطورة دور الاعلام. ولذلك أقول بأنني وجدت بأن الظروف المأساوية قد توفر الفرصة للناس بأن يغردوا بصورة غير شفافة، قد تتسبب في الفزع والذعر غير المبرر.
مثلا عندما قرأت الخبر عن الفايروس الجديد في لندن بالأمس، وجدت ان الذي نقل الخبر يقول بأنه "تم اكتشاف فايروس جديد متحور في لندن سريع الانتشار بنسبة 70% وأخطر من الفايروس كوفيد 19 بنفس النسبة". فورا نقرت على الرابط باللغة الإنجليزية المرفق مع الخبر وكوني عملت مترجم في جزء من حياتي قرات ما هو منشور عن الفايروس الجديد وإذا بالمغرد أضاف من عندياته الشق الثاني من الخبر، وهو الذي يصف خطورة الفايروس الجديد بالمهولة والمرعبة. لم يقل النص الإنجليزي ذلك ابدا.
والمشكلة ان اول تغريده تمثل كرة ثلج بحجم صغير جدا، وما ان تتدحرج كرة الثلج تلك حتى تبدأ تكبر شيئا فشيئا، وكل مغرد يضيف من عنده متبرعا لخدمة البشرية، بعض البهارات والمبالغات على الخبر الأصلي.
ومن معرفتنا بما كان يجري تاريخيا عند وقوع الجوائح والكوارث، نقول اننا سنجد اناس تبالغ وتبهر وتولف الى حد ان البعض في مثل هذه الظروف قد يهذي ويدعي بأنه المهدي المنتظر، جاء ليخلص العالم، وسوف تسمعون في الأيام القادمة عن اوناس حلموا بوصفات لعلاج الكورنا بنسختها الجديدة كوفيد 2021.
دعونا نصرخ سويا... لا للمبالغة. لا للأوهام والجنون. لا لفقدان السيطرة. لا للتهويل. لا للتخويف غير المبرر. لا للتبهير والتنميق. لا للتبرع بمعلومات ما انزل الله بها من سلطان.
نعم لا يمكننا ان نستسلم في خضم معركة خطيرة. لا يمكننا ان نفقد توازننا. لا يمكننا ان نفقد عقولنا، ورشدنا وصبرنا وسيطرتنا على امرنا. صحيح علينا ان نرتقي في وعينا ونترجم ذلك الى إجراءات عملية تساهم في كسر سلسلة انتشار العدوى وتعكس اتجاه المنحنى الوبائي، لكن لا يمكننا ان ننكسر نحن امام الهجوم الفايروسي اللئيم مهما اشتد وتحور وتطور.
لا بد ان نتحلى بأقصى درجات الوعي والعزم والصبر والإصرار على الحياة. لا بد ان نختار الحياة، ولكن بحذر شديد فنحن ما نزال في ميمعة الوباء القاتل. وحتما نحن مضطرون للتحول الى نمط اخر من الحياة، ونتكيف مع الإجراءات المطلوبة، التي فرضها زائر الكورنا اللعين من كوكب المشتري. ولا يمكننا ان نتوقف عن العيش لحين رحيل الفايروس اللعين. وعلينا حتما ان نعترف بأننا نواجه جائحة وليس مجرد ازمة عابرة وهذه لها مدياتها، وعلينا ان نتكيف مع هذا الظرف القاسي بكل اريحية وعقل وصبر.
لقد دأبت منذر فترة على نشر صور لنباتات صغيرة جدا وضعيفة تنمو في قلب صخرة صلدة تحت عنوان "إرادة الحياة". فان كانت هذه النباتات الضعيفة تعيش في ظل مثل تلك الظروف المستحيلة، فالأجدر بنا ان نتمتع نحن البشر اصحاب العقول والسمع والنطق، بإرادة الحياة، ونقاتل بشراسة من اجل العيش والبقاء، وهزيمة شر هذا الفايروس الدخيل اللعين.
لم يكن استخدامي لتعبير هذا الفايروس القادم من المشتري اعتباطيا ولا عشوائيا، وانما اردت به ان اشير ومن خلاله الى منشور قرأته هذه الليلة وقبل قليل. وأتصور انه مدمر، ويقدم مثال عن خطورة الإعلام ، وسينتشر كالنار في الهشيم، وسوف يتسبب بالهلع للناس دون مبرر ومسوغ، وجاء فيه :
" الاقتران العظيم!
زواج زحل من المشتري...هذا المساء...
كل 800 سنة يحدث...
وينتج عنه كوارث ودمار...
يا له من بوست مدمر ينشره صديق وزميل دراسة سابق للأسف. ولا اظنه خبير فلكي، ولا يشير الى مصدر الخبر، ولا اي مُنَجِم تبرع ليزفه مع نهاية العام مبشرا بعام اشد لعنة. وخطورة المنشور تكمن في صياغته المنمقة، فهو يفترض (زواج) كواكب ولا اعرف ان كانت الكواكب تتزاوج؟! وان يحدث مثل هذا التزاوج مرة كل 800 عام، وينجب كوارث ودمار...؟؟؟!!!
يا إلهي...
على الاغلب ان مثل هذه التغريده هرطقة إعلامية ليس لها أساس علمي ابدا، وهي التي سينتج عنها كوارث ودمار لأنها دعوة لليأس والاستسلام لكل ما هو ات من الفضاء.
وانا أدعوكم لاختيار الحياة، وعدم الاستسلام مطلقا، مهما انتشر الفايروس وتغول الاعلام وتهور.

***

- فالج لا تعالج: الاثار النفسية المدمرة لحرب الكورنا

بينما كنت طالب دراسات عليا في جامعة ساندياغو في الولايات المتحدة الامريكية، في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، ولضيق الحالة المادية حصلت على عمل في دكان الكتب، Aztec Book Store ، في محيط الجامعة، حيث كنت اعمل على تفريغ كراتين الكتب من الشاحنة، ثم تفريغ الكتب من الكراتين، وتسعيرها ثم نقلها الى الرفوف في الدكان، وأخيرا تحطيم الكراتين الفارغة من خلال ماكنة مخصصه لهذا العمل.
لكن هذا الوصف الوظيفي لما كنت أقوم به من عمل ليس موضوعنا لهذا اليوم، وانما الموضوع ما شاهدته ضمن تلك الوظيفة، وكان صادما الى حد ما. لقد كان يعمل الى جانبي ومجموعة العمال والموظفين طبعا، شخص في اربعينيات العمر، أشقر، له عيون زرقاء جميلة، طويل القامة، وله كرش مندلع امامه كبطن حامل في شهرها الثامن او التاسع. واحسست من لحظة رؤيته انه انسان غير سوي وغير طبيعي، واستغربت وجوده كموظف، وهو في تلك الحال المزرية، ويبدو وكأنه في عالم اخر تماما.
سالت احد الموظفين عنه، وعن سبب وجوده، فاخبرني ان المذكور محارب قديم، من مخالفات حرب فيتنام، وهناك يطلقون عليهم اسم Vietnam veterans ، وان المذكور يعاني من اعراض اضطراب ما بعد الصدمة، وان القانون هناك يلزم الشركات توظيف بعض هؤلاء الأشخاص رغم عدم اهليتهم في تقديري للعمل وقلة انتاجيتهم.
كان ذلك الموقف اول مرة اسمع فيها بأعراض ما بعد الصدمة، وحينما توسعت في القراءة عن الموضوع، خلصت الى ان من الاثار الإيجابية القليلة ربما لحرب فيتنام، انها اغنت مكتبة علم النفس بالمعرفة، فقد تعرف علماء النفس في الغرب على الاثار المدمرة للحروب، وبالتالي الصدمات والظروف الصادمة، واثار تلك العوامل على من يعيش ظروف الحرب من ضغوط نفسية، وتوتر، وقلق، وخوف من الحرب ومن مآلتها. وصار معروفا لدى المختصين بان مثل تلك الاثار ليست آنية، وتبرز اثناء ظروف الحرب فقط، وانما تستمر وقد تظهر اثناء وبعد انتهاء المشاركة في الحرب او التعرض للظروف الصادمة، ويطلق عليها اسم اعراض واثار ما بعد الصدمة.
ولا أتصور ان أحدا ينظر الى حرب الكورونا التي فرضت على البشرية، على انها اقل بشاعة في دمارها واثارها العاجلة والآجلة على الناس، من الحرب التقليدية. بل ربما يكون لهذه الحرب اثار اشد من الحروب التقليدية، بسبب مجموعة عوامل منها انها جاءت على حين غرة، وشملت العالم بأكمله، وجاءت على شكل خطر يهدد الجميع، وهي مرض شديد العدوى، متحور ومتطور ليفتك باي شخص في أي وقت وفي ظل غياب لقاح او علاج لوقف العدوى، وفرضت ضرورة اتخاذ إجراءات غير مسبوقة مثل الحجر الصحي، والاغلاقات، والتي لم تلاقي القبول من قطاع عريض من الناس، وطبعا ما يترتب على ذلك كله من اثار اقتصادية وصحية واجتماعية ونفسية.
ومكتبة علم النفس أصبحت حاليا وبعد مرور كل هذه المدة على اندلاع الجائحة، أصبحت تحتوي على بعض الدراسات والتحليلات والارشادات للتعامل مع ظروف الجائحة والتخفيف من اثارها. وهي تجمع تقريبا على مجموعة اثار خطيرة منها التوتر والقلق والاكتئاب، والإحباط والياس والوهم المرضي، واثار تلك المشاعر النفسية والجسدية. لكني أتصور بأن مزيد من الدراسات اللاحقة سوف تظهر وسوف تكشف وقائع أخرى عديدة للأثار المدمرة التي ستسببها وتخلفها الجائحة.
ولا بد من التنويه بأنني لست هنا بصدد وضع دراسة متخصصة في علم النفس، او تقديم تحليل نفسي يرصد الاثار النفسية لحرب الكورونا بصورة مهنية متخصصة، وانما اردت فقط تسجيل ملاحظاتي من واقع مشاهداتي ومعايشتي للحدث، وما املكه من معرفة حول أثر الصدمة والمصيبة على الانسان من واقع دراساتي في مجال العلوم الانسانية.
فلا شك ان بدايات حرب الكورونا مثل صدمة هائلة لكل الناس، ذلك لما اثارته من مخاوف، ولان الناس لم تكن تعرف مديات الجائحة، وما هي الاضرار التي يمكن ان تحصل كنتيجة لهذا الخطر الداهم. ولذلك كانت ردة الفعل الأولية للتعامل مع الجائحة عند الكثير من الناس أقرب الى الهوس من حيث النظافة، وإجراءات التباعد الاجتماعي والانقطاع عن الناس والحجر واتباع تعليمات الوقاية.
ولذلك كان الخوف هو سيد الموقف، وهذه المشاعر تتفاوت عند الناس فمنهم من يصاب بالرعب والذعر ومنهم من يشعر بالخوف بحدود معقولة ومحتملة، وقد تجد ناس لا يبالون متبلدين في رد فعلهم، وكأن شيئا لم يكن.
ولا شك ان مشاعر الخوف والقلق من المرض الذي قد يفضي الى الموت تكون صعبة ولا تطاق خاصة إذا سيطر على الانسان هواجس الإصابة بالمرض في ظل غياب العلاج، وهاجس الموت وفقدان الأحبة، وفقدان مصدر الرزق، والافلاس لأصحاب الاعمال والبطالة للعاملين في مختلف القطاعات الخ.
وحتما كل الظروف التي نشأت كنتيجة للتغير المفاجئ في نمط الحياة والاضرار الاقتصادية وتعطل قنوات العيش التقليدية، تؤدي الى مشاعر بالإحباط والعجز والياس والقلق ايضا. ويتعرض الانسان بتفاوت الى ضغوط نفسية هائلة حتى في التعامل مع الاغلاقات وتبعاتها مثل تعطل واغلاق المدارس واللجوء الى الدراسة عن بعد ووجود الأطفال في المنزل، والخوف من التواصل الجسدي مع الاخرين، وهو ما فرض على الناس وبتفاوت أيضا، العزلة والانقطاع عن التواصل. ولا شك ان لهذه العزلة أثر نفسي رهيب فنحن كبشر نحتاج للنظام الاجتماعي الداعم والمساند ليبقينا في حالة توازن وان لا ننجرف نحو الجنون.
وكل هذه الاثار يمكن ان تؤدي الى شعور عارم بالكآبة، عند قطاع عريض من الناس، خاصة من يتعرض لأضرار مباشرة كنتيجة لظروف الجائحة، وأكثر الناس تعرضا للكآبة هم الذين يفقدون احبتهم ويجدون أنفسهم عاجزين عن عمل شيء لهم، او يتسببون في موت احبتهم، وتكون الاثار شديدة القسوة وتستمر لسنوات طويلة عند منكر المرض او المستهتر لكنه يقع ضحية للعدوى او يتسبب في موت أحبته.
ولا شك ان الذي يختبر الفقد اثناء هذه الجائحة سيتعرض لموجات رهيبة من الحزن، تتمثل في صدمة نفسية أولية عند الفقد، ثم تبلد في المشاعر، ثم الانكار، ثم يصاب بمشاعر الغضب، لينتهي بمشاعر الكآبة والحزن، كما هو معروف عن الاثار التي تتركها الصدمات.
اما إذا شعر الانسان بأنه هو الذي تسبب في إصابة والده او والدته مثلا، الكبار في السن وأدت تلك الإصابة الى وفاة الاب او الام فان شعور قاتل بالذنب قد يسيطر على ذلك الانسان إضافة الى مشاعر الحزن والكآبة طبعا.
وليت هذه الأثار النفسية تتوقف عند هذا الحد، وتزول بزوال الجائحة التي لا نعرف متى ستختفي طبعا. لكن الحروب والصدمات النفسية المزلزلة يكون لها اثار طويلة المدى تسمى بأعراض ما بعد الصدمة.
أيضا ...ليت هذه الجائحة تتسبب في صدمة واحدة، لكنها على الاغلب سوف تتسبب بسلسلة صدمات لقطاع عريض من الناس. فالجائحة بحد ذاتها صدمة، والتغير في نمط الحياة الحاد والدراماتيكي وانقطاع التواصل صدمة، والحجر الصحي صدمة، واحتمال الإصابة صدمة، والاصابة صدمة، وفقدان الأحبة صدمة، وكل هذه الصدمات قد يكون لها اثار بعيدة المدى وقد تودي الى مشاعر الحزن والقلق والكآبة المدمرة.
وكمثال على اعراض ما بعد الصدمة تشرح دكتورة نفسية أمريكية متخصصة في علاج الحالات التي تعاني من اعراض ما بعد الصدمة، على انها وبعد وفاة والدتها الكبيرة في السن ( 102 عام ) وفي ظروف عادية، ورغم انها الخبيرة في علاج تلك الحالات ولها من العمر سبعون عاما عند اذن ، الا انها وكما تقول وجدت نفسها تختبر موجات من الحزن والكآبة على اثر فقدها لوالدتها، مما دفعها للبحث عن سبب تلك المشاعر المفاجئة لإنسانة متخصصة وتعالج تلك المشاعر، لتجد بعد بحث وتمحيص بأن بعض العلماء يتحدثون عن وجود ادلة بأن هناك تبادل في الخلايا يحصل اثناء الحمل وان لمشاعر ما بعد الصدمة علاقة بتلك الخلايا.
فان كانت طبيبة متخصصة في علم نفس، وتعالج الناس من اثار ما بعد الصدمة، تجد نفسها اثر فقد والدتها المسنة، في ظروف عادية، تتعرض لموجات من الحزن ومشاعر الكآبة، فكيف ستكون مشاعر الكآبة والحزن والاثار الاخرى التي تكون ملازمة لما بعد الصدمة على انسان أنكر الجائحة ولم يقم باتخاذ إجراءات الوقاية، وربما يشعر انه تسبب بموت أناس سواء بعدين كانوا او قريبين. او لأنسان أصيب بالإحباط وفقدان التوازن بسبب الخلل الاقتصادي وفقدان الوظائف والأمان المالي؟
كان الله في عون البشر.
خاصة الذين يكون لهذه الجائحة عليهم أثر رهيب وصدمات وفقد الأحبة، وخسائر مادية وما الي ذلك من اضرار.
لكن لا داعي للهلع رغم كل ما قيل وسيقال، فمن اجل محاصرة والتخفيف من تلك الاثار النفسية، لا بد أولا ان ندرك بأن هذه الحرب لها تبعات نفسية، وجسدية، كما ان لها تبعات اقتصادية. وعلينا ان نفهم ونعي ونتعلم أدوات التعامل مع الصدمات، للتخفيف من تلك الاثار وحصرها وتحديد أثرها.
ولكل مشكلة حل، وان لم يكن هناك حل فليس هناك مشكلة أصلا. علينا تقبل المرض وحصره في حدود المعرفة العلمية عنه وعدم السقوط في متاهات الفزع والوهم المرضي الذي هو سبب رئيسي في المرض النفسي، والمرض النفسي كما تقول مايو كلينك في احدى دراساتها سبب رئيسي في المرض الجسدي.
وحيث ان العدوى اصحبت واقع حال لا بد من تطوير أدوات للتعامل مع التغير القصري في طبيعة الحياة الرتيبة التي نتجت عن الجائحة، فلا بد من استبدال التواصل الجسدي بالتواصل عبر وسائل الاتصال عن بعد، وعدم الانقطاع عن الاتصال مع الناس.
ويجب الاستمرار في العيش وممارسة الرياضة، وخلق بدائل لعادات وأساليب حياة انقطعت وعدم الياس بل والتمسك بالأمل بأن القادم سيكون أفضل.
وحتما يجب الحرص على تجنب الإصابة او التسبب بإصابة الاخرين تجنبا لمشاعر الذنب واثار ما بعد الصدمة النفسية إذا حصل فعلا وتسبب المنكر بالأذى لآخرين.
ويمكن الاسترشاد بما تطرحه الدراسات المتوفرة حاليا على الانترنت من إرشادات ومنها إرشادات صادرة عن مايو كلنك الأمريكية.
وليس هناك عيب بل يجب اللجوء الى المختص في حالة بروز اثار نفسية شديدة قد تتطلب تدخل خبير، حتى يحافظ الانسان على توازنة ولا يصبح ضحية المرض النفسي والجسدي ايضا، وكي يتجنب الاثار بعيدة المدى للجائحة او ما يعرف بأثار ما بعد الصدمة التي قد تستمر لسنوات طويلة.
هي حرب عالمية حتما وحقا... حرب من نمط اخر ولا يمكننا ان نفعل مثل النعامة، ونعتقد بان الأمور على خير ما يرام ونترك النار تحرق اصابعنا.
وكان الله في عون البشر.

***

فالج لا تعالج: الكورونا والمدينة الفاضلة

وصلني قبل قليل على المسنجر من صديق صدوق، خبر هذا نصه" مدير الصحة العالمية: كورونا لن تكون الأخيرة وعلى العالم الاستعداد".
يا الهي!!
سألت صديقي المرسل عن المصدر، فأخبرني بان الخبر ورد من أكثر من مصدر، وأضاف بأن الرئيس الأمريكي المنتخب يحذر الشعب الأمريكي بقوله "انتظروا أيام سوداء العام القادم".
زغرتي يا انشراح!
لا اظن ان صديقي صاحب نكته، او انه يحمل كاميرا خفية. وان صدق الحديث وعلى الاغلب هو صداق من واقع الارهاصات التي سمعناها خلال الأيام الماضية، عن وجود فصيلة جديدة متحورة من الفايروس الكورني اللعين، فهذا يعني ان أبواب جهنم ما تزال مفتوحة، وستظل مشرعة الى ما شاء الله. وتوشر الى ان أحلام الخلاص من خطر الكورونا، بسبب اللقاح كانت متفائلة جدا وأكثر من اللازم، وربما تتبخر قريبا، ناهيك عن الفشل في محاصرة الفايروس ووقف انتشاره.
فقد ورد أيضا صباحا خبر اخر من صديق اخر، يقول بأن وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية، أوقفت حملة التطعيم بسبب وفاة خمسة اشخاص واصابة أكثر من 400 شخص بأعراض مرضية خطيرة كنتيجة لتلقيهم اللقاح، ولا نعرف أي لقاح هو المقصود في هذه الحملة، وهل هو الصيني او الروسي او الامريكي، كما ولا نعرف مدى صحة هذا الخبر، رغم انه يبدو موثوقا، ونقلا عن عبد الله البرقاوي من الرياض. فان كان المقصود اللقاح الأمريكي فسلامة اتسلمكم. زغرتي يا حلمية.
إذا كان هذا الوصف والتشخيص لواقع الحال ولما هو قادم في انابيب الكورونا اللعينة، في قادم الأيام صحيح، فأننا سنكون بأمس الحاجة لانتفاضة مجتمعية عارمة، واعية، ومتماسكة، وملتزمة، وصلبة لمواجهة الكورنا.
ومثل هذه الانتفاضة تتطلب وعي عام، وتعاون والتزام جميع افراد المجتمع بلا استثناء، ذلك لان فرد واحد من افراد المجتمع، يمكن ان يقلب الطاولة على رؤوس الجميع، وان يغرق السفينة، ويمكن حتما لفرد واحد ان يتسبب في انتشار الوباء بصورة تجعل من المستحيل السيطرة عليه، وهذا الاستنتاج مبني على سابقة حصلت فعلا في بدايات الجائحة.
فلقد ورد في الاخبار في بدايات الهجوم الفيروسي اللعين، والذي أطلقت عليه منظمة الصحة العالمية اسم جائحة كوفيد -19، وحيث ان الناس لم يكونوا على دراية بالكثير من التفاصيل بخصوص الفايروس وطرق انتشاره ومدى خطورته ...الخ، تناقلت الاخبار بأن امرأة واحدة في كوريا الجنوبية، نقلت العدوى للمئات ان لم يكن الالاف، بسبب تنقلها للصلاة في عدة كنائس في عدة مناطق من كوريا، وربما سافرت حينها سياحة الى بيت لحم، وهي تحمل الفايروس، حيث خالطت المشاركين في تلك الصلوات وتسببت في نقل العدوى لهم، وقد استحقت كنتيجة لذلك لقب بطلة انتشار.
هذه الرواية تعني انه في غياب التعاون المجتمعي الواعي والصارم والشامل ومشاركة الجميع دون استثناء في مقاومة العدوى، والوقوف على رؤوس الأصابع لمحاربة الفايروس، فأننا سنظل ندور في حلقة مفرغة، وسوف تتحقق نبوة ذلك الرئيس ذو الحظ التعيس، بان العالم يواجه أيام سوداء فعلا وليس فقط امريكا.
فحتى لو تم كسر حدة الانتشار للفايروس اللعين، وانحسر عدد الإصابات الى أدني حد ممكن، فلا يمكننا ان نحتفل ونقيم الافراح والليالي الملاح، ذلك لان بطل انتشار واحد مصاب بالعدوى الكورونية، على شاكلة تلك المرأة الكورية، كفيل بان يعيدنا الى النقطة صفر، فيشتعل الدوري من جديد وهكذا.
يا له من مأزق! ان يكون العالم رهينة لوعي كل فرد فيه بلا استثناء.
يقال في كتب التاريخ ان المدينة تأسست أساسا بسبب وعي الناس الجماعي بضرورة التجمع ضد مخاطر الطبيعة، ومن اجل الفوز في معركة وصراع البقاء. ولا بد ان عوامل الطبيعة في تلك الازمان، أي زمن المشاعية الأولى وبداية تشكل المجتمعات المتحضرة، كانت قاسية ومؤلمة، الى حد انها أوصلت الناس الى الوعي بضرورة التعاون والتكاتف، بهدف خلق بيئة مجتمعية مشتركة، تحمي الناس من الانقراض وتحقق لهم الامن والامان. وقد أصبحت المدينة فيما بعد رمز من رموز الحضارة والتطور الحضاري، كما أصبحت مع الأيام أحد اركان قيام الدول الأساسية، وبغيابها تنتفي الدول ذات السيادة بمفهومها الحديث.
وحتما تقدم المدينة، تلك الوحدة الأساسية في تشكل الدولة، خدمة هائلة وحاسمة للأفراد تساعدهم على البقاء والعيش بأمان، وهي خدمة أصبحت من المسلمات مع الأيام، ولا يدرك او يستشعر قيمتها الناس، ولن يدركوا قيمتها الا إذا ما زالت المدينة، وحل الخراب، وانتفى الجهد الجماعي المجتمعي الحضاري الداعم، الذي يقدم الامن والأمان والحماية للجميع ضمن منظومة المجتمع المتكاملة والداعمة.
وحيث اننا الان أصبحنا في صراع قاتل، في معركة، في حرب، مدمرة لها ابعاد كارثية عدة، نفسية، واجتماعية واقتصادية، وصحية، وهذه الحرب تتطلب معرفة العدو، والوعي بما هو قادر على فعله، وإدراك مدى ما يمكن ان يوقعه من ضرر، ثم خوض المعركة معه دون تهاون، لأننا رأينا بأم اعيننا حجم الضرر الذي يمكن ان يوقعه، وأصبح الكثير من الناس اموات ومنهم من ينتظر، في هذه المعركة المصيرية والتي قد تؤدي الى ما هو اسوأ.
وبما ان المخاطر القائمة حاليا من عدوى الكورونا، تطلبت جهد جماعي وتعاون مجتمعي لكبحها، فكيف سيكون الجهد المطلوب، إذا كنا موعودين بفصائل جديدة من الفايروس الملكي، كوفيد 20- ومن بعده كوفيد -21، وايام سوداء، وأخرى كحلية، ربما؟!
كل ما قيل يؤشر الى ان بقاء الناس، ونجاتهم من خطر الانقراض، أصبح يتطلب وعي وتعاون الجميع، وان تلعب المدينة دورها المناط بها، والذي أنشئت من اجله في الأساس.
بل لقد أصبح الخطر داهم ولا يقتصر على الحيوانات المفترسة واخطار الطبيعة، والحروب البدائية بالسيف والرمح، التي اوجبت تجمع الناس في تجمعات وقلاع سكنية طلبا للحماية.
وحيث ان العالم من أقصاه الى أقصاه، أصبح يواجه جائحة لا يمكن ان يتوقف القتل فيها الا بالقضاء التام على العدوى قضاء مبرما، فان الامر صار يتطلب قيام المدينة الفاضلة، وليس اقل من ذلك، تلك التي نادى بها افلاطون في زمن الاغريق، وتتطلب الوصول الى الانسان السوبرمان المثالي، الملتزم، والواعي والذي يمتثل امتثالا مطلقا لإرادة المجتمع، ولما فيه المصلحة المجتمعية، التي تحقق مصلحة الفرد كتحصيل حاصل.
ولكن تلك المدينة لم تتحقق ابدا، وقد اعتبرت يوتوبيا خيالية، مجرد أحلام لا يمكن تحقيقها رغم جمالية فكرتها.
نعم للأسف، لقد أصبح التحدي كبيرا جدا والخطر عظيم، والقادم يحمل في طياته من الوجع اضعاف ما وصلنا في البريد الكوروني. وحيث ان كل فرد من افراد المجتمع، يعتبر رقم صعب في المعادلة الصعبة، معركة الكورنا، وحيث اننا صرنا في مهب الريح، اصبحنا بحاجة لتلك المدينة الفاضلة. فمن دون الوعي الفردي والمجتمعي الشامل، الموصل الى التزام كل فرد من افراد المجتمع الصارم بكل ما هو مطلوب من اجل السيطرة على الوباء، سواء في مرحلته هذه او مراحله اللاحقة والمتطورة، والتي لا نعرف سر تتابعها السريع حتى الان، وعلى غير العادة في تاريخ الفيروسات، وهو ما يفتح الباب واسعا لاحتمالات أخرى خطيرة في وقت قريب. من دون ذلك الوعي المجتمعي الشامل والالتزام المطلق من قبل كل افراد المجتمع، ستحل الكارثة والطامة الكبرى لا محالة في وقت قريب، وقد ينقرض الناس في نهاية المطاف إذا ما خسروا حربهم ضد الفايروسات، خاصة اذا ما خسرت البشرية معركة اللقاحات.
فهل يدرك الناس اننا امام منعطف انساني تاريخي خطير للغاية يهدد مصير البشرية، وهو أخطر بكثير من مخاطر الطبيعة في زمن المشاعيه الاولى، والتي دفعت اسلافهم للتجمع في تجمعات مجتمعية تطورت لاحقا لمدن متحضرة ليحتموا بأسوارها وقلاعها وامكانياتها.
وهل يمكن للمجتمعات ان تتقبل وتصل الى حالة وعي تكون فيها أقرب الى ما توقعه افلاطون من سكان المدينة الفاضلة؟
هل يمكن ان نصل الى الانسان السوبرمان الذي توقعه نيتشه، من اجل الانتصار على الفيروسات في حربها المدمرة ضد الإنسانية.
كيف يمكن تحقيق ذلك ونحن نكاد نلاحظ تمرد جماعي وفردي ضد السلطة، التي تحاول تطبيق الحد الأدنى من الإجراءات الوقائية؟ ورفض جنوني شبه شامل لما يقوله العلماء والعقل والمنطق؟
فكيف بنا نتوقع من كافة افراد المجتمع ان يصلوا الى درجة عالية من الوعي وسماع والامتثال للتعليمات الوقائية والالتزام بها؟
انها مهمة مستحيلة، وتتطلب جهد توعوي خارق وتقبل مجتمعي من واقع ما يواجه البشرية من خطر الانقراض، وحتى يصل الناس الى حالة وعي تؤهلهم ليكونوا مثالين، مواطنين صالحين، ليكونوا من بين سكان مدينة افلاطون الفاضلة...
لكن الامل معقود ان يدرك الناس وقبل فوات الأوان، اننا نواجه خطرا يهدد مصير البشرية، خطر الانقراض، وان يهبوا جميعا لردع هذا الدخيل الغازي الفضائي، بكل ما تتطلبه المعركة من وعي وجهد والتزام. فقد أصبح الألم الكوروني انهارا وبحورا. والموت المستعجل بعدد الأشجار، وهذا كفيل كما يقول عالم النفس كارل يونج بأن يوقظ الوعي ويستفزه، ويشحذ الهمم، ويدفع الناس للتصرف الصحيح في معركة وصراع البقاء.
وان لم يتحقق ذلك فلنقرأ الفاتحة على اروح الناس.

***

- فالج لا تعالج: الصورة الذهنية المشوهة واثرها الفتاك.

من المعروف ان الشركات تسعى دائما لتكون صورتها الذهنية لدى الجمهور إيجابية محببة، وهي تسخر لذلك نسبة مهمة من ميزانيتها. ملايين الدنانير قد تدفعها الشركات لشن حملات دعاية وإعلان موجهة، وتستثمر من اجل ذلك أي خبر فيه معلومات إيجابية عن الشركة، او أي انجازي، او حتى أي عمل خيري، من اجل الاستفادة منه، في رسم صورة ذهنية محببة لدى الجمهور.
ومن اجل تحقيق هذه الغاية أسست الكثير من الشركات الكبيرة والعالمية، والتي تدار بصورة مهنية وحديثة وتعي الإدارة فيها أهمية وسائل الاعلام ودور العلاقات العامة المهول، أسست صناديق او ما يسمى ببرامج المسؤولية الاجتماعية، لتستغل هذه الشركات مثل هذه الاعمال والتي تسوق على أساس انها اعمال خيرية لترفد جهودها في بناء تلك الصورة الذهنية المحببة لدى الناس.
هذا الكلام يؤشر الى خطورة الدور الذي يلعبه الاعلام، ووسائل الاعلام في السيطرة على الراي العام، وتوجيهه الوجهة التي يرغبها صاحب العلاقة، وغالبا ما تكون الحكومات، او اللوبيات المسيطرة، وفي المثال أعلاه أصحاب الشركات.
والصحيح ان وسائل الاعلام كانت قبل ظهور وسائل الاتصال الاجتماعي، صاحبة سلطة في تشكيل الراي العام، ومن هنا اسموها بالسلطة الرابعة. فقد كانت تتحكم فيما يصل الجمهور من معلومات تكون محصلتها وعلى المدى البعيد تشكيل التوجه المرغوب من قبل وسائل الاعلام وصنع الرأي العام المرغوب فيه.
وقد تعرفت على هذه القوة لوسائل الاعلام اثناء دراستي مادة تسمى "مقدمة في وسائل الاتصال الجماهيري في الولايات المتحدة Introduction to Mass Communication ". ففي أحد المحاضرات بين الدكتور كيف تقوم الصحافة مثلا في رسم الصورة الذهنية للمتلقي، وبالتالي تتحكم في صناعة الرأي العام. فقد احضر يومها مقالا من صحيفة على ما اذكر، وقمنا على تحليل أحد المقالات، فوجدنا ان الصحيفة خصصت حولي 60% من الكلمات المشمولة في المقال ضد طرف في قضية معينة، و20% كلمة مؤيدة للجهة المعنية في رسم الصورة الذهنية المطلوبة وتتمثل في تشويه الطرف المقصود، اما باقي 20% فهي كلمات محايدة وتخصص لخديعة الجمهور بحيادية الصحيفة.
وبين الدكتور ان مثل هذا الأسلوب يقوم مع الزمن بتشكيل الرأي العام نحو الجهة المرغوبة ويرسم الصورة الذهنية المطلوبة وبالتالي يشكل الراي العام، ويؤدي في نهاية المطاف الى السيطرة على الجمهور، وتحويلهم الى ما يشبه قطيع من النعاج تدار كيفما تشاء الجهة التي تقف خلف تلك الحملات والدعاية الموجهة.
ما ذكرته حتى الان يؤشر الى خطورة دور وسائل الاعلام في التحكم في عقول الناس. المشكلة التي برزت بعد انتشار وسائل الاتصالات الاجتماعي، هي ان الانسان العادي تحول الى صحفي إذا شاء. فلم تعد وسائل الاعلام الكبيرة والمملوكة غالبا من الجهات صاحبة القرار حكرا على الدولة او اللوبيات المتنفذة، وتتحكم فيما يصل الى الجمهور. وقد تحقق فعلا هامش من الحرية او لنقل الانفلات، امام الناس، لان الجمهور لم يعد يرى الصورة التي يريدها صاحب القرار فقط.
لكن الذي حصل ويحصل الان هو ان وسائل الاتصال الاجتماعي واسعة الانتشار وفرت منصات لعدد هائل من الناس ان تدلي بدلوها ناحية جائحة الكورونا. والمشكلة ان 99% من هؤلاء الناس ليسوا مؤهلين للحديث في مجال الوباء، ولا يعرفون عن الوباء شيء ابدا من الناحية العلمية. لكنهم والمجال مفتوح امامهم طبعا ينصبون أنفسهم خبراء، ويدلون بدلوهم لأسباب وغايات عديدة لا مجال لحصرها، والحديث عنها هنا.
هذا الانفتاح الإعلامي شوش الصورة الذهنية التي نحن بصددها، وهي ازمة وباء الكورونا. ففي كل لحظة هناك منشور او فيديو او تعليق او تصريح من ناس كثر ليس لهم علاقة بالكورونا لا من قريب ولا من بعيد وحتما يسوقون معلومات مغلوطة.
ولذلك صارت الصورة الذهنية للجائحة، وما يمكن ان تتسبب فيه من ضرر، مرهون بما يصل لكل انسان من معلومات، قد تكون وفي الغالب مختلفة عن الاخرين، وعليه تتشكل عند كل شخص صورة مغايرة. من هنا تجد في العائلة نفسها مواقف متعددة من الجائحة، منهم الذي يؤمن بخطورتها، ومنهم من يكذب وجودها اصلا. وبعض الافراد ينظرون الى الجائحة على انها خطيرة ويجب التعامل مع الموقف بحذر خوفا من العدوى، والبعض الاخر يجادل بان الكورونا انفلونزا عادية وان هناك من يضخم خطرها، وهناك من يتخذ موقفا معاديا حتى للذي يحاول التحذير من خطورة العدوى.
هذا التشويش جعل، ويجعل من الصعب على الناس ان تتجه نحو الالتزام بالإجراءات المطلوبة لمنع استفحال انتشار المرض، بل تجعل المهمة مستحيلة. ولا يمكن ان يصل الناس في ظل وجود سوق سودا للمعلومات، وانفلات لا حدود له للمعلومات، اغلبها مغلوط، الى اتفاق حول طبيعة المرض وخطورته واهمية التصرف ازاؤه.
ذلك لان وسائل الاتصال الاجتماعي تشوش صورة الواقع، وترسم صورة ذهنية مغايرة لما يجب ان تكون عليه جائحة الكورنا ومخاطرها، مهما حاولت الجهات الصحية المسؤولة والتي لا يمكن لها السيطرة على ما يصل الى عقول الناس من معلومات.
والمشكلة ان هذه الوسائل قد تنقل وبكل اريحية تصريح، او فيديو، لشخص ليس له علاقة بالطب الوبائي في هذه الحالة، لا من قريب او بعيد، ولا حتى بعلوم الفايروسات او الاحياء، لكنه يتكلم بطلاقة، ويأتي بمعلومات تثير اهتمام المتلقي، متباكيا، ومعلنا حرصه على الناس، وبالتالي تؤثر رسالته المسمومة في قطاع عريض من الجمهور، وتدفعه الى اتخاذ موقف، من الجائحة ومخاطرها وطرق التعامل معها، من واقع المعلومات المغلوطة التي وصلته.
انها مشكلة عويصة، وأخطر ما فيها تلك الفيديوهات التي يصنعها أصحابها طلبا الى اللايكات وسعة الانتشار لعلهم يتكسبون من ورائها اموالا وشهرة. فمثلا كلنا شاهدنا الممرضة التي تقوم على تطعيم شخص يجلس على كرسي وما ان تغرز الابرة في قفاه بقوة شمشوم الجبار، حتى يسقط على الأرض هاربا من شدة الألم، لكنها لا تتركه، تلاحقه وتجلس فوقه لتكمل مهمتها التي هي أقرب الى النحر والقتل، كما يصورها الفيديو لغايات الدعابة والنكتة.
وهناك فيدو اخر انتشر منذ أيام تقوم الممرضة فيه بقصف اللقاح على الشخص الذي يهرب من التلقيح عن بعد، فتطير ابرة اللقاح في الهواء كأنها صاروخ عابر للقارات، تلاحق الشخص الهارب نحو الباب، لتستقر في مؤخرته فيصيح من شدة الألم في صورة مرعبة غاية في القسوة والالم، ولغايات التسلية ايضا.
لكن مثل هذه الفيديوهات تشكل صورة ذهنية مرعبة عند الإنسان الذي يشاهدها خاصة إذا ما تسللت الى ذهنه خلسة عن طريق الفكاهة. ولذلك ستجد الحكومات صعوبة في اقناع الناس بخطورة الجائحة واتخاذ الإجراءات الوقائية وتلقي الطعوم، وهو ما سيحبط جهود مكافحة الجائحة على المستوى العالمي ويجعلها مهمة مستحيلة.
ولا بد ان اعترف انني وعلى الرغم من معرفتي بخطورة دور وسائل الاعلام، وأدوات تشكيل الصورة الذهنية، وفي قدرتها على رسم الصورة الذهنية الخاطئة والمشوهة، لكنني وجدت نفسي قبل أيام ضحية، واقعا تحت تأثير ذلك التحشيد السلبي المنفلت، ضد اجراء الفحص لعدوى الكورنا دون ان أدرى.
فقد اتضح لي ان المعلومات المغلوطة التي تنتشر في وسائل الاتصال الاجتماعي، قد شكلت لدي موقف لا واعي جعلني اشعر بالرعب من مجرد وضع تلك القطعة في انفي، والتي تستخدم للفحص. فقد انتشرت عدة فيدوهيات لأشخاص يفقدون سيطرتهم اثناء الفحص وبعضهم نساء جميلات رقيقات لغايات التأثير في اقصى حدوده على المتلقي على ما يبدو وتحشيد الناس ضد الفحص ان لم يكن لأغراض النكتة واكتساب الشهرة.
المهم انني وبسبب طبيعة عملي وجدت نفسي قبل أيام، مجبرا اخاك لا بطل على اجراء الفحص فجأة ودون مقدمات. فقد طلب مني اجراء الفحص السريع حتى أتمكن من حضور أحد الاجتماعات المهمة، والتي لا مهرب منها ولا مفر.
الصحيح انه ومنذ اللحظة التي اخبرت فيها بضرورة خضوعي للفحص، وحتى جاءت لحظة الفحص الفعلي، وهي مجرد دقائق قليلة، لكنني رأيت في تلك الدقائق نجوم الظهر، كما يقول المثل، رعبا وتحسبا لعبور تلك القطعة في انفي، وخشة ان تقلع عيني من واقع الصورة الذهنية المرسومة في ذهني عن مثل هذه الفحوصات. فقد صعقتني المفاجأة من ناحية، وكادت مخاوفي من تلك الخشبة التي يدخلها الفاحص في الانف تفقدني صوابي، وفي ذهني تلك الصور المرعبة لأولئك الأشخاص الذين ظهر عليهم اشد المعاناة اثناء الفحص كما عرضت علينا في وسائل التواصل الاجتماعي غير المنضبطة طبعا.
المهم جاء الفاحص وأجرى الفحص في لحظات وكأن شيئا لم يكن، ولم اشعر بشيء من تلك المخاوف الرهيبة التي تحسبت لها. حتى انني خجلت من نفسي بعد انتهاء الفحص على ما اعتراني، وقد تبين لي انني كنت واهما، خائفا، وضحية لبرمجة ذهنية سلبية، من وسائل اتصال خنفشارية لا تلتزم بالمهنية، ولا تعرف الحلال والا الحرام وبعيدة عن الانسانية.
لا يتوقف الامر على الخوف من الفحص الكوروني حتما. فقد انتقل الرعب الى موضوع اخذ اللقاح من عدمه هذه المرة. وكأن هناك حملة عالمية منظمة ضد التلقيح عنوانها انهم سيغرسون فينا قطع كمبيوتر نانونية للسيطرة على عقولنا والتحكم فينا كقطيع الغنم وهذه الحملة تلاقي رواجا لها عند وسائل الاتصال المنفلتة، وتؤدي الى تشكل صورة ذهنية مرعبة تردع الناس عن التصرف السليم وأخذ اللقاح.
وقد سمعت منذ لحظات على محطة سي ان ان بالإنجليزية ان الحكومة الأمريكية قامت على توزيع 12 مليون وحدة لقاح على جغرافيا الولايات المتحدة لاستخدمها، لكنها لم تنفذ حتى الان الا ما يقارب من 2.5 مليون تلقيح فقط.
هذا يعني وبشكل واضح ان هناك مقاومه هائلة للقاح حتى في البلاد المتقدمة والتي لديها قوة إعلامية هائلة، فكيف سيكون الحال لدينا؟ ذلك إذا توفر اللقاح أصلا؟!
انها ميمعة لا نهاية لها، متاهة لا مخرج لها. معركة خاسرة حتما.
فمن دون الوعي الذي يخلق الالتزام والاندفاع نحو المشاركة في الحملة الشعبية العارمة والمشاركة الفاعلة في مكافحة المرض بكافة السبل والادوات، لن يتحقق شيء على صعيد وقف العدوى.
ولن يكون ذلك متيسرا ما دامت الصورة الذهنية عند كل واحد منا، زائفة، ومشوشة، ومختلفة ، بفعل المعلومات المغلوطة التي تصلنا عن طريق وسائل الاتصال الاجتماعي المنفلتة وغير المنضبطة.
الحق، الحق، أقول لكم، باننا نخوض معركة خسارة ضد الكورونا.
ولكل ذلك أقول لكم بكل امانة أن الحل الشافي لهذا الوباء لن يكون الا من السماء.
وليرحمنا الله الذي في السماء.

****

- فالج لا تعالج: سنة الكمامة ومحاكمة الذات.

وانتهى عام 2020 بحلوه ومره، وهل علينا عام 2021، وبهذه المناسبة نشر صديقي الكاتب الاديب،
ابراهيم جوهر
المعتكف منذ بدء الحرب الكورونية حتى طال شعره وذقنه بشكل ملفت كما ظهر في صورته الشخصية، نشر تغريده مع اقتراب نهاية العام 2020، ذكر فيها اصدقاؤه بان لا ينسوا المخدة مع نهاية سنة الكمامة، ويقول انها مخدة محاكمة الذات. اين أخطأت وأين اصبت؟ وعليه اعقد هذه المحاكمة بنية صادقة ومحاسبة امينة.
محكمة...
حيث ان الحدث الأبرز الذي سرق منا جل الوقت في عام 2020، وعطل حياتنا، والتي سماها الأستاذ ابراهيم بسنة الكمامة، هو الكورونا اللعينة، وهي العدوى التي شغلت معظم وقتنا واستهلكت طاقتنا وصبرنا، لا بد من طرح سؤال مهم ونحن على مفترق الطرق هذا، المتمثل في رأس السنة الميلادية الجديدة 2021: هل بالغنا في التحذير من الكورونا؟ وهل كنا على صواب في التحذير الدائم والمستمر من المرض؟ بل والتخويف من العدوى واستخدام كلمات رنانة زنانة لغايات رفع الوعي وخلق الالتزام؟ ام اننا تسببنا فعلا بالرعب كما يتهمنا البعض من واقع ما نشرناه من تغريدات ومقالات تحذر وبشدة من الكورونا على اعتبار أنها جائحة خطيرة؟ وبالتالي تسببنا في انخفاض المناعة عند البعض كنتيجة لمشاعر الخوف التي ربما اثرناها، كما يتهمنا البعض الاخر؟ ام اننا تهاونا ولم نرتق الى مستوى الخطر، ولم نفعل ما يتطلبه الوضع؟ فقصرنا في المساهمة في ردع العدوان الكوروني؟
الصحيح ان الأشهر الأولى من اندلاع حرب الكورنا، والتي كانت الاصابات فيها قليلة نسبيا، ولم يكن معروف للناس مدى فداحة الخطر الذي يمكن ان تتسبب به العدوى، كان من الصعب تسويق فكرة ان الجائحة امر خطير، وانه لا بد من الالتزام بالإجراءات المطلوبة. واذكر انني كنت اول من ارتدى الكمامة، وسرت في الشوارع والناس تتطلع على باستغراب، حتى ان البعض كان يستوقفني ليسأل عن سبب ارتداء الكمامة، وربما ظن البعض انني سقطت في بئر الجنون.
كان الموقف في بداياته جدلي الى حد بعيد، لان العلماء أنفسهم لم يكونوا قد تعرفوا على الفايروس بشكل دقيق، ولم يحددوا مخاطره الحقيقية الكاملة، وهم في الحقيقة ما زالوا يراوحون في مكانهم بهذا الخصوص، رغم انهم تعلموا الكثير واكتسبوا الكثير من الخبرة للتعامل مع ذلك الكابوس المرعب، بعد ان دفع جيش الأطباء والطواقم الطبية ثمنا غاليا لذلك.
لكن مع مرور الأيام اتسعت الإصابات وانتشر الوباء بصورة قوية جدا. ولم نعد نسمع عن الإصابات في الاخبار فقط، وانما أصيب أناس من حولنا، من الاهل والأصدقاء، وتعرفنا على ما يمكن ان يفعله المرض من الم ودمار في الجسم عند البعض، عن قرب شديد.
وفعلا فقد أصيب عدد هائل من الأصدقاء والمعارف وزملاء العمل، كثيرا منهم لم يشعروا في الاعراض، ومرت الإصابة عليهم بردا وسلاما. لكن في المقابل، أصيب عدد لا باس به من الأصدقاء والزملاء بأعراض شديدة ومؤلمة حد القتل، ليتبين كما يقول الدكتور طارق طهبوب الممارس لمهنة الطب في بريطانيا، والمتحدث من لندن في فيدو انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، ان هناك ما يسمى بالأعراض الكورنية طويلة الأمد long Covid ، وان عددا ممن أصيب بهذه الاعراض في بريطانيا قد يصل الى 100 الف مصاب يعانون اشد المعاناة بعضهم منذ ما يزيد على تسعة اشهر، وذلك من بين 2 مليون أصيبوا بالعدوى هناك.
لم تأت كلمة الطبيب طهبوب جزافا طبعا، بل من اجل التحذير من خطورة المرض، وهو الطبيب الممارس في غرف العناية الحثيثة والمركزة، وهو يشرح بإسهاب الأسباب الداعية للحذر من العدوى، وهو الذي يدعو الناس اليه من واقع مشاهداته اليومية ومعرفته وما اكتسبه من خبرة متراكمة منذ اندلاع الجائحة، وهو يدعو في اخر التسجيل الى الله ان يبعد عنا البلاء والغلاء وتسلط الأعداء. وهذه لوحدها توشر الى طبيعة المخاوف التي تنتاب هذا الرجل من المرض الكوروني اللعين.
والصحيح ان عدد الأصدقاء الذين اختبروا اعراض شديدة، ومؤلمة صار مع أيام الكورونا كبير، وكبير جدا، منهم
الأستاذ أمين صبيح
الذي كان مبادرا وتحلى بالشجاعة ليعلن انه أصيب بالعدوى، وليقوم على أثر ذلك على شن حملات توعية من واقع تجربته الذاتية، وبين منذ أيام فقط انه وعلى الرغم من اصابته في بداية شهر أغسطس، لكنه ما يزال يعاني من اثار الإصابة طويلة الأمد، خاصة فيما يتعلق بحاجته الى الأوكسجين، موضحا انه لا يستطيع بذل جهد ولو بسيط بسبب انقطاع التنفس، ومثله الممرض وسائق الإسعاف محمود شبيطة Mahmoud Sudqi Shobaiteh
وليس الأستاذ امين الوحيد من المعارف القريبين مني شخصيا، بل تبعه عدد من الأقارب والأصدقاء والزملاء الشباب منهم
ميسرة عتمة
، ووليد دويكات، ومحمود شبيطة، Imad Elaiwi
عبد العزيز الاسعد
و عصام الاسعد ،
عصام ابويعقوب
وأخيرا وليس اخرا المهندس Waleed Dakka
الذي يمر هذه الأيام بأوقات عصيبة في خضم المعاناة التي شعر بها كل الأصدقاء المذكورين.
وهؤلاء القلة القليلة هم الذين تواصلت معهم شخصيا وتعرفت على طبيعة الاعراض التي أصيبوا بها، لكن قوائم الأصدقاء الذين أصيبوا بأعراض قوية مميته، ولم اعرف بإصابتهم طويلة على ما يبدو، فقد عرفت بالصدفة ان أحد الأصدقاء واسمه Rami Ratrout مر في حالة خطيرة جدا وادخل مستشفى شافيز ولولا لطف الله لذهب الى هناك.
وقد اكدت إصابة هؤلاء الأصدقاء خطورة العدوى بكل تأكيد، تسبب لي شخصيا برعب حقيقي لما تحمله من مديات مرعبة، واستوجب رفع مستوى الحذر من الكورونا اللعينة، واخذ مزيد من الاحتياطات، وقد انعكس ذلك على جهودي المتعلقة بالتحذير من العدوى ونشر الوعي فبدلا من الاكتفاء بالتغريدات القصيرة الخجولة والمترددة، تحولت الى كتابة مقال سردي شبه يومي بعنوان " فالج لا تعاجل" تعبيرا عن الياس من واقع الحال الكوروني، ومحاولا لفت الانتباه بقوة كورونية الى مخاطر الجائحة ومحذرا من الوقوع في شركها وداعيا الى مزيد من الحذر والاخذ بالاحتياطات الوقائية.
لكن ما جرى لأسرة صديقي
Iyad Dweikat
الممتدة، وأطلعني عليها أولا بأول، وكتبت عن ذلك مقالا، كان في مجمله عبارة عن تفريغ امين لرسائل نصيه أرسلها لي، أوضحت بصورة غير مسبوقة وجه الكورونا البشع، فقد تسببت الكورنا في فقد عدد من احبته وحياة والدتة ما تزال على المحك في غرفة العناية المركزة، ولم يقتصر الامر على اعراض قاسية ومؤلمة، وهو وعلى شاكلة الأستاذ امين، كان صريحا وشجاعا وامينا في نقل الصورة عن تجربته الشخصية مع المرض، وما أصيبت به اسرته الممتدة، ولعل الناس تتعظ وتدرك حقيقة الخطر الذي يداهم البشر ككل. فكان كلامه وتجربته حاسما قطع به قول كل خطيب ومتفذلك ومنكر، ومتشكك، ومهون ومكذب وداعي لعدم القلق من الكورونا اللعينة.
فبمراجعة كل تلك الاحداث والحيثيات، وفي ضوء محاكمة الذات عند هذا المنعطف مطلع العام الجديد 2021 ومن اجل معرفة توجهات المستقبل خلال هذا العام، أقول بأن الواقع يؤشر الى ان الفايروس اللعين خطير للغاية، وهو يتسبب كل يوم بموت اعداد ليست قليلة من الناس، لكنه يصيب اعداد أكبر بكثير بتجارب الم غير مسبوقة، فصديقي
Waleed Dwaikat
ما يزال يعاني من صداع لا يطاق كما يقول حتى بعد خروج الفايروس من جسده بشهرين. واليوم يتضح ان الكثير من الإصابات تترك اثرا شبه قاتل لمدة زمنية طويلة، كما أشار الطبيب الممارس طهبوب.
وفي كل الأحوال ما علينا ان نعيه ونعمل بموجبه، وعلى رأي صديقي
Samir Alqot
الذي وصف لنا الفايروس في تعليقه على مقالي السابق بانه " خطير وقاتل وسريع التحور...والثابت أيضا في مواجهة هذا الوباء هو الاستمرار في اتخاذ اقصى درجات الحذر والإجراءات الوقائية المتبعة، والاهم تقوية جهاز المناعة بخطوات علمية".
وعليه وامام هذه المحكمة الموقرة، فإنني ابرء نفسي من تهمة التهويل والمبالغة والتسبب في التخويف وبث الرعب، بين الناس، بل انني أوجه اللوم الى نفسي، بأنني لم ابادر في وقت مبكر على نشر مقالات تفصيلية، كهذه لعلها، تساهم في بث الوعي وتحفيز الناس على اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لتجنب الإصابة ونشر الفايروس.
وعليه سيكون الحذر والتحذير ونشر الوعي بأقصى قوة واشد العبارات، واستمرار للجهود التي بذلتها خلال العام المنصرم هو خارطة طريق سأعمل بموجبها وفي ضوؤها خلال العام 2021.
وكل عام والجميع سالم من الكورونا اللعينة.
رفعت الجلسة.

***

- فالج لا تعالج: عندما يكون القمر بدرا... وتجتمع أسباب الجنون.

في الولايات المتحدة الأمريكية الجريمة منتشرة بشكل كبير. وكأن الناس في حالة حرب شوارع مستمرة، ولا يمكن ان يمر يوم دون سقوط عشرات القتلى والجرحى والاصابات، حتى ان عدد من قتلوا في حرب الشوارع يزيد عن الذين قتلوا في حرب فيتنام. بعض المدن يكون الوضع فيها شديد العنف، مثل شيكاغو ولوس انجلس مثلا. وهذه المدن تشهد أحيانا وفي اثناء الليل اشتباكات بالأسلحة الرشاشة فردية او بين عصابات منظمة.
واذكر انني يوم سافرت الى الولايات المتحدة، حضر الى مطار لوس انجلس لاستقبالي شخص من بيت لحم اسمه عادل الهريمي، وهو اخ زميل دراسة من جامعة بيت لحم اسمه عامر الهريمي، وقد اوصلني اليه زميل عمل في بنك برقان –الكويت، حيث كنت اعمل... يا لمحاسن الصدف!
وعندما خرجنا من المطار أبلغني عادل افندي، بأنه سيوصلني الى بيت اخاه خارج لوس انجلس، وقال ان السبب خطورة الشارع الذي يعيش فيه هو، في مدينة لوس انجلس خاصة اثناء الليل.
وفعلا اوصلني الى منزل اخاه عدنان جزاهم الله خير الجزاء، فلولاهم لربما أصبحت في خبر كان، فلقد كانت الصورة الذهنية عن الولايات المتحدة ومدنها مشوهة لدي، فقد كنت اظنها واحة امن وسلام وجنة عدن وشوراعها مفروشة بالذهب، فاذا بها نار حامية وفيها قتل وجرائم وحرب شوارع مستعرة.
المهم انني بعد ان وصلت الى منزل اخاه عدنان، جلست اشاهد التلفزيون بعض الوقت، وذلك رغم التعب والارهاق الشديد، فقد سافرت حينها من الكويت عبر مطار الملكة علياء، ثم الى أمستردام ثم نيويورك، ومنها الى لوس انجلس، في رحلة متواصلة استمرت زهاء 34 ساعة مع توقف قصير في مطاري الملكة علياء وامستردام.
وما شاهدته في التلفزيون في تلك الليلة هو الرعب بعينه. ولا اذكر إذا كانت نشرة اخبار محلية او هو تقرير اخباري، المهم ان المذيع أمضي وقت طويل وهو يعدد الجرائم التي كانت قد وقعت ذلك اليوم في لوس انجلس، ومن بينها كما اذكر حرق قصر لأمير سعودي او هكذا قيل في نشرة الاخبار وكان ذلك في 1/1/1980.
في اليوم التالي اوصلني المذكور عدنان مشكورا الى أصدقاء له، يسكنون في مكان قريب جدا من جامعة رفرسايد. ورفرسايد هذه تعتبر قرية صغيرة بالمقارنة مع لوس انجلس، والمفروض انها تكون أكثر هدوءا، وخالية من الجريمة، لكنها في تلك الأيام كانت تشهد سلسلة جرائم قتل يقوم مرتكبها بإلقاء ضحاياه بجانب الطريق السريع، فأطلقوا عليه اسم Highway serial killer أي قاتل الطريق السريع متعدد الضحايا.
امضيت في تلك المدينة ستة اشهر تقريبا، حيث التحقت ببرنامج اللغة هناك للطلاب الأجانب، وبعد ان انتهيت من البرنامج سافرت الى مدينة سان دياغو على الحدود المكسيكية ساعدني في ذلك شاب من اصل مكسيكي اسمه فكتور وقد اوصلني في سيارته الى سان دياغو ، لألتقي هناك صدفة بصديق وزميل واخ عزيز من جامعة بيت لحم ، وهو الدكتور نبيل كوكاليه، الذي كان بالنسبة لي مثل القشة التي انقذت الغريق.
ولم تكن سان دياغو افضل من لوس انجلس بالنسبة للجريمة، فقد كان عدد جرائم القتل يتراوح بين اثنان واربعة يوميا. وحيث انه المدينة مقسمة بواسطة طرق دائرية، مرقمة من 1 الى 100 ويمر الطريق الدائري الأول في منطقة قريبة جدا من وسط المدينة، فكان يعتبر هذا المكان الأخطر على الاطلاق، وكان يشهد حالة اشبه بمنع التجول قبل غروب الشمس بقليل، وكانت نسبة الجريمة تقل كلما ابتعدت عن المحور، وسط المدينة.
وقد سكنت انا في سكن الطلاب في شارع الكاهون بوليفارد وهو على الدائري 72 لكنه شهد مرة جريمة مروعة حيث قام شباب بإطلاق النار على شخص يقف على الإشارة الضوئية للتسلية كما علمنا لاحقا.
طبعا هناك أسباب عديدة لارتفاع نسبة الجريمة في الولايات المتحدة، سببها الأساسي الرأسمالية، وما تخلقه من ظلم وسلبيات، لكن الأسباب العديدة الأخرى تتمثل في المخدرات، والكحول، وانتشار السلاح، والظلم الاجتماعي، وتعدد الأعراق، والعنصرية، والمشاعر الفردية، والسباق المجنون والمحموم نحو تحقيق الحلم الأمريكي، دون وازع ديني او ضمير.
المهم ان أجهزة الشرطة المسؤولة عن ضبط الامن ومكافحة الجريمة، كانت تدرك من واقع التجربة المتراكمة والإحصاءات ان نسبة الجرائم ترتفع عندما يصبح القمر بدرا، وكانت تعلن ما يشبه حالة الطوارئ، فقد كانوا على قناعة وعلم ان التصرفات المجنونة تشتد في مثل تلك الليالي القمرية. وقد سألت يومها عن صحة هذا الكلام فأخبرت ان الأطباء النفسيين لديهم علم ودراية بذلك الامر ويتم التصرف بناء على توصياتهم، وتحذيراتهم.
هذه الليلة سمعت مع الغروب، عن الوضع الكارثي والفظيع الذي حل بمنطقة كفر عقب والذي أدى على ما يبدو الى عدد غير معروف حتى الان من القتلى والجرحى. وبعد المغرب بقليل وصلتني رسالة من صديق يقول فيها "طعن شرطي عند الدوار في نابلس"، ثم شاهدت شخص في فيدو انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، يقوم بعمل جنوني حيث يصدم بسيارته سيارة متوقفة على جانب الشارع في طولكرم.
ولكن الاحداث الكارثية لم تتوقف عند هذا الحد، فقد ورد خبر اخر عن شجار بين شبان في منطقة التعاون العلوي أدى الى إصابات وصلت المستشفى، ثم خبر اخر عن شجار في بيت فجار أدى الى حرق 6 سيارات.
وقد لفتت انتباهي تغريده لصديقي على الفيس Aref Thaher يقول فيها " يا رب يخلص هاليوم..مال العالم ركبها شيطان، استغفروا الله يا ناس، ويا بشر، وقبل ما اتكون عندك ردة فعل عد للعشرة".
وحيث انني شعرت بالكدر والضجر، خرجت من المنزل حوالي الساعة العاشرة، وانا أفكر في احتمالية الإصابة بالكورونا، فقد اتصل بي صديقي
ابو عصام عيسى
من بلدة بيتا، وأخبرني بأنه أصبح محاصرا تماما بالكورونا، فالاصابات في كل مكان، فاقترحت عليه اللجوء الى الجبل، وان ينتقل للعيش هناك، وينعزل عن الناس الى ما شاء الله، فأخبرني باستحالة ذلك لأنه لا سبيل لأقناع الزوجة بالانقطاع عن دواوينها اليومية، لو كان هناك عشر فيروسات وليس فايروس واحد، وخلص الى القول بأن سبب انتشار الفايروس هو النساء، واظنه محقا الى حد بعيد في ذلك.
اتجهت بسيارتي في هذه الأجواء الباردة والرياح الشرقية المستمرة منذ عدة أيام وهي الكفيلة لوحدها بأن تلف الانسان بمشاعر الكأبة والقرف، واتجهت الى الجبل المطل على العامرية، بهدف الوقوف قليلا، وتعديل المزاج، لكنني وجدت شخص يقف على المكان المعهود والذي تعودت الوقوف فيه، وهو المطل على الجهة الغربية، ارض 48، فاستمريت بالقيادة تجاه الشرق في الطريق الترابي، وإذا به بدرا مضيئا ومكتملا في الأفق الشرقي، فعرفت انه سر الجنون، ولوثات العقل التي اصابت الناس هذه الليلة والتي لم تنته بعد، وربما نفاجنأ صباحا بما هو أفظع من الذي سمعناه حتى الان.
وللأسف أقول بأن القادم من الأيام سيكون اسوا بكثير مما نحن فيه الان، وانا بهذا لست متشائما ولا حتى متشائلا، ولكنها قراءة استشرافية للواقع المرير، والناتج عن استمرار جائحة الكورنا اللعينة، وما تخلقه هذه الجائحة الكورونية من اضطرابات عقلية ومشاعر الكآبة، والخوف، كنتيجة لمجموعة الظروف النفسية والاقتصادية والصحية والاجتماعية التي تحصلت مع الايام وتراكمت، ويقع على راسها غياب الحميمية في التواصل، وانهيار نظام الدعم الاجتماعي، ويضاف الى ذلك الخوف من الإصابة بالعدوى وان ظل خفيا، وبالتالي الخوف من الموت والاعراض المؤلمة، إضافة الى استمرار الغموض فيما ستؤول اليه الأمور.
هذه لوحدها كافية لتفسير لوثات العقل والجنون... فما بالك ان صدق الفلكي الذي صرح بأن مطلع عام 2021 سيشهد تزاوج المشتري مع زحل، وهو كما قال امر يحصل مرة كل 800 عام، ويؤدي ذلك الى كوارث غير مسبوقة على الارض؟؟!! فما بالك إذا كان هذا التزاوج وما يفترض ان ينتج عنه صحيحا وحاصلا؟
ثم ما بالك فيما يمكن ان يحصل، وقد تجمعت لدينا كل أسباب الجنون المذكورة في الكورونا والبدر وتزواج زحل مع المشتري، في ليلة واحدة؟؟!!
الله يجيب العواقب سليمة.

***

- فالج لا تعالج: وحَلَّ الفزع الكوروني.

بتاريخ 2/1/2021 أرسل لي صديقي، ابن قرية مادما، الذي يسكن الولايات المتحدة سامر القط Samir Alqot
منشور صادر على الفيسبوك من ملتقى خريجي جامعة النجاح، فيه اعلان عن مرض الأستاذ غسان داود، وانه في حالة خطيرة، على أثر اصابته بفايروس كورونا، وعلق صديقي ادنى المنشور بدعاء هذا نصه" اللهم شافه وعافه...ذكريات رائعة مع المحاسب أبو داوود...في بداية كل فصل في جامعة النجاح...، كان يجب الالتقاء به من اجل دفع الرسوم الجامعية...مهني ودقيق في عمله...".
فهمت من الرسالة ان أقوم على نشرها لحث الناس على الدعاء للأستاذ في محنته، فقمت انا فورا بعمل مشاركة للمنشور، ودعوت له بالشفاء العاجل، ولعل ذلك يكون سنة حسنة يقتدي بها الاخرون، وفعلا انهمرت دعوات الشفاء للأستاذ الذي لا اعرفه شخصيا، ولم التق به ابدا، وطالت قائمة الذين تمنوا الشفاء للأستاذ حتى انني استغربت حب الناس له بتلك الدرجة، ومشاركتهم الغزيرة في الدعاء له.
لكنه وللأسف في صبيحة هذا اليوم انتقل الى رحمته تعالى، رحمه الله، ويبدو واضحا انه كان محبوبا من الجميع، وصاحب سيرة عطرة وحسنة، ودليل ذلك تلك المظاهرة الشعبية القوية التي تداعت لتطلب له الشفاء والتي شارك فيها الاف مؤلفة من الناس.
لكن للأسف وفي ظل هذا الفقد المفزع والمؤلم، نقول وما نيل المطالب بالتمني، ولكن لا بد من الانتباه لهذا الفايروس اللعين وتجنب الاصابة. فواضح انه إذا وقعت الفأس بالراس واستفحلت الإصابة فان الدعاء حتى الدعاء وليس فقط الدواء، لا ينفع معه، فالعبرة إذا في الوقاية وتجنب الإصابة اصلا.
انه امر مفزع حقا، فهذا فايروس لعين، قوي، وماكر، وفتاك، وهو مستمر في خطف مرضاه مسببا الفزع لمن يعرفهم ومن لا يعرفهم، على راي صديقي ، رائد أبو السعود
فهو رغم روحه المرحة، وميله الى المزاح والسخرية من الفايروس، وكان هذا هو حاله اثناء تواصلي معه في الأيام القليلة الماضية، لكنه اليوم يبدو في قمة التشاؤم والفزع.
ففي تغريده على صفحته على الفيسبوك كتب" لم ار في حياتي شيء مفزع أكثر من فكرة غياب الميت، اختفاؤه فجأة لمرة واحدة، هروبه السريع من الحياة، واستحالة عودته، ان العقل البشري بخلاياه الكثيرة وقدرته على الاستيعاب يقف عاجزا امام هذا الغياب، ولولا رحمة الله علينا، ولولا أيمنانا بأنه قدر الله، وعلينا الرضا به لجن عقلنا". وفي تغريدة أخرى كتب رائد أبو السعود" يا لطيف الموت كقعاص الغنم كما أخبرنا عليه الصلاة والسلام! بينما كتب في اخر تغريدة قبل ستة ساعات من هذه اللحظة، "ربما يفوت الأوان في كل شيء لكن لا يفوت ابدا أوان المرء في اصلاح نفسه".
ما غرد به رائد مؤشر على حالة فزع حتما، وانا اظن انه محق في فزعه، وقد بدى واضحا بأن الفايروس أصبح يخطف من الأحبة في كل حين، الصغير منهم والكبير، وكثر الموت، وليس في الأفق ما يمكن ردع هذا الفايروس، من الفتك في الناس، وهو مستمر في حربة الشرسة، ولا نعرف حقيقة من التالي.
والصحيح انني، وانا اتصفح الفيس هذا الصباح اصبت بدوري بالفزع، حينما وجدت منشورا من شاب لطيف من بلدتي اسمه رجا الجبر، وهو ابن 28 سنة، كما علمت اليوم، وهو ابن صديقي احمد الرجا، ورجا الجد صديق والدي الروح بالروح.
وهذا الشاب يسكن منطقة الرام، ويعمل هناك.
والصحيح انني لم التق به طوال حياتي، ولا اعرفه شخصيا لو التقيت به، لكنه منذ مدة قصيرة توقف في سيارته، وهو خارج من نابلس وفي طريقه الى رام الله عن طريق المربعة –تل-، حينما شاهدني، وانا امارس هواتي بصحبة الدكتور ماهر أبو كشك Dr.maher Abu Keshek
في المسير في درب المحبة، وكنا لحظتها عند المربعة تماما، ولا بد انه عرفني من عصاتي وطاقيتي وشطتني.
وبحكم القرابة والصحبة مع والده، وكونه من أصدقائي على الفيسبوك ومن متابعي فعاليات درب المحبة، مد يده وهو مبتسم ابتسامة عريضة من شباك سيارته لمصافحتي، ولأنني لم أكن اعرف من هو حتى تلك اللحظة، وخجلا من ان يتأثر ان رفضت مصافحته، تجاوبت معه فعلا وصافحته، وكان ذلك تجاوزا ودرأ لإحراجه، ولكنني وبمجرد ان غادر المكان، أخرجت علبة المعقم من الشنطة التي اضعها على ظهري، وقمت على تعقيم يدي، فلا مجال للاحتمالات مع هذه العدوى اللعينة، كما ان الدكتور ماهر لامني على تصرفي الارعن بالمصافحة.
نعم اصبت بالفزع من منشور الشاب رجا احمد، والذي يشتمل على صورته الشخصية وهو يضع الكمامة هذه المرة ويبدو علي وجهه التعب والارهاق، وكأنه شاخ عشرة سنوات، وفي جوار تلك الصورة نشر صورة للرئتين، وعلق على المنشور بما يلي" تحصنت بذي العزة والجبروت، واعتصمت برب الملكوت، وتوكلت على الحي الذي لا يموت، اللهم اصرف عني هذا الوباء، بلطفك يا لطيف، إنك على كل شيء قدير".
وأضاف بعد هذا الدعاء الموجع والذي يشيء بالفزع، بب شرح سبب الدعاء ولا غرابة ان كانت عدوى الكورونا طبعا فهي لم تعد تقتصر على كبار السن، فكتب يقول "وبعد المعاناة والعذاب من المرض والتعب وكثرة اخذ المسكنات التي كانت تؤخذ بدون عرفان سبب الهزلان الدائم وضيق النفس المستمر ودرجة الحرارة التي لا تقل عن الاربعون درجة...تدهورت حالتي ليكتشفوا مؤخرا ان السبب التهاب حاد في الرئتين وفي القصبات الهوائية".
انه فعلا امر مفزع، شاب لم يتجاوز الثلاثين من العمر، في صحة جيدة، تتدهور حالته الصحية الى هذا الحد فيلجا الى الدعاء وليت الكي ينفع مع الكورونا.
طبع انا لم اورد هذه الحكاية لكي الوم رجا على تقصيره مما أدى الى اصابته، فنحن لا نعرف ظروف اصابته اصلا، ولكنني أحببت ان اشير اليها هنا لتكون رسالة صارخة للشباب تحديدا، تقول لهم انكم لستم في مأمن من الإصابة بالعدوى الكورونية، والمرض. ولستم في مأمن من التعرض للألم الشديد والخطر الشديد، حالكم حال رجا وغيره الكثير من الشباب الذي اقعدهم المرض وفتك فيهم الما ووجع، فلا أحد محصن امام هذا الفايروس اللعين، وهو يفتك بمن ينكره ولا يسارع في مقاومته، ويتوانى عن علاجه، وقد يؤدي الى عواقب لا يحمد عقباها.
أيضا، واضح من كلام منشور رجا الجبر، وشرح الحالة، ان هناك تقصير طبي، فقوله ليكتشفوا مؤخرا انه التهاب حاد في الرئة والقصبة الهوائية تؤشر الى تأخر فاضح في العلاج.
والغريب ان هذه المعلومة أصبح يعرفها الجميع، فكيف تغيب عن الأطباء اذا صح الكلام؟! واذا كان رجا قد طلب العلاج ولم يتوان عن العلاج على افتراض انه شوية رشح وكمان يومين بتروح كما يفعل معظم الخلق! الا إذا لم يعد هناك أطباء قادرين على متابعة كل حالات الإصابة باهتمام، وهذا وارد فعدد الإصابات كبير جدا والارهاق ضارب اطنابه في الجهاز الطبي والشفلقة واردة.
والغريب أيضا ان لا يعرف رجا نفسه، ومن حوله بأن هذا المرض يستفحل إذا وصل الى الرئة، حتى دون انتظار رأي الاطباء، وان ارتفاع درجة الحرارة واستمرارها يكون على الاغلب بسبب وجود التهاب في الرئة.
ان تجربة رجا الجبر، هذا الشاب المحترم، قوي البنيان، ان هذه التجربة المريرة مع عدوى الكورنا، ما هي الا علم احمر في راسه نار، ونداء صارخ للجميع، وخاصة الذين ما يزالون ينكرون المرض، والذين لا يتخذون الإجراءات الوقائية لحماية أنفسهم من العدوى، وعدم نقل المرض القاتل للأخرين، وانه لا استثناء لاحد أين كان فلا أحد محصن ابدا.
ثم هي درس بليغ يستفاد منه في ضرورة عدم انكار الإصابة في حالة ظهور اية اعراض، وضرورة المسارعة في تلقي العلاج والحصول على الرعاية الطبية المناسبة والمباشرة والسريعة واللازمة، لمنع استفحال المرض، ومنع وصول الفايروس الى الرئة، حيث تصبح عملية العلاج طويلة وصعبة ومؤلمة.
وللأسف يبدو ان مثل هذه الواقعة تتكرر مع معظم الناس فالكل لا يريد ان يصدق انه يمكن ان يكون ضحية قد أصيب بالكورونا، رغم ان جميع المصابين تقريبا يدعون انهم كانوا يتخذون الإجراءات الكاملة ولكنهم لا يعرفون كيف وصل لهم الفايروس.
ان اعداد المصابين بالعدوى والذين يتألمون، إضافة الى اعداد الذين يسقطون ضحايا بهذه العدوى اللعينة، أصبح مفزعا حقا، ويدق ناقوس الخطر، وعلى الجميع الانتباه، والحذر والتصرف الصحيح والواجب. فلم يعد هناك مجال للظن وان بعض الظن اثم ومرض والم وربما موت.
وان لم تفعلوا فأذنوا باستمرار حرب الكورونا الشرسة، وتهيأوا لفزع عظيم.
وأخيرا اتضرع الى الله ان يشفى رجا احمد الجبر من هذا الوباء اللعين، وكل المرضى، وان يلطف بنا ويرفع البلاء عنا، انه سميع مجيب الدعوات.
وأتمنى على كل من يقرا هذا المقال الدعاء ل رجا بان يشفيه الله ، لانه اضحى في حالة يحتاج فيها الى مدد وعون السماء .
يا رب.

***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى