مقتطف محمود شاهين - عديقي اليهودي (27) * عارف يرفض وسام اسرائيل ويتقبل وسام دولة فلسطين !

(27)

* كل قبلة تلقيتها من طفل اسرائيلي هي بمثابة وسام لي.

امتلأ البيت والساحة أمامه بعشرات باقات الورود التي أحضرتها سارة والأقارب من المستشفى. ولم يسترح عارف نذيرالحق إلا ليوم واحد حتى توافد المهنئون من أبناء القدس والسواحرة وأبوديس والعيزرية على بيته . لم يكن هناك مكان يتسع للمهنئين ، فكان معظمهم ينصرفون ليقفوا في الخارج لبعض الوقت أو يغادرون ، بعد مصافحة عارف وتناول القهوة المرّة التي كان يقدمها أحد أبناء أخوة عارف ، ليسمحوا لآخرين بالدخول . سارة ارهقت إلى حد كبير رغم مساعدة شقيقة علي ( ثريا) لها في تنظيم دخول الوافدين ، حتى لا يأخذ وفد دور وفد آخر. كانت سارة قد أحضرت هاتفا جديدا لعارف بدلا من الهاتف الذي أتلفته مياه الفيضان، وتولت هي الرد على المكالمات . وحين اتصل أحد أصدقائها من حركة السلام الآن للقدوم مع وفد لتهنئة عارف ، استشارت عارف، قال لها" حددي لهم وقتا بعد الساعة الثانية ظهرا، واخبريهم أنهم سيتناولون الغداء معنا ، ولا تنسي أن تتصلي بأبيك وأمك ليحضرا أيضا "

أحس عارف بتعبها . نادى ثريا " أين بنات أعمامك وعماتك يا عمو. سارة تعبت ويكفيها الرد على الهواتف "

- حاضر عمو

وسارعت إلى الإتصال باثنتين من بنات أعمامها .

لم تمر سوى دقائق حتى حضرت خمس فتيات .. وأحضر أبناء آخرون كراس ومناضد ووضعوها في الساحة أمام البيت لمن يود البقاء من المهنئين .

جلست سارة في مكتب عارف لتتولى الرد على المكالمات وتنظيم قدوم المهنئين . رن الهاتف.. كان عارف يتحدث إلى وفد يمثل الطوائف المسيحية في القدس وفلسطين . لم تعتذر سارة كما في معظم المرات ، مؤكدة أنه ليس في مقدور الأستاذ عارف أن يرد الآن على مكالمات . لكن بإمكانكم أن تقولوا ماذا تريدون؟"

فوجئت حين هتف الطالب مؤكدا :

" معك مدير مكتب رئيس دولة اسرائيل . يجب التحدث إلى بروفيسور! عارف "

نهضت سارة وخطت إلى أن وقفت بباب الصالون : " عفوا "

كان عارف يتحدث إلى الوفد عن المحبة الإنسانية التي أتى بها رسول المحبة " يسوع المسيح " في زمن أقرب إلى زمننا كثر فيه الغزاة وعمت الحروب وانتشر القتل ، دون أن تتحقق رسالة المسيح في المحبة والسلام حتى يومنا .

اعتذر عارف من الوفد ليرى ما الأمر . نظر إلى سارة .

- ما الأمر؟

- مدير مكتب رئيس دولة اسرائيل على الخط ويصر على التحدث إليك !

فكّر عارف للحظات وما لبث أن تكلم :

- قولي له أنني لن أتكلم معه ، فإما أن يتكلم معك وإما لا !

خاطبت سارة مدير المكتب بعبرية فصيحة مترجمة ما قاله عارف.

قال الآخر بعد لحظات :

" لقد قررت دولة اسرائيل منح وسام الدولة للبروفيسورعارف نذيرالحق تكريما له لما أبداه من تضحية بنفسه لإنقاذ الأطفال الإسرائيليين "

ترجمت سارة لعارف.

أطرق عارف للحظات وما لبث أن هتف لتترجم سارة ما يقوله حرفيا :

" لن أسمح لدولة تقتل الأطفال بأن تسلب القبل التي تلقيتها من الأطفال الإسرائيليين . إن كل قبلة تلقيتها منهم هي بمثابة وسام شرف أعتز به .. إن كنتم جادين حقاً في اقامة وطن يسوده السلام ، فتوقفوا عن قتل الأطفال الفلسطينيين وهدم البيوت ، وارفعوا الظلم عن الفلسطينيين ، واهدموا جدار الفصل العنصري البغيض الذي بنيتموه، واطلقوا سراح السجناء الفلسطينيين ، وأوقفوا بناء المستوطنات ، واشرعوا في مفاوضات جديّة وحقيقية من أجل سلام دائم ، وليس من أجل إدارة صراع إلى الأبد ، لنظل نعيش في عصر يوشع قاتل سكان أريحا ، وعصر داود وجليّات ، وعصر شمشون ، تلك العصورالتي كانت وما تزال تمتد فينا على أيدي دولتكم "

وأشار عارف إلى سارة أن تقفل الخط ، وراح يعتذر من وفد الطوائف المسيحية ، الذي أثنى على ما سمعه من رد على مدير مكتب رئيس الدولة .

استقبل عارف بعد ذلك وفدا من كتاب البلدة ، وفيما كان يتحدث إلى الوفد مشيدا بما أبدعه الكتاب والأدباء

مشيرا إلى ضرورة تعميق الرؤية في كتاباتهم لتشمل كافة مناحي الحياة الاجتماعية ، دخلت سارة مستأذنة :

" مدير مكتب الرئيس الفلسطيني على الخط "

اعتذر عارف من وفد الأدباء ليأخذ الهاتف ويجيب:

- أهلا عزيزي .

- سيادة الرئيس قرر منحكم وسام دولة فلسطين إكراما لما قمتم به من عمل انساني عظيم ، ولدوركم الرائد في الثقافة الفلسطينية .

- جزيل شكري وامتناني للسيد الرئيس ولكم.

- سنخبركم لا حقا بموعد اللقاء بالسيد الرئيس وتقلد الوسام .

- تشكر عزيزي

شرع وفد الكتاب في تقديم التهاني ما أن عرف بالأمر .

كان وفد الكتاب آخر المهنئين بسلامة عارف . استرخى عارف في الأريكة ماددا رجليه على طولهما . سارة استرخت بدورها .. كانت ثريا تقف بباب الصالون .. سألها :

- كم بقي من الناس في الخارج يا عمو ؟

- قرابة مائة وخمسين !

- أمل أن يكون علي قد فعل ما طلبت إليه !

- ذبح عشرة خراف يا عمو وتقوم بعض نساء العائلة بالطهي والخبز .

- يعطيهن العافية يا عمو .

****

أعلنت ثريا عن وصول رجل يدعى يعقوب ترافقه سيدتان !

- ليتفضلوا يا عمو.

هتف عارف ونهض هو وسارة لاستقبالهم .

عانق عارف يعقوب بحرارة ، ثم قدّم يعقوب راحيل ويوئيلا للمرة الثانية. صافحهما عارف. عانقت سارة أبويها ويوئيلا. وما أن جلسوا حتى تحدث يعقوب :

- أعتذر لأنني أتيت بيوئيلا دون اذن منكم !

- أنت تمون يا عزيزي !

- يوئيلا خطيبة شيمون ، وأهم ما فيها أنها تحب أصلها كمصرية ، وآخر انجاز لها أنها ساعدتنا بالضغط على شيمون ليعامل فصيله المتظاهرين الفلسطينيين بمنتهى اللطف والأدب ، ونجحت في ذلك .

- هذا انجاز عظيم !

عقب عارف.

- وهذه زوجتي راحيل . راحيل اليوم ليست راحيل ما قبل الفيضان ، حتى بعد أن عرفت بعلاقة سارة بكم ، فلم تكن راضية عنها ، أما بعد الفيضان فقد انقلب موقفها إلى نقيضة .

- أهلا بك سيدة راحيل . ونأمل أن ننال أنا وسارة رضاك !

تدخل يعقوب قائلا :

- أنا واثق من أنها راضية ولم يبق أمامها إلا أن تبارككما !

- باب ألا ترى أنك تصادر حق مام في التكلم عن نفسها !

- أعرف أنها خجولة ساراي !

- ليس إلى الحد الذي تتصوره . تفضلي مام . أريد مباركتك لي ولعارف ، علما أنني كنت المبادرة إلى هذه العلاقة التي تحولت إلى حب غير قابل للإنفصام مهما حدث ، ويمكن القول أنني فرضت الأمرعليه ، لكنه اشترط أن يكون حبنا عذريا ! ونحن كذلك الآن !

- أعرف يا ابنتي أننا أنشأناكما أنت وشيمون على الحريّة رغم قيود الدين الكثيرة . ولم نتدخل في حياتكما منذ أن أنهيتما دراستكما. ليبارككما الرب مهما كان نوع حبكما .

نهضت سارة وعانقت أمها بحرارة . ونهض عارف ليعانق راحيل بدوره . وأعلن يعقوب بدوره عن مباركته لهما ، فعانقاه .

قدمت ثريا للإعلان عن وصول وفد حركة السلام الآن ، عشرة شباب وعشر نساء. نهض عارف وسارة لاستقبالهم .. كانت سارة تعرفهم جميعا لمشاركتها معهم من قبل في نشاطات سياسية مؤيدة للفلسطينيين ، فراحت تقدمهم إلى عارف، ليعانقوه جميعا ..

ما أن جلسوا حتى شرع رئيس الوفد في الكلام :

- إنه لمن دواعي سرورنا أن نقدم لكم باسم مئات الآلاف من أعضاء حركة السلام ومؤيديهم، أحر التهاني بشفائكم ، والثناء على ما قمتم به من تضحية عظيمة ومعجزة لإنقاذ عشرات الأطفال الإسرائيليين ، من الغرق والموت .

إنّ الزلزال الذي أحدثتموه في المجتمع الإسرائيلي دفع عشرات الآلاف إلى الإنضمام لحركة السلام الآن ، أو التعاطف معها أو انتهاج نهجها، وهو ما لم تستطع حركة السلام تحقيقه خلال ما يقرب من أربعين عاما من عمرها .. وأنه لأمر مؤسف أن يزداد اليمين توسعا وهيمنة على الدولة والمجتمع ، دون أن يتحقق ولو الحد الأدنى مما تطمح إليه شالوم أخشاف.

سنحاول تنظيم أكبر تظاهرة في تاريخ اسرائيل خلال الأيام القادمة ، ترفع شعارات السلام والدخول في مفاوضات جديّة لتحقيقه ، ووقف الإستيطان وهدم البيوت وإلغاء تقسيم المناطق وما إلى ذلك . عدا عن اللافتات التي سترفع بوحي من عملكم الإنساني ، داعية إلى المحبة والتسامح وإقامة السلام بين الشعبين.

ونود أن نلفت انتباهكم إلى أنه بقدرما أسفرت عنه تضحيتكم بأنفسكم لإنقاذ الأطفال من إيجاد مئات آلاف المؤيدين للسلام ، نبهت بالقدر نفسه مئات الآلاف من المعادين للسلام والحرية ، بما في ذلك حريّة الفكر والمعتقد والرأي . إن حياة سيادتكم معرضة اليوم للخطر أكثر من أي وقت مضى ، ومن قبل الطرفين المتخاصمين ومن يقدم لهم الدعم والتأييد، وإن كان الخطرفي الجانب الإسرائلي قد يكون أكثر منه في الجانب العربي . فتنبهوا لأنفسكم يا سيدي .. مع تمنياتنا لكم بالسلامة وطول العمر، ودمتم للمحبة والسلام والفكروالمعرفة .

وقام عارف بالرد على كلمة رئيس الوفد قائلا :

- أشكر سيادتكم وكافة أعضاء حركة السلام الآن لهذه الحفاوة البالغة التي أحطتموني بها ، وإنني لأنتهز هذه الفرصة ، لأتقدم من كل عضو وعضوة في حركة السلام بخالص تحياتي ومحبتي ، داعيا إياهم إلى عدم اليأس مهما واجهتهم صعاب وعقبات .. وإني لأكاد أرى رايات السلام تخفق في أعالي روابي بلادنا . إن زمن الظلم لن يدوم . انظروا إلى شعب جنوب افريقيا كيف تصالح وحقق وحدته وسلامه بعد طول قهر وتعسف . فهل نحن أقل منه ثقافة، وطموحا إلى التصالح وإقامة السلام فيما بيننا ، لتعيش الأجيال بعدنا في عالم تسوده المحبة والتعاون بدلا من نزعات الشر والتعصب والعدوانية .

أما فيما يتعلق بالخطر المحدق بي أيها الأصدقاء.. فلا أظن إن نجح الخصوم في قتلي أن ينجحوا في إطفاء الشعلة التي أججت اتقادها .. وما أعتقده أنها ستتأجج أكثر، وعليكم أنتم تزيدوا من هذا التأجج ليصبح جحيما قد تلتهم كل من يقف في طريقها. وفقنا الخالق العظيم ووفق البشرية، وأرشدها طرق الصّواب ، لتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال، وبناء الحضارة الإنسانية ، جلّ ما يطمح إليه الخالق .

شرع الحاضرون والمتجمهرون خلف الباب وفي الخارج بالتصفيق . وأعلنت ثريا أن طعام الغداء قد أصبح جاهزا.

أحضرثلاثون شابا وشابة ثلاثين منسفا من اللحم والأرز والثريد ، كانوا يحملونها على رؤوسهم . فردوها على موائد كثيرة في الساحة ، ودعا عارف جميع الحضور إلى طعام الغداء .

******

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى