أ. د. السعيد الورقى - وجـــــوه مصطفى نصر

مصطفى نصر قصاص مبدع، حجم موهبته بقدر حجم إبداعه وربما أكثر اتساعا, قدم ولا يزال؛ العديد من الروايات والمجموعات القصصية, كل عمـــــل لــــه خصوصيته وملامحه وله تفرده مع إنها جميعا تتحرك في دائرة الرؤية الواقعية.
وواقعية مصطفى نصر واقعية متحركة ممتدة, تصدق عليها مقولة جارودى واقعية بلا ضفاف. قدم مصطفى نصر أعمالا تنتمي إلى الواقعية النقدية وأعمالا تنتمي إلى الواقعية الطبيعية التحليلية, كما قدم أعمالا تأخذ ببعض سمات الواقعية الاشتراكية. وكما قدم واقعية الرؤية الخارجية المصورة من منطقة الملاحظ المسجل؛ قدم واقعية الرؤية الداخلية التي تهتم بالواقع الداخلي للشخصية.
ومصطفى نصر في كل وجه من وجوه هذه الواقعية كان صادقا في الملائمة بين الموقف وعناصر الأداء والبناء بما يعكس حجم هذه الموهبة الطاغية.
ومصطفى نصر في إبداعه القصصي فنان متطور في رؤيته ومواقفه وفى أدواته السردية, فهو لم يقف عندما بدأ ليجود إبداعه ويعمقه ويقدم تنويعات لإعادة صياغة الموقف الأول؛ وإنما يمضى متجاوزا كل مرحلة ليقدم مرحلة جديدة لرؤية جديدة باستمرار.
لقد أسس مصطفى نصر واقعيته التي تتسع لكل شيءفي دائرة الماثل والممكن والمتصور, وأقام لكل واقعية جوها الفني والأدائي، فكانت واقعية بحق واقعية بلا ضفاف، وجوها متمايزة وقف لحظة بتأملها ليجمعها في مجموعته الأخيرة " وجوه "، لتكون وقفة تأمل ونظر في المرحلة التى قطعها وقدم فيها : " الصعود فوق جدار أملس،والشركاء، وجبل ناعسة، والاختيار, والهماميل, والجهينى، والنجعاوية، والإسكندرية 67، وليالي غربال، وغيرها.
***
وجوه مصطفى نصر هو أحدث أعماله القصصية وأنضجها فيما أرى, يضم الكتاب عددا من القصص القصيرة الذي يعتمد في بنائه على اللقطة الماهرة الذكية التي تذكرنا بلقطات يوسف إدريس، مواقف عابرة من مواقف الحياة التي ربما لا تستوقف أحدا، لكن الإبداع الفني وحده هو الذي يعطى لهذه المواقف المعاني الممتدة التي تغوص في أعماق نفوسنا فترينا المألوف جديدا والعادي فوق العادي، كما تعيد لهذه المواقف – بما تملكه من إثارة – كل أسباب الانبهار.
قصة " الاختيار الصعب" لحظة عابرة في موقف يمكن أن يتكرر في الحياة كثيرا، فزوجة الحلاق وقد مات عنها زوجها أبقت صبيه يدير المحل، فورثه بشكل غير شرعي، ظل يعمل كما كان وترسل إليه رتيبة الغداء كل يوم كما كانت تفعل في حياة زوجها، وفى المساء يحمل النقود والحلوى إلى رتيبة وابنتها التي تعلقت به، وعلى طريقة يوسف إدريس، ماذا يمنع من أن يحل محل معلمه في كل شيء، حيث تنهى رتيبة الموقف بقولها : " حلمي، تتزوجني؟ " ولك أن تتساءل بعد هذا الموقف الفلسفي، وماذا تكون الحياة غير هذا ؟ إصرار على الاستمرار من خلال تتالى الأجيال، فالموت لا يعنى التوقف إلا لمن رحل فقط. أما إرادة الحياة فأنها تندفع في استمرارها إلى الأمام.
القصة مثل سائر قصص المجموعة تتحرك في حيوية متدفقة، حركة الحياة نفسها، تموج بالحيوية والعلاقات واللمسات السحرية التي تحرك الشخصيات والمواقف حركة الحياة في إطار الموقف.
وفى قصة " اكتشاف " تعيد الزوجة اكتشاف موقع زوجها في وجودها، هذا الموقع الذي غاب بالعادة والنكران لغياب زوجها يوما واحدا من وجودهم عندما سافر للمشاركة في زواج شقيقته, هكذا تسير الحياة في رتابتها المحكومة بالتعود حتى يحدث فجأة شيء خارج إطار هذا المألوف, فتنكشف لنا أمور ومشاعر وعلاقات لم نكن نعطيها قدرها من الالتفات, أن علينا أن نسمح لأنفسنا بالوقوف المتأمل لنعيد اكتشاف علاقتنا ومشاعرنا.
وعلى هذا النحو تضئ قصص المجموعة لقطات ذكية دافئة بالعلاقات والمشاعر تتصفح وجوه الحياة لتقدم لنا رؤية متكاملة للعلاقات البشرية في حركتها وحيويتها.
**
ووجوه مصطفى نصر في مجموعته الأخيرة محطات لوجوه الرؤية الواقعية والتي مر بها إبداعه القصصي حتى الآن، فيقدم وجوها للواقعية النقدية في تركيزها على تلك المناطق المظلمة في حياة الإنسان والتي تحركها في الأغلب دوافع شريرة، كما يقدم وجوها من خلال رؤية واقعية تحليلية تستبطن المحركات والبواعث وراء الأفعال والعلاقات, ثم ينتقل إلى واقعية إنسانية تستمد تصوراتها من أفكار الواقعية الاشتراكية, وخلال تناول هذه الوجوه يتنقل من رصد الواقع الخارجي من منطقة الملاحظ المسجل وبين رصد الواقع الداخلي في تحركه وسيولته ومراوغته.
في قصة " هاتف من بعيد" يقتل عدلي خفير الشركة طعنا بالسكين لأن الأخير رفض أن يدخل عدلي السكاكين ليسنها في الشركة, فقد تضخم هذا الرفض حتى أصبح هما، وكان على عدلي أن يضع حدا لما رآه إهانــــة لــه أمام عمال الشركة، فقتل الخفير, الجزاء لا يساوى الفعل, ولكن الكاتب هنا أراد أن يبرز هذا الجانب المخيف في حياة الإنسان مع أن عدلي إنسان بسيط وخجول ومتدين ويتحدث في أدب جم وقلما تجد صوته عاليا كما وصفه الكاتب، إلا أن الإنسان إنسان، فيه الخير وفيه الشر، وربما كان الشر هو المحرك الحقيقي لأفعال الإنسان كما رأى الواقعيون التقدميون.
وفى قصة " الصوت الخافت " تطارد الحاجة إلى الرجل الزوجة التي مات عنها زوجها وهى شابة بعد، فتشعر بالقلق والتوتر الذي يحلله الكاتب بقوله: تداخلت الأصوات، رعد، ودقات طبول وكأنها طلقات مدافع, وأصوات بعيدة لحيوانات مفترسة تقترب منها كلما اقترب النوم من عينيها فتوقظها, لا حول ولا قوة إلا بالله, الليل طويل لا ينتهي, متى سيذهب ذلك الكابوس الذي يطاردها، فتنام – كما كانت – ملء جفنيها وترتاح " ويذهب الكابوس بمجيء أبى زيد شقيق زوجها ليتزوجها ويروى عطشها الظامئ، فتهدأ مع أنه كان يكلفها الكثير, فهو لا يعمل ويأكل كثيرا, لكنه رجل، وهى بحاجة إلى رجل, هكذا سيطرت الرؤية الواقعية النقدية على الوجه الأول من " هاتف من بعيد"، وسيطرت التحليلية الطبيعية على الوجه الثاني في " الصوت الخافت " أما الواقعية الإنسانية بتأملها في نبل الدفء الإنساني ولحظاته المتوهجة فهي السمة الأغلب لوجوه المجموعة، هي حلم " سيد ملك السودان " وتعاطف الرجل مع ربيبه رغم كل شيء في قصة"السؤال", ودمعة الزوجة المفتقدة لزوجها في " اكتشاف " وتعاطف الراوي بلا حدود مع صديقه في " الأستاذ ".
**
ومصطفى نصر حكاء ماهر, مخيلته مليئة بالمفاجآت المثيرة يقصها في سيولة عذبة تشعر معها بنقاء الفطرة التي جبلت على الحكى, وكاتب القصة الجيد لا يستطيع أن يكون ماهرا في الحكى والسرد إلا إذا كان مفطورا عليه، إلا إذا كان من هذا الصنف من الرجال الذين لا تمل سماع الأخبار من أفواههم، فهو ينقلك على جناح الخيال السحري إلى عوالم وحكايات توفر لك توازنا نفسيا أنت في مسيس الحاجة إليه، وتشبع لديك ظمأ التعرف والمعرفة التي تجعلك تعيش مغامرة الاكتشاف الجديد باستمرار.
والحكى عند مصطفى نصــــر لـــــه أسراره التي تدين للتقاليد الواقعية في السرد بالكثير، كما يعتمد على ما استبصره الكاتب من حرفيات خاصة في الصوغ والبناء.
اللحظة اللقطة أو الوجه كما أسماها الكاتب, هنا صورة وحركة وانفعال، وتسجيل سردي واستبطان داخلي، وحركة زمن ما بين اللحظة ألما وراء والأمام, انه تكنيك يستخدم كل ما عرفته القصة القصيرة من أبنية سردية، لكنه موظف بدقة ذكية، أجاد الكاتب صهرها وسبكها لتصبح شيئا جديدا، نرى فيه كل الحرفيات التي ألفناها لكن على نحو جديد يحمل شخصية الكاتب وموهبته وذكاءه الخاص.
تبدأ قصة " السؤال" بحوار بين رجل وامرأته، لا يلبث أن يتسع لحوار ثالث للطفل موضع الحوار بين الزوجين, الحوار يكشف عن غموض مقلق يهدد العلاقة بين الاثنين، كما يكشف عن طبيعة كل شخصية من الشخصيات الثلاث، ويستمر الحوار مع إطلالات على المنطق الداخلي لكل شخصية ليتكشف لنا الموقف أكثر، وليتعمق وعينا بالموقف والشخصيات, ثم يتوقف الحوار ليدخل السارد فيقدم المعلومات والعلاقات والزمن في تمدده وتداخله, ومن خلال هذا السرد نعرف أصل المشكلة وتطورها حتى وصلت إلى هذه اللحظة؛ لحظة الانفجار, لكن موقف السارد وتسجيله الذي يشبه دور المؤرخ لا يكفى لأننا هنا أمام حركة حياة وأمام علاقات اجتماعية, وهكذا تحول المؤلف إلى تقديم داخل كل شخصية من خلال رصده لمنطق الشخصية الداخلية وتتبعه للأجزاء غير المنطوقة من حوارها, ويمزج بين هذا الاستبطان وبين السرد الخارجي الشارح والمفسر والمعلق في حيوية يقظة حتى ينهى قصته كما بدأها بحوار, لكنه هنا حوار قدم الحل وقدم معه المعنى.
**
مجموعة " وجوه " للكاتب المبدع مصطفى نصر في رأيي, هي أفضل وأنضج ما قدم الكاتب من أعمال قصصية حتى الآن، فهي إلى جانب هذا النضج الملحوظ في الصياغة والبناء تمثل – كما قلت – وقفة أراد الكاتب أن تكون تلخيصا لمجمل رؤيته الفنية خلال رحلة إبداعه حتى الآن, من خلال تلك الوجوه متعددة الزوايا والأبعاد، فأنت لا ترى حين تنظر إلى وجه سوى زاوية واحدة فقط، أو قل سوى بعد واحد فقط، أما سائر الأبعاد فيمكن أن تكتمل ملامحها من خلال تعمق الوجوه, فهذا التعمق هو الكفيل بأن يقدم صورة متكاملة الأبعاد للإنسان، صاحب تلك الوجوه,

د. السعيد الورقي
رئيس قسم اللغة العربية بكلية آداب الإسكندرية (سابقا)




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى